متون الأهرام: أن تضمن للملك الخلود حيًا وميتًا
في مكان ما يقع في صحراء العاصمة الفرعونية منف (سقارة الآن)، دشّن «أوناس» آخر ملوك الأسرة الخامسة هرمًا ليكون مستقره الأخير في رحلته إلى العالم الآخر، ولهذا بالغ في العناية به ووضع جواره كل ما تخيّل أنه سيحتاج في هذه الرحلة الوعرة، ومن ضمنها كتابات على الجدران حملت وصايا جنائزية طقوسية اعتبرها الفراعنة أهم زاد على مسافر تلك الرحلات أن يستعين به.
بالتأكيد لم يكن ليدور في خلد «أوناس» حينها، أن هذه الكتابات ستُخلّد اسمه في سجلات التاريخ كصاحب أقدم نص ديني عرفته البشرية، وأن مغنية مصرية ستشدو بأجزاءٍ من هذه النصوص في حفلٍ أبهر العالم.
هذا الخلود الذي حصلت عليه نصوص «أوناس» وغيره من ملوك الفراعنة يدينون بالفضل فيها إلى شاب فرنسي وُلِد بعد «أوناس» بـ4500 عام. هذا الشاب الفرنسي المُنحدر من أبوين إيطاليين، يُدعى «جاستون ماسبيرو».
ماسبيرو: حلاَّل الأحاجي
ما أن أتمَّ جاستون ماسبيرو عامه الـ14 حتى أبدى ميولاً شديدة الاختلاف عن بقية أقرانه، وهي الاهتمام بالتاريخ المصري القديم، وفي أحد الأيام وبينما كان لا يزال طالبًا في مدرسة école normale supérieure، تعرّف على عالم المصريات الشهير «أوجست مارييت»، ودار بينهما حديث طويل حول اللغة المصرية القديمة.
آنَس مارييت في ماسبيرو شغفًا بالمصريات فأودع في عُهدته نصين مُكتشفين حديثًا ورحل عنه، وبعد 8 أيام فوجئ جاستون بماسبيرو يخطره بأنه ترجم النَّصين!
واعتُبرت هذه الحادثة بداية لشيوع اسم ماسبيرو وسط علماء الآثار.
ولم تكن مهمة ترجمة النصين الفرعونيين بالعسيرة على جاستون، فلقد خلبّت اللغة المصرية القديمة لبه حتى أنه اعتاد أن يذهب إلى ميدان الكونكورد Place de la Concorde ليقرأ المكتوب على المسلة الفرعونية القائمة في وسطه، كما اعتاد الذهاب إلى متحف اللوفر ليتابع كل جديد يصل عن الاكتشافات الحديثة. كان جاستون على استعداد لفِعل أي شيء يُقرّبه من الحضارة المصرية حتى أنه تعلّم اللغة العربية حتى يسهل عليه التواصل مع أصحاب الأرض.
في سن العشرين، أصبح أستاذًا في Egyptoloy Ecole des Hautes Etudes، وتدرج في الدرجات العلمية حتى حصل على الدكتوراه، وهو لا يزال في السابعة والعشرين من عُمره.
في عام 1881م، وبينما كان ماسبيرو في عُمر الـ34، تحقق حلمه أخيرًا بزيارة تلك البلاد التي شغف بتاريخها من صغره، رحل إلى مصر ليلتحق بأستاذه «مارييت»، لكنه صُدم بوفاته عقب وصوله بأيامٍ وجيزة، فعين كرئيس للبعثة الأثرية الفرنسية في مصر، ورئيسًا لمصلحة الآثار المصرية، وأمين المتحف المصري في بولاق.
