هل يتلاعب بوتين بالدستور الروسي ليبقى في السلطة للأبد؟
قبل عامين من الآن بدأ الهمس يتعالى في الأوساط الروسية بسؤال مهم، ماذا سيفعل بوتين بعد انقضاء ولايته؟ ولاية مدتها ست سنوات مضى منها اثنتان وبقى أربع، فلم يكن يتوقع أحد أن تأتي الإجابة مبكرةً قبل عام 2024 بأربعة أعوام كاملة. أطلق المؤيدون للرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تساؤلهم السابق لقب «العملية 2024»، ومن الواضح أن بوتين قد بدأ العملية 2024 في 15 يناير/ كانون الثاني 2020.
في خطابه السنوي للأمة الروسية قال بوتين إنَّه يرى أن الوقت قد حان لإجراء إصلاحات محددة على الدستور الروسي. بعد خطابه بفترة وجيزة قدَّمت الحكومة الروسية استقالة جماعية، ليس اعتراضًا على الإصلاحات بل تمهيدًا لها على ما يبدو. الإصلاحات المقترحة لم تتبلور بصيغة واضحة، لكنها في الغالب سوف تتماشى مع المعتاد من بوتين، وهو إطالة أمد وجوده على قمة هرم السلطة في روسيا. قد لا يكون المسمى واضحًا حتى الآن، ولا كيف سيفعلها بوتين، لكنَّ هذا غالبًا ما ستفعله التعديلات المقترحة.
أصدقاء بوتين المقربون استقبلوا الأمر بترحاب شديد رغم عدم اكتمال صورته حتى الآن. مارجريت سيمونيان، المديرة السابقة لشبكة تلفزيون روسيا اليوم، نشرت تغريدة داعمةً لبوتين تقول فيها: « ها أنت ذا»، ثم أردفت تدعو بوتين إلى المضي في ثورة غير دموية. ويبدو أن رفيق بوتين منذ التسعينيات، رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف، هو أول ضحايا تلك الثورة غير الدموية. ميدفيديف كان هامشيًّا، كما حال الجميع، في حكومة بوتين، لكن كان رسميًّا الرجل الثاني في الترتيب الهرمي. أما بعد استقالته فقد أوكل له بوتين منصب نائب رئيس مجلس الأمن الوطني بالكرملين، وهو منصب مستحدث مهامه غير واضحة المعالم. لكن الواضح للغاية أنه خطوة هائلة لميدفيديف نحو القاع.
مجلس الدولة يحكم روسيا
قد يُثار سؤال منطقي، من سيملأ الفراغ الكامل الذي حدث في المناصب الوزارية؟ الحكومة الجديدة متى تتشكل وكيف ستكون؟ لكن في الحالة الروسية يمكن اعتبار السؤال غير منطقي، ففي دولة تتركز فيها السلطة في يد بوتين وحده يكون الانشغال بالتخمين إهدارًا للوقت.
الكرملين أعلن في 16 يناير/ كانون الثاني 2020 أن من سيخلف ميدفيديف هو ميخائيل ميشوستين، رئيس دائرة الضرائب الروسية. ميخائيل يعمل في الحكومة الروسية منذ عام 1998، وتولى رئاسة مصلحة الضرائب عام 2010، لكن لا يبدو أن الرجل يمتلك سجلًا مهنيًّا حافلًا. وربما اختاره بوتين لذلك السبب تحديدًا، فالرجل البالغ 53 عامًا تعوَّد على الوجود في الظل دون إثارة أي متاعب.
أما السلطة الحقيقة فقد تكون في يد مجلس الدولة. تعرَّض بوتين في خطابه لذكر «مجلس الدولة»، مجلس أنشأه بوتين منذ عشرين عامًا في أول سنة له في السلطة عام 2000. المجلس يتكون من حكام إقليميين ومسئولين اختارهم بوتين شخصيًّا. المجلس عُرف كمستشار للكرملين، لكن لم تكن صلاحياته جلية في العشرين عامًا الماضية. لكن في ظل الوضع الجديد يمكن التنبؤ أن المجلس سوف يحصل على صلاحيات أكثر.
الإشارة لمجلس الدولة تجعل من حقنا تكهن سيناريو قد يحكم من خلاله بوتين بعد انتهاء ولايته عام 2024. في ذلك السيناريو يُعزز بوتين على مدى السنوات الأربع القادمة من صلاحيات مجلس الدولة حتى يصبح المجلس هو مكان صنع القرار الحقيقي في روسيا. ثم بالتأكيد يصبح بوتين هو رئيس هذا المجلس، رئيس لا يحدد الدستور مدة ولايته، ولا يجبره على خوض انتخابات. وعبر مجلس الدولة يقود بوتين روسيا مدى حياته، فكأنما أصبح المجلس هو الكرملين الروسي الجديد، ورئيس المجلس هو رئيس الدولة الفعلي.
