آفاق التقارب السعودي الإيراني وانعكاساته على القضية الفلسطينية
وقّعت السعودية وإيران في 10/ 3/ 2023 في العاصمة الصينية بكين اتفاقاً لاستئناف العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح سفارتيهما وممثليهما خلال شهرين. وجرى توقيع الاتفاق برعاية الرئيس الصيني شي جين بينغ، وتمّ إصدار بيان ثلاثي مشترك تضمن بنود الاتفاق التالية:
- تأكيد الطرفين على سيادة كل منهما وعدم التدخل في شؤونه الداخلية.
- تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بين البلدين الموقَّعة سنة 2001، والاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب الموقّعة سنة 1998.
- تعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي.
وعلى الرغم من أن السعودية وإيران عقدتا حوارات متعددة خلال سنتَي 2021 و2022 في العاصمة العراقية بغداد والعاصمة العُمانية مسقط، فإن إعلان الاتفاق السعودي الإيراني في بكين بوساطة صينية كان مفاجئاً لكثير من الأطراف السياسية، حيث جاء بلا مقدمات واضحة.
ويهدف تقدير الموقف هذا إلى قراءة الآفاق المستقبلية لتطوّر العلاقات السعودية الإيرانية، وترجيح ما إذا كان التقارب الأخير بين الطرفين يُعبّر عن «انفتاح تكتيكي» محدود ومؤقت في العلاقة بين البلدين، أم أنه «تقارب استراتيجي» طويل الأمد ستكون له تداعيات مهمة على العلاقات الثنائية، وعلى العديد من الملفات السياسية في المنطقة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
مسار تطوّر العلاقات بين البلدين
بدأ التوتر الشديد في العلاقة السعودية الإيرانية قبل سبعة أعوام، حيث قامت السعودية في 2/ 1/ 2016 بإعدام 47 شخصاً بتهم متعلقة بالإرهاب، بينهم أربعة من الشيعة، أبرزهم رجل الدين الشيعي المعارض نمر النمر، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة لدى إيران التي توعدت السعودية بدفع ثمن ذلك، وقام مئات المتظاهرين الإيرانيين بمهاجمة مبنى القنصلية السعودية في مدينة مشهد، وإضرام النار في أجزاء منه وإنزال العلم السعودي، كما اقتحم متظاهرون إيرانيون السفارة السعودية في طهران، وردّت السعودية في اليوم التالي بإعلان قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، والطلب من أعضاء البعثة الدبلوماسية الإيرانية مغادرة السعودية خلال 48 ساعة.
واستمرت القطيعة الكاملة بين البلدين مدة خمسة أعوام حتى سنة 2021، التي شهدت انطلاقة حوارات غير معلنة بين الطرفين تواصلت خلال سنة 2022، حيث عُقدت خمسة حوارات بين مسؤولين سعوديين وإيرانيين في العاصمة العراقية بغداد، وتلا ذلك حوارات في العاصمة العُمانية مسقط، لينتقل الجهد بعد ذلك إلى الصين التي نجحت وساطتها في تذليل العقبات بين الطرفين، وفي التوصل لإعلان استئناف العلاقات السعودية الإيرانية في مارس/آذار 2023.
أهمية التقارب السعودي الإيراني
تنبع أهمية الاتفاق السعودي الإيراني في استئناف العلاقات الدبلوماسية وتجاوز مرحلة التوتر والقطيعة في العلاقات السياسية بين البلدين، من مجموعة نقاط يأتي في مقدمتها:
1. المكانة الإقليمية للدولتَين كفاعلَين إقليميَّين رئيسيَّين يؤثران في العديد من الملفات السياسية في المنطقة، كاليمن وسوريا ولبنان والعراق، بالإضافة إلى الوزن الاقتصادي المؤثر للدولتين النفطيتين العضوين في منظمة أوبك وأوبك بلس.
2. قيادة السعودية للحالة الرسمية السنّية وإيران للحالة الشيعية في العالم الإسلامي، وانعكاس العلاقة بين الطرفين إيجاباً وسلباً على حالة الصراع أو الهدوء الطائفي، بل وعلى حالة الأمن والاستقرار الإقليمي.
3. دخول الصين على خط الوساطة بين الطرفين، في ظلّ حالة التنافس والاستقطاب الدولي، على خلفية استمرار تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وتصاعد حدّة التنافس الأمريكي الصيني.
وقد عُدَّ نجاح الوساطة الصينية بين السعودية وإيران مؤشراً قوياً على بدء الصين ممارسة دور مبادر ودبلوماسية نشطة في المنطقة والعالم، وهو ما أكده وزير الخارجية الصيني الذي قال، عقب توقيع الاتفاق، إن الصين كوسيط حسَن النية ويُعتمد عليه أوفت بمهامها كمضيف، وأنها ستستمر في لعب دور بنّاء في التعامل مع قضايا ساخنة في العالم، وإظهار مسؤوليتها كأمة كبرى.