استكمل ماسبيرو أعمال التنقيب التي كان يقوم بها «مارييت» في سقارة، حتى اكتشف هرمين يرجعان إلى عصر «الأسرة السادسة»، هما: هرم «مرن رع»، وهرم «بيبي الأول». ما أن دخل ماسبيرو الهرمين حتى شاهد تلك النقوش المكتوبة بالهيروغليفي (أحد خطوط اللغة المصرية القديمة) في تناسق وتناغم مدهش، فعلم أنه عثر على كنزٍ لا يُقدّر بثمن، اجتهد في تصويره، وكان هذا هو لقاؤه الأول بتلك النصوص التاريخية التي عُرفت لاحقًا بلقب «متون الأهرام».
نسخ ماسبيرو من جدران الهرمين 4 آلاف سطر، بذل جهودًا مُضينة طوال 12 عامًا لترجمتها، وصدرت الطبعة الأولى من «متون الأهرام» عام 1894م، وحققت نجاحًا ساحقًا وصدى كبيرًا في علم المصريات لأنها كانت المرة الأولى التي نتعرّف فيها بشكل واضح عن الطقوس الدينية في مصر القديمة، وتداولها علماء المصريات باللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية، وفتحت الباب للعديد من الدراسات اللاحقة التي اتبعت نهج ماسبيرو، في تحقيق وتدقيق نقوش الأهرامات.
نسخ ماسبيرو من جدران الهرمين 4 آلاف سطر، بذل جهودًا مُضينة طوال 12 عامًا لترجمتها، وصدرت الطبعة الأولى من «متون الأهرام» عام 1894م، وحققت نجاحًا ساحقًا وصدى كبيرًا في علم المصريات لأنها كانت المرة الأولى التي نتعرّف فيها بشكل واضح عن الطقوس الدينية في مصر القديمة، وتداولها علماء المصريات باللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية، وفتحت الباب للعديد من الدراسات اللاحقة التي اتبعت نهج ماسبيرو، في تحقيق وتدقيق نقوش الأهرامات.
متون الأهرام
كان لجاستون فضل السبق في العناية بنقوش جدران الأهرام، وهو باب المعرفة الذي فتحه ولا يزال يخضع للزيادة حتى الآن كلما توصّل المكتشفون لهرمٍ جديد، كل هذه النقوش بدت في عيون الأثريين كقطع صغيرة من أحجية كبرى، كلما ظهرت واحدة منها انكشفت المزيد من الألغاز، وزادت قُدرتنا على المعرفة أكثر.
بعد الهرمين اكتشف جاستون 3 أهرامات أخرى أضاف نصوصها إلى «متون الأهرام»، فاتحًا الباب لغيره مِمّن واصلوا الاكتشافات وحللوا المزيد من النقوش، وبفضل هذه الجهود بلغ عدد الأهرامات التي أضيفت نصوصها إلى «المتون» 10 أهرامات، كان أبرزهم العالم المصري سليم حسن، مُكتشف هرم الملك «أوناس».
وفي النهاية أسفرت جهود جاسون ومن أتوا خلفه في إنتاج أول نص كتابي ممتد في تاريخ الإنسان، وذلك لأن العلماء اكتشفوا أن هذه الكتابات الفرعونية تُكمل بعضها كأحجية، وإن نُقشت على أهرامات مختلفة، تجعلها كلها تُكمل بعضها بعضًا.
ولهذا أجرى عليها الباحثون تقسيمًا كُليًا صنّفها إلى 5 مجموعات أساسية، هي: النصوص السحرية – النصوص الدرامية – الترانيم – الابتهالات والمدائح – نصوص البعث، ولاحقًا أصبحت هذه المجموعات النصّية المصدر الرئيسي للنصوص الدينية الأخرى التي عرفناها عن مصر القديمة، وهي: «نصوص التوابيت « في عصر الدولة الوسطى، «كتاب الموتى» و«كتاب العالم الآخر» في عصر الدولة الحديثة.
الكلام الذي يُقال
تحكي لنا النصوص على هذه الجدران عن «العالم الآخر»، كما تخيله الفراعنة، فشرحت رحلة الملك إلى هناك، ووصفت الأماكن التي سيمرُّ بها خلال الرحلة، وكيف يكون استقباله.
