التحليل النفسي لزعماء عرب: الملك فاروق «سيكوباتي» ونجيب «لا يحتمل المواجهة»
كتب السير الذاتية لبعض أبطال التاريخ قد تكون مغرية للقراءة، خصوصاً أنها تعطي للقارئ نظرة بانورامية لبطل الكتاب، ربما تكون النظرة أقل إغراءً إذا ما كان التناول يقتصر على حادث تاريخي بعينه في حياة البطل، أو على موضوع بعينه، أما إذا كان الأمر متعلقاً بتحليل نفسي لتصرفات البطل التاريخي، فحتماً هناك ما هو مختلف أو جذاب.
سمير عبده كاتب وصحفي سوري، له مؤلفات كثيرة في المجال النفسي والسياسي، قدم كتاباً مذهلاً بعنوان «تحليل 100 حالة نفسية» في منتصف الثمانينيات، ليعقبها بسلسلة عن التحليل النفسي للمرأة العربية وللفنانين العرب ولأكثر المجرمين شهرة، وكذلك للأمثال العربية.
وقد ظهرت في تلك الكتب آلياته التي تفاوتت بين التحليل العلمي الجاد والتحليل بناءً على الموقف الشخصي من الشخصية أو من الحدث موضع التحليل. إلا أن الجمهور المصري والعربي عرفه مع وضعه لكتابين مهمين تناول فيهما التحليل النفسي لشخصيتي الزعيم جمال عبدالناصر والراحل أنور السادات، ليعود بعدهما بكتاب أكثر تنوعاً، تناول فيه التحليل النفسي لأكثر من زعيم عربي راحل، لم يلتزم فيه بالحدود الجغرافية، بل أطلق العنان لعينه وخياله في دراسة تصرفات وقرارات أكثر من قائد في أكثر من دولة، ومنهم من مصر مثلاً: «محمد نجيب، والمشير عبدالحكيم عامر، والملك فاروق»، ومن لبنان: «كمال جنبلاط»، ومن سوريا «ميشيل عفلق، أنطون سعادة، حسني الزعيم، وفارس الخوري»، ومن العراق: «عبدالكريم قاسم».
يصرح سمير عبده في مقدمته للكتاب بأن الأسماء التي وردت في الكتاب كان لها التأثير الواضح، لأنها هي التي سلطت عليها الأضواء، فالزعيم السياسي يجد الهدف والوسيلة، وينشط الهمم والعزائم، ويقدم القدوة والمثل، ويقيم جو التفاهم والاتصال، لذا حاولت الاقتراب من تحليلات الكاتب التي كانت في معظمها مثيرة للإعجاب.
اللواء نجيب، المشير عامر، الملك فاروق
ذكر سمير عبده كثيراً من الوقائع الخاصة بثورة يوليو 1952 وما بعدها بسنوات، مستنداً على مذكرات ووثائق وأحداث مكتوبة في الكتب التي أرخت لتلك الفترة، بعضها ذو قيمة، وبعضها عكس ذلك تماماً، أما عن التحليل النفسي عن شخصية اللواء محمد نجيب، أول رئيس جمهورية مصري، فقد وصفه بأنه الشخص المسؤول بالدرجة الأولى عن السرعة التي تفجر بها الصدام بينه وزملائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة، فهو– نفسياً– وبحسب قول الكاتب، لا يحتمل المواجهة العامة، ولا يدرك لعبة السياسة جيداً، بل كان حبيساً لفكرة الرئيس الكبير لأعضاء من عمر أبنائه، ولكنه في الوقت نفسه كان كبير النفس.
وعن المشير عبدالحكيم عامر، فلا يمكننا أن نثق ببعض الوقائع التي ذكرها عبده في الكتاب، باعتبارها من مصادر يؤخذ ويرد عليها، مثلما هو الحال مع محمد نجيب أو كما سنرى مع الملك فاروق، لكنه في تحليله لشخصية المشير عبدالحكيم عامر يؤكد أنه كان طيب القلب، وقوي الشخصية، يدرك الخطأ ويسعى إلى تعديله، ولكنه يرتكبه في الوقت نفسه.
أما الملك فاروق، فوصف الكاتب، الملامح النفسية لشخصيته بأنها تتمحور في جوعه إلى الجنس وإلى العبث والاستهتار، كما لم يستطع الزمن أن يبدل طباعه رغم المسؤولية الكبيرة التي وضع بها وهو في سن السادسة عشرة من عمره.
يحلل عبده شخصية فاروق من يوم استلامه للعرش بعد وفاة أبيه فؤاد الأول في 1936، وقدومه من لندن ليصبح ملك مصر الجديد، حيث ظهر على قسمات وجهه، كما يقول الكاتب، مسحة غريبة امتزجت فيها الفرحة بالحزن، والنضارة بالشحوب، والسعادة بالهم والقلق. كان فاروق مبتهجاً بعودته إلى مصر، لكن قلقاً وخوفاً كبيرين كانا يعتريانه بسبب المستقبل المجهول الذي ينتظره مع صغر سنه وقلة تجاربه، ومن مسؤوليات جسيمة والتزامات دقيقة، وصدام متوقع مع بريطانيا وحزب الوفد، أكبر قوتين في مصر حينها.
