اضطراب ما بعد الصدمة: كيف تتعامل مع تبعات الكوارث والحروب؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
هكذا ختمت لين جونز، الطبيبة النفسية والناشطة في مجال الإغاثة حديثها عن مدينة جورازديه البوسنية، في سياق مقال كتبته عن «اضطراب ما بعد الصدمة» ومدى قدرة هذا التشخيص على التعامل مع تبعات الكوارث الإنسانية والحروب.
تبدأ لين مقالها بالحديث عن حال التشخيص النفسي قبل انتشار مفهوم «اضطراب ما بعد الصدمة: PTSD»، حيث تشير إلى أن العديد من الناس يمرون بالكوارث الطبيعية والحروب بمرونة وقدرة كبيرة على التكيف. وتدلل على ذلك بقصة جدها، جويليم جونز، الذي شارك في الحرب العالمية الأولى باعتباره حاملا للجنود المصابين في بلجيكا، أحد أكثر ميادين الحرب شراسة.
وكذلك مقالة نُشرت عام 1941 في دورية علم النفس الاجتماعي وغير الطبيعي Journal of Abnormal and Social Psychology تتحدث عن هذه المرونة التي واجه بها البريطانيون القصف في الحرب العالمية الثانية. فقد كان يتم التعامل مع الاضطرابات النفسية الناشئة عن هذه الظروف باعتبارها أمرًا اعتياديًا سيمر بسهولة.
ولكن حدث التحول، فيما تروي لين، عندما ذهبت إلى سراييفو في الحرب البوسنية باعتبارها طبيبة نفسية، وشاهدت نفس الظروف تقريبًا، غير أن التعامل النفسي والعلاجي قد تغير. فقد تم التركيز بشكل مكثف ومثير للاهتمام على تشخيص واحد فقط، هو «اضطراب ما بعد الصدمة: PTSD»، حيث أعلن بعض الخبراء أن 1.4 مليون بوسني يعانون من هذا الاضطراب.
وتتحدث لين عن أن هذا التشخيص لم يكن موجودًا حتى سبعينيات القرن العشرين، وأنه كان يتم النظر إلى الضغط العصبي الذي يولّد آثارًا كالغضب أو التوتر أو الاضطراب السلوكي وخلافه، بشكل طبيعي. لكنه في الولايات المتحدة في ذلك الوقت كان هناك العديد من المحاربين القدامى والناجين من الهولوكوست يتحدثون عن تشخيصات مثل الاكتئاب أو القلق أو اضطراب الشخصية باعتبارها غير كافية لتعبر عن معاناتهم.
فأصبح «اضطراب ما بعد الصدمة: PTSD» تشخيصًا منتشرًا للأشخاص الذين مروا بتجربة ضاغطة تتعدى القدرة البشرية، ومن أعراضه تكرر مشاهد الحدث في صور كوابيس أو خواطر، وبالتالي يتجنب المريض أي موقف يُذكره بما حدث، وبالوقت تتبلد مشاعره ولا يستطيع الشعور بالحزن أو الفرح.
اهتمت لين بهذا التشخيص وبدأت في دراسته نتيجة سيطرته على أذهان الأطباء والعامة على حد سواء. وتعلل هذه السيطرة باعتبار أن هذا التشخيص هو رد فعل على فشل التطور البيولوجي في علم النفس -والذي عزا تقريبًا معظم الأمراض النفسية إلى «اختلالات دماغية» لا دخل للمريض بها- في نزع الطابع السلبي الذي يطغى على الأمراض النفسية. حيث يؤدي اضطراب ما بعد الصدمة إلى وضع المريض في موضع الضحية، وأنه لا ذنب له. وبذلك أصبح هذا التشخيص مؤشرًا على المعاناة.
ذهبت لين عام 1994 إلى سراييفو في أعمال إغاثية، ولكن توصلت بعد فترة إلى أنه من التفاهة أن نصف كل شيء باعتباره ناتجًا عن الصدمة. فقد توصل أحد الباحثين إلى أن 94% من الأطفال المشردين يعانون من أعراض الاضطراب، لكنه تساءل عن إمكانية أن تكون ردود الأفعال هذه [التي تم تصنيفها باعتبارها أعراضًا لاضطراب ما بعد الصدمة] مجرد ردود فعل تكيفية، مع حالات قصف يومية تقريبًا!
وفي أواخر التسعينيات، حسب لين، نشأت تيارات تجادل عن جدوى هذا التشخيص. فالبعض يقول إن «مخترعي» هذا الاضطراب قد حولوا ردود الفعل الطبيعية على أي ضغط عالٍ إلى مرض، وقاموا بالحط من شأن قدرات البشر العادية على التكيف، وأن جلسات العلاج التي أقاموها لم تنجح أبدًا. والبعض الآخر يؤكد أن «إنكار» العديدين للصدمة هو الذي حرمهم من الشفاء. وأدى هذا الجدال إلى أن أصبح اضطراب ما بعد الصدمة مؤشرًا على المعاناة، وأن من يرفضه ينكر حدوث المعاناة أصلًا، كإنكار الهولوكوست ومعاناة الناس من القصف وخلافه.
