التحكم النفسي: كيف يتكون السلوك
نشعر أحيانًا بالكثير من المشاعر بداخلنا؛ الكثير من المشاعر التي لا نستطيع تفسيرها. أحيانًا تتملكنا مشاعر مثل: مشاعر الغضب والخوف واليأس، وأحيانًا أخرى نتصدى لتلك المشاعر السلبية ونتخذها كمصدر قوة لإكمال سعينا في الحياة.
وكخطوة عملية من أجل تحكم أفضل، كان لا بد من معرفة أعمق لذواتنا؛ حتى يتم تجنب أي سلبية قد تبعدنا عن السير نحو أهدافنا. لذلك سنتحدث عن الدوافع في هذا المقال، وكيف يتم التحكم في تلك «الدوافع» عن طريق تعزيز ظهور الجزء المناقض لها بداخلنا «الضوابط»، ثم سنتحدث عن أهمية تحديد المركزية للذات البشرية، بحيث أنها المسئول بشكل مباشر عن تحديد «الضوابط» لكل منا.
1. الدوافع
الدوافع هي تلك الطاقة التي يمكن اختصارها في كلمتين فقط: «حب الحياة». تنقسم الدوافع إلى دافعين رئيسيين -فطريين- في الأساس: دافع حفظ الذات، ودافع حفظ النوع. كلاهما تتفرع منهما دوافع فرعية أخرى كثيرة، فالطعام والشراب ورغبة الملك والتحكم هي في الأصل مجرد أشكال لدافع حفظ الذات، بينما حفظ النوع تتمثل طاقته بشكل رئيسي في الطاقة الجنسية.
ما فائدة تلك الدوافع؟ ببساطة شديدة؛ لولا تلك الدوافع لما كان هناك تطور على مر العصور. إن الإنسان له كيانه الفريد، فهو الكائن الوحيد الذي يملك القدرة على: الإدراك، التعلم، الإرادة والاختيار. ولكن تلك المميزات وحدها لا تكفي لاستمرار الحياة وتعمير الأرض، تمامًا مثل الوقود الذي ينتظر شعلة ما لتوقده، الدوافع ببساطة هي تلك الشعلة.
إن كل حركة نقوم بها، كل عمل، كل نَفَس، يحتاج إلى أن نقاوم شيئًا ما لنفعله، فعندما نتحرك نقاوم الجاذبية، وعندما نتنفس نقاوم غاز ثاني أكسيد الكربون فنخرجه في عملية الزفير، وعندما نأكل يقوم جسدنا بإخراج الجزء الضار من الطعام، …إلخ. لذلك كان لا بد من طاقة ما لتحركنا حتى تستمر الحياة، ويستمر التطور والتعمير في الأرض.
كيف تحدث عملية الدفع داخل النفس؟
إن الدافع بشكل عام له صورتان: إحداهما تدفع النفس من الخلف وهي صورة «الألم»، والأخرى تقوم بجذب النفس من الأمام وهي صورة «اللذة»، فمثلاً الدافع المؤدي للطعام والشراب يحركه ألم الجوع والعطش، وفي نفس الوقت لذة الشبع والارتواء. كذلك الدافع المؤدي لارتداء ملابس الشتاء يحركه ألم الجسد من شدة البرودة، وفي نفس الوقت لذة الدفء. أيضًا دافع الجنس، يحركه الألم من الخوف على عدم حفظ النوع، كذلك تحركه لذة العملية الجنسية ذاتها. فكما قال الأستاذ محمد قطب:
2. الضوابط
عندما بدأ الإنسان في صنع الآلة، اكتشف فطريًا أنه لا بد بجانب وجود طاقة لتحريك هذه الآلة وجود طاقة أخرى لكبح الطاقة الأولى وإيقافها حتى يستطيع التحكم بها. كذلك النفس كان لا بد من وجود «ضوابط» لها حتى لا تصاب بالشطط أو الضمور، وإلا فما الفرق بين الإنسان والحيوان؟ فالحيوان يمتلك دوافع أيضًا ولكن بلا ضابط؛ فكما قال جوليان هكسلي:
الجدير بالذكر أيضًا أن الضوابط لا تعني الكبت، فليس كما قال فرويد إن الكبت هو شيء دخيل على الإنسان، والأصل هو الدوافع فقط؛ لأنه لا يمكن فرض شيء على الإنسان إلا إذا وجد له استعداد فطري بداخله. فمثلاً، لا يمكنك أن تفرض على الإنسان ألا يجوع أو ألا يتملّكه العطش؛ لأنه لا يملك استعدادًا فطريًا لذلك.