عبده يسرد بعض الوقائع التي قرأها في بعض المصادر، فيقول مثلاً إنه كان نهماً للسرقة، وقد امتدت يده إلى سرقة الأفراد من دون خجل أو استحياء، فكان يأمر بنقل التحف التي يعلم أنها موجودة في بيوت الأعيان إلى قصر عابدين، كما أنه كان يغش في لعب القمار، وزعم عبده كذلك أنه في سنة 1944 سرق سيف الإمبراطور بهلوي، إمبراطور إيران السابق ونياشينه، بعد وفاته في جنوب أفريقيا ونقل جثمانه إلى مصر للدفن فيها، بجوار مقابر الأسرة المالكة، ووضع سيفه الخاص ونياشينه في تابوته، وعندما أرادت حكومة إيران في عهد نجله نقل الجثمان إلى طهران، اكتشف سفيرها لدى القاهرة أن سيف الإمبراطور ونياشينه انتزعا من جوار جثته، وقد أعيدت هذه الممتلكات إلى إيران بعد سقوط الملك.
وقع عبده، في ما يبدو، أسيراً للنظرة المعتادة للملك فاروق، فكرر ما يلوكه جميع المؤرخين بأن الملك كان فاسد السلوك يستكثر من الخليلات والعشيقات، جلهن من النساء الساقطات أو الراقصات، كما استفحل في داء القمار على مر السنين حتى أصبح مدمناً عليه، وقال إنه كان يوقع على بعض القرارات المهمة ويصدر أوامره في شؤون الدولة على موائد الميسر، وعلى مرأى ومسمع من جلسائه اللاعبين.
ذكر الكاتب عدداً كبيراً من الأحداث المشكوك في صحتها عن علاقات الملك فاروق المتعددة، ومنها مع النجمة كاميليا، وآخرين من أهل الفن وبيوت الساسة، ويختتم كلامه عنه بأنه شخصية سيكوباتية (عدوانية)، ويضيف: «ربما كان الانحراف هنا عرضاً أو ظاهرة لمرض آخر»، مشدداً على أنه في حالة الملك فاروق ربما يكون الوجه البارز لمرض نفسي أو عقلي أشد وأعمق كالفصام أو الهوس الدوري أو الصرع.
وقد اعتبر عبده أن المرض المصاب به الملك فاروق جنوناً يتضمن انحرافاً في المشاعر والهوايات والميول والمزاج والأخلاق دون إخلال أو نقص في القوة العقلية والذهنية، وهكذا يربطون بين مرض الشخصية والمفهوم الأخلاقي للمرض، ولعل هذا التعريف أقرب إلى مرض الملك فاروق.
وبغض النظر عن رؤية سمير عبده، النفسية، عن الشخصيات الثلاث فإن الوقائع التي ذكرها للوصول إلى نتائج تحليله، تظل محل شك، لا تثبتها أو تنفيها المصادر التي ذكرها، أو حتى المصادر المعتبرة.
الزعماء السوريون: تحليل أكثر إحكاماً
تناول الكاتب سمير عبده بالدراسة النفسية عديداً من الزعماء السوريين، التي للحق كان في تناوله لها أكثر إحكاماً وسيطرة على المصادر التاريخية التي درسها، ربما لأنه سوري في الأساس، عاش وعاصر وقرأ أكثر عن أغلب الشخصيات التي تحدث عنها، ومنها ميشيل عفلق مثلاً، صاحب الدور الأكبر والأهم في تأسيس حزب البعث السوري، حيث شبهه الكاتب بـ«أم الملك»، التي لا تتظاهر بالحكم بينما هي تمارس السلطة من وراء العرش، وهو المفتاح الدقيق للشخصية، كما وصفه بأنه لا يخلو من طموح سياسي، يتمتع بصفات الزعيم الموهوب، لكن من خلف ستار.
عفلق عاش بعد تخطيه سن الستين في ما يشبه العزلة دون أن ينهي عمله السياسي، مرسلاً توجيهاته إلى أبنائه مبدياً استعداده لتقديم النصح والإرشاد لأي سياسي يتوسم فيه تنفيذ أهداف حزبه بالوسائل السلمية أو الثورية.
شخصية عفلق، مثلما وصفها الكاتب، مسؤولة عن أفعالها وتصرفاتها، فلا يوجد اضطراب مرضي فيها، وإنما هي نتاج تدليل مفرط أو قهر شديد في التنشئة الاجتماعية، وشعور محبط ودائم بعدم الأمان والاستقرار.
