لعل متابعي البرامج الوثائقية الأمريكية يعرفون البرنامج الشهير «Unsolved Mysteries»، والترجمة الحرفية للعنوان هي «غموض لم يتم حله». البرنامج يُعرَض بنجاح منذ عام 1987 حتى اليوم، حيث وصل إلى الموسم الـ15 وتجاوز عدد حلقاته 500 حلقة، وتناوبت على عرضه أشهر المحطات الأمريكية، مثل «NBC» و«CBS». وشهد عام 2017 انتقاله إلى موقع «يوتيوب»، وافتتاح قناة خاصة به، وسيره باتجاه مزيد من التفاعلية، حيث يمكن للناس المساهمة باقتراح حوادث غامضة ليتناولها البرنامج بالبحث. ثم استلمته منذ بداية عام 2019 شبكة «نتفليكس»، وعُرضت أولى حلقات الموسم الجديد في شهر يوليو/تموز الفائت من عام 2020.

يتشابه هذا البرنامج بالاسم مع الكتاب الذي سنتناوله في هذا المقال. فنحن سنتحدث عن كتاب صدر عام 2000 تحت عنوان «Unsolved mysteries of History»، من تأليف «بول آرون»، ونقلته إلى العربية مؤسسة هنداوي عام 2015، واختارت له عنوان «ألغاز تاريخية محيرة». يتناول الكتاب 25 قصة تاريخية، صيغت عناوينها على شكل أسئلة مشوقة، وقد تبدو صادمة في بعض الأحيان، نذكر منها على سبيل المثال:

  • هل وقعت حرب طروادة بالفعل؟
  • هل صُلب المسيح؟
  • لماذا انهارت حضارة المايا؟
  • منْ مخترع الطباعة؟
  • منْ كتب مسرحيات شكسبير؟
  • هل كان من الممكن إنقاذ التايتانيك؟

يعتبر «بول آرون» من كبار المحررين في مؤسسة كولونيال ويليامزبيرغ، وهو معهد تعليمي خاص وغير ربحي. وقد عمل سابقاً مراسلاً لصحيفة «The Virginia gazette»، ومحرراً تنفيذياً في دار نشر «Simon and Schuster»، ودار نشر دابل داي.

وبالاطلاع على المؤلفات الأخرى للكاتب، نجد أنه يكاد يكون مُتخصصاً في مثل هذه النوعية من الكتب، فقد ولج عالم الكتابة منذ عام 1997، حيث ابتدأ مشواره بكتاب يتحدث عن الغموض الذي يشوب تاريخ الولايات المتحدة في الـ500 سنة الأخيرة. ويبدو أن الكتاب لاقى رواجاً جيداً، فأتبعه بجزء ثانٍ عام 2004، تحت عنوان «More unsolved mysteries of American history»، أو «المزيد من الألغاز المحيرة من تاريخ أمريكا».

المؤرخون يصلحون مخبرين رائعين

تُعاني كتب التاريخ بالعموم من عيبين رئيسيين: العيب الأول هو الجفاف، أي طريقة السرد البعيدة كل البعد عن أي مهارة في الكتابة أو بذل أي مجهود لإعطاء الموضوع متعة تشويقية ولو في حدها الأدنى.

من أهم ما تجدر الإشادة به في كتاب «ألغاز تاريخية محيرة»، هو الأسلوب المشوق والسلس في الكتابة. فإن كانت الكتب التاريخية عموماً، وحتى الروايات التاريخية في بعض الأحيان، تتسم بالثقل ويصعب إكمال قراءتها، حتى للقرّاء المتمرسين ناهيك عن بقية الناس، فإننا نشهد لـ«بول آرون» قدرته على كتابة 240 صفحة من التاريخ، دون أن يشعر القارئ بلحظة ملل واحدة. ونقتبس هنا من الكتاب الجملة التالية:

إليك الافتراض المنطقي الذي يقوم عليه هذا الكتاب: المؤرخون يصلحون مخبرين رائعين، والتاريخ مليء بالقصص البوليسية العظيمة.

فالكاتب هنا كان مخبراً رائعاً، ولدينا في الكتاب أربعة فصول تحدثت عن جرائم قتل، لكن القصص التاريخية التي سردها جاءت أفضل من القصص البوليسية، لأنها كانت إنسانية، وهناك كثير من الدلائل التي تشهد على صحة وقوعها.

العيب الثاني من عيوب كتب التاريخ هو الانحياز الفاضح إلى الطرف الذي يميل إليه المؤرخ، وإغفال ذكر كل ما قد يشير إلى نقائصه. لو دخلت إلى أي مكتبة، حكومية أو جامعية أو تجارية، أو حتى إلى موقع إلكتروني مختص بالكتب، وحاولت إلقاء نظرة على قسم التاريخ، فعلى الأغلب أنك ستجد معظم العناوين– إن لم تكن كلها- أبعد ما تكون عن الحياد، فهي إمّا مادحة أو ذامّة.

حتى من يدعي الحياد من المؤرخين، يمكن بكل سهولة لأي ناقد أن يمسك قلماً أحمر، ويضع خطوطاً تحت عشرات الكلمات والفقرات المؤدلجة، التي يحسبها المؤرخ حقيقة مطلقة، لبعده التام عن مفهوم الحيادية، أو ربما لاعتباره الحيادية نفاقاً.

ليس فقط بدوره كمؤرخ تقتصر مهمته على نقل الأحداث بأمانة، وإنما بانتفاء الحقيقة المطلقة، كون كل إنسان منّا يرى المشهد من وجهة نظره. ولو سَلِم أي كتاب من أحد العيبين فلن يسلم من الآخر، وسيخرج أعرجَ في أحسن الأحوال.

هنا تكمن الميزة الثانية لكتاب «ألغاز تاريخية محيرة»، فهو يسير على الشاكلة التالية: يروي المؤلف القصة المتعارف عليها، التي يعرفها معظم الناس، أو على الأقل المثقفون منهم، وغالباً ما تكون هي القصة التي تُدرَّس في المناهج الدراسية. بعد ذلك تأتي «ولكن». وهنا نطّلع على الجانب الآخر من القضية، والذي يكون إمّا على شكل عالِم أو فريق من العلماء قرروا معارضة النظرية السائدة، أو علماء آثار وحفريات عثروا على اكتشاف مهم أو استخدموا تكنولوجيا جديدة، أو على شكل تحقيق في صحيفة عثر كاتبه على أدلة لم تُكشف من قبل، أو كتاب أجرى مؤلفه حواراً مع شخص قرر الخروج عن صمته، أو وثائق كانت مخفية وآن أوان خروجها إلى العلن. وحرص الكاتب أن يورد مصادره في نهاية كل مبحث، لمن أراد الاطلاع على المصادر الأصلية.

هل المنتصرون هم من يكتبون التاريخ؟

على صفحات مواقع الإنترنت المختلفة، نجد تبايناً حاداً في آراء الناس حول هذا الموضوع. فيرى البعض أن عبارة «التاريخ يُكتب على يد المنتصرين» صادقة وحقيقية، فيما يرى البعض الآخر أنها مجرد كليشيه وبعيدة عن الحقيقة.

لكن نظرة على كُتب التاريخ المدرسية، وأخرى على المسلسلات التاريخية، ستؤكدان صحة هذه الجملة. فهل يمكن أن نرى يوماً كتاباً مدرسياً لمادة التاريخ يعرض وجهات نظر مختلفة؟ أو هل يمكن حتى أن نقرأ كتاباً عربياً على شاكلة كتاب «ألغاز تاريخية محيرة»؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.