إذن فالضوابط ليست دخيلة على الإنسان، فهي متواجدة بداخله بالفعل ولكنها تحتاج إلى يد مساعدة لتنضج؛ مثل الطفل الصغير الذي يزحف، لو لم يكن هناك استعداد فطري لديه ليمشي على قدمين بجانب وجود يد مساعدة لتعلمه المشي لما استطاع ذلك.
3. التحكم والمركزية
من المميزات التي تساعد الإنسان على التحكم في دوافعه 6 مميزات:
أولًا: سعة المجال وتعدد الطرق
فمثلاً هو لا يأكل نوعًا واحدًا من الطعام، بل يتفنن أيضًا في صنع النوع الواحد بعدة طرق؛ أي أنه يملك من السعة أن يختار ما يشاء.
ثانيًا: تحديد حد الاكتفاء
البعض يأكل حتى يمتلئ، والبعض يأكل بقدر معين ليعطيه الطاقة الكافية، والبعض يقلل الطعام عندما يقوم بحمية غذائية، فلا يمكن أن يكون الدافع بعينه هو الذي يحدد ذلك ولكن إرادة الانسان المستقلة.
ثالثًا: التطوير
فلا يكتفي بالشيء على حالته الخام، فالصوف مثلاً لا يأخذه كما هو مع أنه في حالتة الخام كافٍ لإدفائه.
رابعًا: تعدد السلوك نحو الدافع
فهناك من يتفاعل بشدة مع الدافع وهناك من يتصرف معه بلا مبالاة.
خامسًا: وجود هدف
ويختلف ذلك الهدف من فرد لآخر، ويختلف كذلك الهدف عند كل فرد من حالة لأخرى ومن فترة لفترة.
سادسًا: أنه لا يحس بالقهر الكامل إزاء الدافع
فمثلًا في دافع حب الحياة والخوف من الموت، وهما من أقوى الدوافع، قام العديدون بالتضحية بحياتهم من أجل فكرة ما أو مبدأ ما؛ مثل: مالكوم إكس – سيد قطب – مارتن لوثر كينج – جيفارا.
ما السر الذي يتحكم في تلك العوامل، أو ما هو المصدر الرئيسي للطاقة الحيوية؟
سماها فرويد «اللبيدو» وقال إنها الطاقة الجنسية، وفسرها من بعده تلميذه إدلر أنها الرغبة في التفوق، ثم قال عنها كارل يونج أنها الرغبة في سد النقص الذي يتعرض له الإنسان، ثم جاء دكتور فيكتور فرانكل ليقول أنها طاقة البحث عن المعنى، واختلف الكثيرون حولها.
وفي الحقيقة أن جميعهم أصابوا في جزأ ما، إنها بشكل أو بآخر «المركزية»، هي التي تحدد سلوكيات الفرد، فمن كانت مركزيته «الله» كانت أفعاله لإرضائه، ومن كانت مركزيته «الإنسانية» كانت أفعاله تتسم بالرحمة، ومن كانت مركزيته «ذاته» فعل كل شيء ليقويها حتى ولو على حساب إخضاع الآخرين، ومن كانت مركزيته «المال» أو «الجنس» لهث خلفهما بدون تفكير.
فلا بد من تحديد مركزية خاصة لحياتك تنبثق منها الضوابط التي تتحكم بدورها في اختيار الدوافع المساعدة لتحقيق تلك المركزية، وذلك سيؤدي في النهاية إلى التحكم في سلوكك النفسي.