بوتين يناور ولا يجازف
التعديلات التي تدور الأحاديث بشأنها وذُكر بعضها في خطاب بوتين هى تعديل الدستور الروسي ليُحدد مُدد الرئاسة بمدتين فقط، رغم أن بوتين حكم 4 مدد حتى الآن. كذلك تشديد شروط قبول الشخص كمترشح في سباق الرئاسة. أيضًا سوف تسمح التعديلات للكرملين أن يختار هو المرشحين لمنصب رئيس الوزراء والوزراء. تعديلات يمكن إجمالها بأنها تضعف من سلطات الرئيس وتسحب البساط من تحت كرسيه، وتضع السلطة في يد جهة أخرى هي الكرملين وربما مجلس الدولة.
فلماذا إذن لم يُعيِّن بوتين نفسه رئيسًا للمجلس ويُنهي الأمر؟ جليب بافلوفسكي، مستشار بوتين السابق، قال ذات مرة إن بوتين لا يحب تبني استراتيجية طويلة الأمد والالتزام بها وحدها، بل يحب أن يُبقي أمامه العديد من الخيارات مفتوحةً. فإذا كان بوتين يخوض الآن مغامرةً تبدو قصيرة الأمد، لكنه لا يريد حسمها كي يبقى أمامه وقت أطول للتراجع متى لزم الأمر.
اقرأ أيضًا: يفغيني بريغوجين: طباخ بوتين وذراعه في أفريقيا
فمثلًا عام 2008 لم يُفكر بوتين في تغيير الدستور ببساطة كما قد يفعل معظم الرؤساء الراغبين في الحكم فترة أطول، لكنه أعلن أنه سينتقل لمنصب رئيس الوزراء ويحل ميدفيديف محلَّ بوتين كرئيس لروسيا. وبمجرد وصول ميدفيديف لكرسي الرئاسة اقترح فجأةً مد فترة الحكم من 4 إلى 6 سنوات. وقبل انقضاء مدة حكم ميدفيديف تنازل بمنتهى الروح الرياضية لصديقه بوتين عن الرئاسة ليعود بوتين إلى الحكم بفترتين جديدتين كل واحدة منهما 6 سنوات.
الرصيد أوشك على النفاد
الاثنا عشر عامًا التي أهداها ميدفيديف لبوتين أمامهم 4 سنوات على النهاية، لكن ذلك يبدو قريبًا جدًّا بالنسبة لبوتين. ربما يعطي نفسه متسعًا من الوقت ليتعامل مع أي سيناريو غير متوقع كأن يرفض الروس فكرة وجود زعيم أبدي، أو تتخلى عنه النخب الروسية. لكن بوتين استطاع خداع الجميع مرةً في عام 2008، ويبدو أنه سينجح مرة أخرى عام 2020، وسوف يصل إلى عام 2024 وقد ضمن الحكم مدى الحياة بدون ذرة شك في حتمية ذلك أو قلق من رد الفعل الشعبي.
ويبدو أن الأمور تبدو مستقرةً حتى الآن، بل تتجه في صالح بوتين. أعلن المسئولون الانتخابيون أنه بمجرد إضفاء صياغة دستورية على اقتراحات بوتين فيمكن الدعوة لعقد استفتاء شعبي عليها. سيكون هذا الاستفتاء هو الأول في تاريخ بوتين، وأول استفتاء تشهده روسيا منذ عام 1993. تعمل شبكة روسيا اليوم على تقديم الاستفتاء أنه استفتاء مباشر على نقل الحكم من السلطة التنفيذية ممثلةً في شخص الرئيس إلى السلطة التشريعية ممثلةً في الكرملين. لكن دائمًا يكون للسياسيين مآرب أخرى.
اقرأ أيضًا: أليكسي نافالني: النسخة الروسية من ترامب
تلك المآرب قد لخصَّها المعارض الروسي أليكس نافالني بأن كل من صدَّق أن بوتين سوف يرحل عام 2024 هم إما حمقى وإما مغفلون. كان السيناريو المثالي أن يرحل بوتين عن السلطة بعد انتهاء ولايته الثانية، والسيناريو الواقعي أنَّه سيرحل لكن بعد تسمية خليفة له، ويعمل بوتين على زرعه في القصر الرئاسي. لكن بحركة بوتين الحالية فإنه يجعل الاهتمام باسم من سيخلفه أمرًا ثانويًّا، لأنَّه في كل الأحوال لن يكون الخليفة قادرًا على معارضة بوتين أو السيطرة على شخصية بوتين، والآن سيكون الخليفة بلا صلاحيات حقيقية.
خاصةً أن الانتخابات البرلمانية الروسية سوف تجري عام 2021، وبهذه التعديلات سيكون الكرملين هو المتحكم المستقبلي في كل شيء، وبوتين هو المتحكم الحالي في الكرملين، إذن في النتيجة بوتين سوف يأتي برجاله في الكرملين عام 2021 ليضمنوا له مكانًا من عام 2024 وحتى أمدٍ غير معلوم.