لكن تؤكد جين أن المشكلة تكمن في هذا الاختزال. أي أنه يتم تبسيط تعقيدات الحرب السياسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية إلى مجرد مرض نفسي. وبالطبع يصبح الأمر بسيطًا، فمجرد علاج يتم تطبيقه؛ يؤدي إلى حل كل المآسي.
فيتم تدريب مُيسِّر يقوم بمساعدة المرضى في التعامل مع الصدمة، من خلال عدة خطوات تبدأ باسترجاع الحدث ووصفه بشكل كامل، وفحص التصورات وردود الأفعال على الجزء الأسوأ من الحدث، ثم في النهاية، فَهْم أن ردود الأفعال الناشئة هذه طبيعية ويجب تجاوزها.
واكتسبت هذه الطريقة في العلاج شعبية واسعة؛ فهي لا تتطلب تمويلًا ماليًا كبيرًا، ولا متخصصين على مستوى عالٍ من الكفاءة، ولا فحصًا عامًا للتأكد من وجود المرض، ولا أي شيء معقد. ولذلك كان عدد المتبرعين من البرامج الإغاثية كبيرًا. وكان في حقيقته محاولة لإظهار الاهتمام من هذه المنظمات وأنها حاولت التعامل مع المأساة بشكل كامل، وذلك دون الدخول في الأمور الأصعب الخاصة بإنهاء الصراع نفسه، وتحقيق العدالة.
ظلت لين تعمل في ذلك الوقت على بناء موقفها من هذا التشخيص، وتم إرسالها إلى مدينة جورازديه عام 1996 والتي كانت تحت الحصار أيضًا أثناء الحرب، والتي كانت لا تزال خربة ومنكوبة من آثار الحرب، وعاش أهلها في حالة سيئة من التدهور والمعاناة.
لم يكن بالمدينة أي طبيب نفسي لأربع سنوات، وكانت مهمة لين أن تقوم بتأسيس عيادة نفسية، وبمجرد أن أُعلن عن مواعيد العيادة؛ توافد الناس إليها من كل الأعمار بداية من السادسة وحتى السبعين عامًا. وتتراوح مشاكلهم بين الأرق والسكيزوفرينيا [انفصام الشخصية] وغيرها، إلا أن القليل منهم فقط كان يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة.
وتبدأ لين في الحديث عن الحالات التي واجهتها في جورازديه، فتتحدث عن السيدة بابيك التي عانت من نوبات هياج قبل الحرب، ثم دخلت في حالة اكتئاب ازدادت حدتها نتيجة خطف ابنها في الحرب. كانت المدينة، فيما تروي لين، غارقة في المهدئات التي وفرتها منظمات الإغاثة بكميات كبيرة أثناء الحرب، التي يعيش عليها كل الناس تقريبًا، ومنهم السيدة بابيك التي خضعت للعلاج في سراييفو وأعطوها مهدئات سكنت من آلامها لمدة عام، ثم عادت إلى حالتها مرة أخرى. فنصحتها لين بأن تتوقف عن أخذ المهدئات المضادة للذُهان، وبدء العلاج من خلال مضادات الاكتئاب.
لم تكن السيدة بابيك تعاني من الاضطراب، لكن كان الجنود والمعتقلون السابقون كذلك. فتروي لين عن الجندي إدين الذي رأى أخاه يموت أمامه بعد أن انفجرت فيه إحدى القذائف وشوهته تمامًا. عانى إدين كثيرًا حيث لم يستطع أن يتجاوز المشهد أبدًا، والذي عاد إليه مرارًا وتكرارًا في كوابيسه وخواطره، وحاول الهروب من هذا الأمر من خلال الفودكا والحشيش وأحيانًا الديازيبام [دواء مخدر ومُرخِ للعضلات]. وجاء إدين إلى لين آملًا أن تعطيه المزيد من المهدئات.
وكان هناك أيضًا نجاد، الذي اعتقله وعذبه الصرب -الذين كان يتعامل معهم قبل ذلك باعتبارهم أصدقاء- لمدة عام. تم إطلاق سراحه وعاد إلى الحياة الطبيعية بعد الحرب، لكنه لم يعد طبيعيًا أبدًا، فقد عادت إليه ذكريات الحرب بشكل مستمر في كوابيسه، وانضم إلى مجموعة من المعتقلين السابقين يحاولون إنهاء معاناتهم من خلال الحديث عنها، إلا أن نجاد كانت حالته تسوء أكثر فأكثر. وكان أيضًا يتعاطى الديازيبام.
وتروي لين كذلك عن بعض الأطفال الذين عانوا من اضطراب ما بعد الصدمة، نتيجة بعض المواقف التي مروا بها خلال الحرب، منهم إلفيرا التي شاهدت ثلاثة رجال يدقون باب منزلها ويطلبون منها المياه وهم غارقون في دمائهم، نجا منهم واحد فقط وكان وجهه مشوهًا. وفي مرة أخرى، أصابها هي وثلاثة من صديقاتها قذيفة قضت فورًا على اثنتين منهن وفقدت الثالثة قدمها، ولم تستطع إلفيرا أن تقدم لها أي مساعدة وهي تصرخ وسط الطريق. ولمدة أربع سنوات، راودت إلفيرا الكوابيس التي أيقظتها ليلًا وهي تبكي، ولا تستطيع السيطرة على نفسها.