كما تحدثت عن رحلته على مركب الشمس ليلتحق بالإله «رع»، وكيف سيتجسد مثل «أوزوريس» ليُبعث كملك من جديد، وعن وصوله إلى حقول «الإيارو» التي يعيش بها الصالحون في نعيم دائم في الحياة الأخرى، كما تحكي عن بعض لحظات حياة الملك قبل موته وتصف قصره وتتحدث عن أحوال رعيته.
ويعتقد الباحثون أن الوظيفة الأساسية لهذه النصوص هو إعداد الملك بكل ما سيحتاجه في رحلته إلى العالم الآخر من أسلحة وملابس وأدوات وتعاويذ تقيه أي مخاطر قد يتعرّض لها من الحيوانات المفترسة والمرض والجوع، هذه الحماية وصلت بالفنان المصري إلى نقشه الرموز الحيوانية والإنسانية بشكلٍ غير كامل، كنوع من الحماية حتى لا تتحول إلى وحوش أو بشر معادين يشكلون أي تهديد وخطر للملك المتوفى.
ولهذا تكررت فيها عبارة «الكلام الذي يُقال»، وكأنها تُلقن الملك العبارات التي سيحتاجها من أجل عبور هذه المراحل الصعبة من حياته، مثل: الكلام الذي يقال في الصعود إلى السماء ـ الكلام الذي يقال في السفر في مركب الشمس – الكلام الذي يقال في تناول الطعام مع الآلهة )، حتى يتمكن الملك المتوفي لضمان نجاحه في رحلته.
الأحفاد يقرأونها أخيرًا
للأسف، لم يستطع المصريون قراءة هذه المتون على مدار عشرات السنين، فبالرغم من أهميتها الهائلة لم تُترجم إلى العربية إلا مؤخرًا. وفي عام 1999م نشرت دار الشروق رواية «متون الأهرام» للأديب الراحل جمال الغيطاني، لكنها كانت رواية أدبية ولم تعتنِ بترجمة النصوص.
وفي عام 2002م، نشر المشروع القومي للترجمة التابع للمجلس الأعلى للثقافة المصري، كتابًا حمل عنوان «متون الأهرامات المصرية القديمة»، ترجمة حسن صابر، وهو أول نسخة عربية تنشر لمتون الأهرام. شرحت هذه النسخة نصوص هرم الملك «أوناس» من الأسرة الخامسة، وهرم الملك «تيتي» من الأسرة السادسة، وبالرغم من أهميته فإنه ليس عملاً أكاديميًا ولم يُشكل إضافة لحصيلة معرفة الباحثين المصريين بالتاريخ الفرعوني، فالكتاب خالٍ من النصوص المصرية القديمة الأصلية قبل الترجمة، وليس به تعليقات لغوية أو هوامش أو أرقام، كما أنه ترك أجزاءً كبيرة من النصوص بلا ترجمة، بسبب صعوبة المهمة.
وفي العام الماضي 2020م، ظهرت أخيرًا الترجمة العربية الأولى لـ«متون الأهرام» على يدي الباحث شريف الصيفي، ليُتوِّج مسيرته السابقة في ترجمة النصوص الدينية المصرية القديمة، بعد ما نشر سابقًا كتابه «الخروج إلى النهار»، والذي تضمّن كثيرًا من محتويات كتاب الموتى.
أسلوب شريف الصيفي في الترجمة مُفصَّل وواضح، فهو يكتب النص ومكانه وترجمته بالعربية شكل واضح، وهي إضافة مهمة لمكتبنا العربية، ومكّن الأحفاد أخيرًا من مُطالعة تراث أجدادهم.
- The Journal of Egyptian Archaeology Vol. 3, No. 4, 1916
- The ancient Egyptian pyramid texts , [translated] by James P. Allen. 2005
- متون الأهرام المصرية القديمة، ترجمة حسن صابر، 2002