«النصر البيروسي»: أن تربح المعركة وتخسر الحرب
هكذا قال القائد بيروس الإبيري وهو يحصي جنوده وعتاده بعد أن انتصر على الرومان، اكتشف بيروس أنه حقق انتصارًا عسكريًّا في أرض المعركة لكن خسائره التي عاد بها كانت ضخمة. بيروس، من مواليد منطقة إبيروس عام 318 قبل الميلاد، يُصنف من أهم القادة العسكريين الإغريق.
حقق الرجل انتصارات ضخمة على جيوش روما ومقدونيا، لكن غالبًا ما كان يتكبد خسائر بشرية ضخمة؛ لذا اشتُق من اسمه مصطلح النصر البيروسي للدلالة على النصر العسكري الرسمي الذي يأتي بتكلفة ضخمة تقارب الهزيمة، فيصبح نصرًا مرًّا، أو نصرًا بطعم الهزيمة.
تولى بيروس الحكم وهو ابن 12 عامًا بعد قيام ثورة على سلفه ألستياس الثاني. لم يدم له العرش طويلًا، حيث أُطيح به هو الآخر بثورة أخرى، فلجأ إلى حليفه ديميتري، ابن أنتيجونس الأول، ملك مقدونيا ليخوضا معًا عدة حروب. وبمساعدة بطليموس الأول أيضًا عاد بيروس لعرشه، ثم انقلب على حليفه ديميتري ودخل معه في حروب للسيطرة على غرب مقدونيا.
وفي عام 281 قبل الميلاد طلبت إيطاليا مساعدة بيروس لصد هجوم الرومان عليها، فزحف إليهم بيروس بـ 25 ألف جندي. اشتبك مع الرومان في معركة هيراقليا، انتصر فيها لكن خسر معظم جنوده. وعبر نحو صقلية بعد عامين وأصبح ملكها، لكن كانت قوته قد تلاشت بخسائره في هيراقليا فثار ضده سكان صقلية وأجبروه على العودة نحو إيطاليا، وفي عودته اشتبك معه الرومان مرة أخرى فسحقوه.
لم يستسلم بيروس، لكن آثر أن يبتعد عن الرومان ونفوذهم، فغيَّر اتجاهه نحو مدينة أرجوس. دخلها بيروس ودارت معركة بينهم وبين سكانها، والنساء من فوق أسطح المنازل يراقبن النزال. تلاقى بيروس مع شاب من المدينة يتقاتلان، كانت والدة الشاب من الجالسات فوق سطح قريب، فخشيت على ولدها من الموت، فبدأت في قذف الحجارة بشكل هيستري على بيروس حتى سقط من فوق حصانه مرتبكًا، ولم يكد يجمع شتات نفسه إلا وسيوف شباب أرجوس قد فتكت به.
أن تربح المعركة، وتخسر الحرب
تدور الشكوك التاريخية حول أصل مصطلح «النصر البيروسي»، ويُقال إن الرومان أنفسهم هم من نشروه تهدئةً لشعورهم بالهزيمة، فأرادوا أن يثبتوا لشعبهم وللآخرين أن عدوهم، حتى في حالة هزيمتهم، يتكبَّد خسائر فادحة. لكن بغض النظر عن القصة الأصلية الحقيقية، فإن المصطلح قد تجذَّر في الوعي الاجتماعي كدلالة على الفوز المتحقق بشق الأنفس.
مثل القصة الأمريكية الشهيرة عن أحد عمال السكة الحديد الذي يقرر إثبات مهارته بالتنافس مع آلة حفر ليؤكد للمسئولين أنه لا داعي للاستغناء عنه لصالح الآلة. تبدأ المسابقة ويبدأ المتنافسان في الحفر، ينتهي الوقت المحدد ليكتشف الجميع أن العامل قد حفر 4 أمتار، بينما حفرت الآلة 3 أمتار فقط. يصفق الجميع ويهنِّئون العامل المثابر، وبينما يتلقى التهاني على انتصاره التاريخي يسقط ميتًا.
لقد ربح العامل المسكين معركته ضد الآلة، لكنَّه خسر الحرب الكاملة. من المثال السابق يمكننا شرح النصر البيروسي بأنه تحقيق نصر عسكري ثانوي يؤدي في النهاية إلى هزيمة أكبر، ما يؤدي بأثر رجعي إلى جعل النصر السابق فارغًا من المضمون والقيمة. فيصبح النصر سببًا لإلحاق خسائر فادحة بالمنتصر إلى حد أنه يرقى إلى الهزيمة، وقد تكون الخسائر على هيئة عدد ضخم من الضحايا البشرية، أو استنزاف للموارد، أو تكاليف مادية باهظة نتيجة الأضرار التي لحقت بأرض المعركة.