أما أنطون سعادة، زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، فينطلق الكاتب في تحليله لشخصيته من اعتباره عانى عقدة حرمان عاشها في الاغتراب بعيداً عن أهله ووطنه في عصر سادت به القوميات في سوريا وغيرها، لذا كان سعادة، كما وصفه سمير عبده، ديكتاتوراً. كذلك حسني الزعيم، الرئيس السوري الأول الذي تسلم الحكم وهو في سن الـ55، وعاصر في حياته بعض الديكتاتوريين في العالم مثل هتلر وموسيليني، وقد تأثر ببعض ملامحهما بالتأكيد، فقد اتسمت كل تصرفاته بالعنف والتوتر والطيش، لذلك كانت نهايته سريعة للغاية، إذ أطيح به بعد نحو أربعة أشهر فقط، وحوكم وتم إعدامه، لكن فترته تلك تركت علامة فارقة في تاريخ سوريا الحديث، خصوصًا من ناحية كونها فاتحة عشرين انقلاباً ومحاولة انقلابية.
فارس الخوري أيضاً من السياسيين السوريين الذين أفرد لهم عبده جزءاً من كتابه، والخوري هو أحد الآباء المؤسسين للجمهورية السورية ومن قادة الكتلة الوطنية التي حاربت الانتداب الفرنسي، وقد تولى منصب رئيس الوزراء في الثلاثينيات والأربعينيات، وكان أبرز مشرعي الدستور، وقد مدح سمير عبده في شخصية الخوري بشكل كبير، وتميزه بالذكاء والدهاء، إلى درجة جعلت السطور التي تناولته لم تكن تحليلاً نفسياً بل أشبه بقصيدة مدح للرجل وآثاره، التي امتدت حتى بعد وفاته.
عبدالكريم قاسم: عقدة في الطفولة
برع سمير عبده في التحليل النفسي للزعيم والرئيس العراقي السابق عبدالكريم قاسم، أول من ثار ضد الملكية هناك، لأنه رصد جزءاً مهماً للغاية في حياة الزعيم العراقي السابق، وهو انعكاس ما حدث له أثناء طفولته على حياته ومع وصوله إلى السلطة أيضاً، فقد عاش قاسم طفولة سيئة، إذ تعرض لعنف مفرط، كما بدا من السيرة الذاتية التي درسها الكاتب جيداً، حيث كان والداه يهددانه ويلوحان له بأسوأ العواقب، وكانا دائمي الحط من قدره، وهو ما يسهم عادة في تنشئة صبي عدواني لا يشعر بالأمان.
ويقول عبده، إن مرض عبدالكريم قاسم يتجلى تماماً في فصامه، وبالأحرى في الأوهام الاضطهادية التي لاحقته، فقد كان يشعر بأنه مراقب وأن مؤامرات خطيرة تحاك ضده، وأن الدول تتآمر عليه، والجواسيس يلاحقونه من كل صوب، وكذلك الرفاق يراقبونه من خلال الجدران وأنه سيجري إلقاء القبض عليه أو أن الأعداء يريدون قتله أو سجنه أو سحله، وقد وصلت أوهامه إلى حد الشك في زوجته من أنها سوف تدس له السم في الطعام. كل هذا دفعه مثلاً للارتياح إلى مقولة «الزعيم الأوحد» وهو اللقب الذي فضله عن كل الألقاب الأخرى، وذلك حتى مقتله في 1953 إثر انقلاب عليه.
كمال جنبلاط: مدخل الفراغ العاطفي
نعرف وليد جنبلاط زعيم الحزب الاشتراكي التقدمي في لبنان حالياً، وقد ورث الزعامة تلك عن أبيه كمال جنبلاط، الذي تناوله الكاتب ببعض السطور في كتابه، وقد وصفه بأنه أحد أهم الزعامات العربية في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية أو ما يعرف بعصر الاستقلال للدول العربية. لم يتبوأ كمال جنبلاط منصب رئيس دولة أو رئيس حكومة في لبنان لأسباب تتصل بالتركيبة الطائفية للمعادلة السياسية اللبنانية منذ استقلاله، لكن دوره وتأثيره على المستويين الفكري والسياسي في مسيرته خصوصاً في عقدي الستينيات والسبعينيات وحتى اغتياله 1977 فاقا بكثير دور وتأثير شخصيات تولت الرئاسة في لبنان.
في شخصية كمال جنبلاط الكثير، فقد ذكر سمير أنه كان نباتياً مثلاً متأثراً بالبوذية ورياضة اليوجا، كما كان لديه روح دعابة فيلسوف وأديب وشاعر، إلا أن ما عابه، وفقاً للكاتب، هو شخصيته القاسية المتعصبة التي تصل أحياناً إلى حد المكابرة، أما ما ميز تحليل الكاتب لشخصية جنبلاط هي أن الزعيم الدرزي الكبير ربما عانى من الفراغ العاطفي الذي عاشه بعد تركه لزوجته وعيشه وحيداً مع ابنه، وهو ما أدى به إلى قساوة وتصميم على وضع مُثلٍ عليا سياسية، وهذا بالتأكيد غير وارد في السياسة.