لكن لم تكن هذه الأعراض شائعة بين الأطفال هناك. إذ أدت الحرب إلى صعوبات أخرى. فتحكي لين عن صوفيا التي أصيبت بالتلعثم مذ تم فصلها عن أبويها. وكذلك آمرا التي أصيبت بداء التبول اللاإرادي ليلًا وعدم القدرة على السيطرة على نفسها، وحاولت أمها تقويمها من خلال الضرب. لكن الأمر لم يكن مجديًا.
وتحدثت لين عن كون بعض زملائها من الأطباء النفسيين يرون ضرورة توسعة تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة كي يحتوي كل هذه الأعراض، في الأطفال والبالغين. لكن لين تستدرك على ذلك قائلة بأن «أهمية التشخيص أن يقوم بالتمييز بين المشاكل التي تتطلب طرق مختلفة من العلاج»، وأن توسعة التشخيص تعني أن يصبح أقل قدرة على التمييز، حيث إن كل تشخيص يتطلب نوعًا معينًا من العلاج، وتوسعة التشخيص تؤدي إلى الخلط بين طرق العلاج المختلفة.
استطاعت لين، فيما ترويه، التعامل مع كل هذه الحالات كلٍ على حدة. فتم علاج صوفيا من التلعثم من خلال العلاج بالموسيقى واللعب، وآمرا عولجت من خلال التحفيز المستمر والتشجيع عندما لا تبلل سريرها. وكذلك نجاد وإيدن، تم علاجهما من خلال حوار ذي معنى عن تجاربهما ومساعدتهما في البحث عن الحكمة منها، والبعد عن دفع هذه الذكريات من خلال المخدرات والمسكرات.
غير أن العنف كان أكثر مشكلة واجهت لين في عملها هناك. ففي يوم من الأيام جاءتها مريضة تم إنقاذها من محاولة انتحار في النهر. كانت ليجلا فتاة في الثامنة عشرة تتشارك هي وزوجها، بعد لجوئهما من مدينة فوكا، مع أختها وزوجها في غرفتين. وتتهمها أختها بسرقة الطعام ويتشاجران بشكل مستمر. استطاعت لين أن تساعد ليجلا من خلال عرض المساعدة والتوسط بينها وبين أهلها، لكنها لم تستطع تقديم ما تحتاجه ليجلا فعلًا، ألا وهو سكن جديد أو إمكانية العودة إلى بيتها.
كان العنف المنتشر في المدينة ناشئ عن الضياع والخيانة وانعدام الأمل الذي يشعر به الشباب. وشعروا بحالة من عدم الأمان، فالحرب لم تنته، والسلم لم يستقر بعد، فلا جدوى من بدء الحياة الطبيعية مرة أخرى. وسيطر مناخ عدم اليقين على الجميع، وأن لا شيء يستحق العناء. وأصبح من الصعب على الجميع القيام بأي مبادرة، أو التفكير في شيء واتخاذ أي قرار.
لكن الحديث عن كون هذا المجتمع كله يعاني من الصدمة هو أمر مجحف. فالمدينة كانت تحت الحصار الاقتصادي والاجتماعي وكانت ردود الأفعال هذه طبيعية حتى الشهور الأولى من عام 1997. ومن المفترض أن اتفاقية دايتون في عام 1995 قد ضمنت حرية الحركة والعودة إلى المنازل، وكان واضحًا، في رأي لين، أن تحقيق هذه الوعود هو الحل الحقيقي لما تعاني منه المدينة من مشاكل نفسية.
بعد أن انتهى عقد لين، مكثت في جورازديه عامًا آخر لتنظر كيف تعامل الأطفال مع الصراع. وبالوقت أصبح لديها حساسية من كلمة «الصدمة»، وعندما يتم ذكرها في أي موقف، تطلب من قائلها فورًا أن يقوم بتعريفها بشكل أكثر دقة فيما يخص الأحداث التي يمكن التعبير عنها بهذا المصطلح، وكذا ردود الأفعال الناشئة عن هذه الأحداث. وهل يعني ردود الأفعال الطبيعية المصاحبة لأي حدثٍ جلل أم ردود الأفعال غير الطبيعية والزائدة عن الحد، حيث إن تعبير اضطراب ما بعد الصدمة أصبح يُستخدم للإشارة لكل هذا.
وفي عام 1998، كما أكدت لين، بعد أن استقرت الأمور، وانتهت الحرب وتيسرت المعيشة، بدأت المدينة ومرضاها في التعافي، وتم دهان المنازل بألوان زاهية، واختفت الأكمنة من الطرق، وتم فتح مصنع مربى لتوفير الوظائف، وكذلك مركز رياضي. و«إذا نظرت إليها الآن، فمن المستحيل أن تتذكر أنه كان هناك حرب قط»، كما توضح لين.