فمثلًا حادثة بيرل هاربور الشهيرة تُعتبر انتصارًا لليابانيين، لكن استغلال الإعلام الأمريكي لتلك الحادثة وجعلها مبررًا لإلقاء القنبلة النووية على اليابان، أدى في النهاية لهزيمة ساحقة لليابان.
الانتصار بخسارة ربع الجيش
معركة مالبلاكيه التي دارت رحاها بين ورثة الملك تشارلز الثاني حين مات دون أن يُسمي وريثًا من بعده. الصراع للجلوس على عرش إسبانيا كلَّف جميع الأطراف خسائر هائلة، تجلت تلك الخسائر في مالبلاكيه حيث تقابل 100 ألف مقاتل تحت قيادة دوق مالبوره مع 90 ألف مقاتل فرنسي. قرر دوق مالبوره اقتحام خطوط الفرنسيين، بينما تحصن الفرنسيون بالخنادق وخلف المتاريس. بعد 7 ساعات استطاع الدوق اقتحام الجنود الفرنسيين والتغلُّب عليهم، فكان النصر له.
لكن عند إحصاء جنوده، اكتشف أنه خسر 25 ألف جندي، ربع جيشه، بينما فقد الفرنسيون 10 آلاف فحسب. وكان جنود الدوق متعبون ومنهكون فلم يواصلوا القتال، بينما كان الفرنسيون في نشاطهم فنفذوا انسحابًا تكتيكيًّا. فبات الأمر أقرب لانتصار فرنسي حقيقي لدرجة أن القائد الفرنسي كلود دي فيلا قال للملك لويس الرابع عشر إن الرب إذا أعطى الأعداء نصراً آخر كهذا، فإن ذلك سيدمرهم.
ومن أبرز الأمثلة على النصر الباهظ معركة بوردينو بين جيوش نابليون والجيوش الروسية. منذ توغل نابليون في روسيا والروس يفضلون القيام بانسحابات تكتيكية بدلًا من المواجهة المباشرة، حتى وصل نابليون إلى بلدة بوردينو الصغيرة. ميخائيل كورتزوف، القائد الروسي، قرر أن يواجه أخيرًا، واستدار جيشه الصغير لمواجهة الجيش الفرنسي المكون من 130 ألف جندي، في مواجهة استمرت نصف يوم.
في تلك الساعات القليلة استطاع نابليون أن يسيطر على المدينة ويقضي على المقاومة الروسية، لكن في طريقه لمركز المدينة كانت الأرض مغطاة بالجثث الفرنسية، خسر نابليون في نصف يوم 30 ألف جندي، بينما خسر الروس 10 آلاف. تلك الخسارة الكبيرة كانت سببًا في بدء انهيار نابليون وجيشه، ثم اتخاذهم القرار بالتراجع عن موسكو بعد أن أحرقها أهلها. لكن الجيش الروسي والشتاء الروسي أيضًا لم يتركا نابليون يتراجع بسلام، وأخذ كل منهما منه ضريبة المرور، فتكبَّد نابليون قرابة 400 ألف جندي في تلك الحرب.
يضج التاريخ بأمثلة لانتصارات باهظة الثمن، مثل حرب الثمانين عامًا بين الإسبان والهولنديين التي انتصرت فيها إسبانيا لكنها أفلست في النهاية، واستقلت هولندا كما أرادت.
النصر الأسدي
ربما يمكن للعالم العربي أن يصكَّ المصطلح الخاص به، وأن يجتاز النصر البيروسي بمراحل، إذا استلهم المنظرون من سياسات بشار الأسد في سوريا مصطلحًا مناسبًا يصف حالة النصر الشخصي لحاكم يؤثر البقاء في الحكم حتى لو لم يعد هناك شعب ولا دولة يحكمها، فقط ركام وأنقاض وبقايا دولة وشتات بشري.
تخصيص الأسماء والأمثلة ليس لقصر مفهوم النصر البيروسي عليها لكن لشرحها فحسب، فالحياة مليئة بأمثلة حياتية واقتصادية يمكن إسقاط الكلمة عليها. فانتصار البشرية عبر اللقاحات على الأوبئة الفتاكة، مثل جائحة كورونا مؤخرًا، هو نصر بيروسي بامتياز، دفعت البشرية فيه ملايين التضحيات البشرية بين وفيات ومصابين.
وانتصارات الاحتلال القوي في الدول التي يحاول احتلالها هي في أصلها انتصارات بيروسية، إذ يتكبد الاحتلال خسائر مادية ومعنوية أكبر مما تتكبد المقاومة الشعبية التي تواجه، حتى إن وقع ضحايا من الطرفين. لذا فمصطلح النصر البيروسي يحل معضلة كبيرة، ويلخص جملًا اعتراضية وتوضيحية طويلة تُكتب لتوضح أنه ليس بالضرورة أن من انتصر لم يخسر، أو أن المنتصر دائمًا خسائره أقل، وأن النصر، أحيانًا، قد يكون خطوة على طريق الانهيار.