وجاءت الوساطة الصينية بين السعودية وإيران منسجمة مع المبادرة التي طرحتها الصين في أبريل/نيسان 2021 لتحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وتضمنت خمس نقاط هي: الدعوة إلى الاحترام المتبادل، والتمسك بالإنصاف والعدالة، وتحقيق عدم الانتشار النووي، وبناء الأمن الجماعي بشكل مشترك، وتسريع التعاون الإنمائي.
4. توقيت الاتفاق الذي جاء في سياق ما يُرجّح أنه مراجعة للسياسات السعودية، تعيد بموجبها تحديد أولوياتها ومصالحها ورسم منظومة علاقاتها الإقليمية والدولية، وفق سياسة جديدة يبدو أنها تعتمد على ثلاث ركائز:
- تفكيك الأزمات وإنهاء التوتر في العلاقات مع العديد من الأطراف الإقليمية، والعمل على تطوير تلك العلاقات ونقلها إلى أشكال من التنسيق والتعاون الإقليمي، حيث انفتحت السعودية خلال الشهور الفائتة على العلاقة مع تركيا، وسعت لتطوير العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين، وكان آخر خطوات الانفتاح توقيع اتفاقية في 6/ 3/ 2023 بقيمة 5 مليارات دولار كوديعة سعودية لصالح البنك المركزي التركي. وقد ألمح وزير المالية السعودي في 18/ 1/ 2023 خلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس إلى مقاربة جديدة اعتمدتها بلاده في إدارة علاقاتها الإقليمية، وأعلن أن السعودية تواصلت مع إيران، وأنها تسعى لإيجاد مسار للحوار مع الجميع يركز على التنمية، مضيفاً أن الحوار هو السبيل الأمثل لحل الخلافات في المنطقة.
- عدم الرهان تماماً على طرف دولي واحد لصالح توسيع خيارات السعودية دولياً وتنويعها، حيث يظهر سلوك السعودية أنها تسعى للحفاظ على علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة كقوة عالمية رئيسية، لكنها بموازاة ذلك تعمل على تعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية مع الصين وروسيا، بحثاً عن علاقات دولية متنوّعة.
- تقليص حجم الانخراط في ملفات إقليمية لا تخدم الأولويات والمصالح السعودية، سواء تعلّق الأمر بالسعي لتغيير التموضع في اليمن، عبر التوصّل لاتفاق سياسي متوازن يحافظ على المصالح السعودية السياسية والأمنية، أم تعلّق الأمر بإعادة النظر في سياسة تقديم الدعم للحلفاء في المنطقة، حيث أعلن وزير المالية السعودي في 18/ 1/ 2023 أن المملكة غيّرت طريقة تقديم المساعدات لحلفائها، وأنها لن تُقدّم منحاً ومساعدات مباشرة غير مشروطة.
دوافع الانفتاح لدى الطرفين
يمكن الوقوف على مجموعة من الدوافع المهمة لدى كلا الطرفين لتجاوز حالة القطيعة وتطوير العلاقات بين البلدين، فبالنسبة لإيران فإن من أبرز دوافعها للسعي من أجل تطوير العلاقات مع السعودية:
- الرغبة بتعزيز منظومة علاقاتها الإقليمية، في ظلّ ما تتمتع به السعودية من مكانة خاصة ومميزة، وإمكانات تتيحها جغرافيتها السياسية ودورها المؤثر في المنطقة.
- العمل على إفشال الجهود الإسرائيلية والأمريكية لبناء تحالف إقليمي لاحتواء إيران ومحاصرتها، حيث إن فرص إنشاء مثل هذا التحالف تتراجع بقوة في حال لم تشارك فيه السعودية، نتيجة ما تتمتع به من وزن وثقل إقليمي مؤثر.
- السعي لتعزيز منظومة العلاقات الإيرانية العربية، وتجاوز إشكالية الموقف الطائفي، حيث تدرك إيران أن تطوير العلاقات مع السعودية من شأنه أن يفتح الطريق واسعاً لتعزيز علاقات إيران مع المنطقة العربية.
وفيما يتعلّق بالسعودية، فإن من أبرز دوافعها لإنهاء القطيعة وتعزيز التقارب مع إيران:
- توفير فرصة لإيجاد حلّ سياسي في اليمن يتيح للسعودية إعادة التموضع وتقليص أو إنهاء وجودها في اليمن، بما يترتب عليه من استحقاقات سياسية واقتصادية كبيرة، خصوصاً في ضوء ما تحظى به إيران من علاقات قوية مع الحوثيين ومن تأثير على مواقفهم وخياراتهم السياسية.
- الرغبة بتعزيز الأمن السعودي، وإنهاء التهديدات الإقليمية، ووقف استهداف المصالح الاستراتيجية السعودية بالصواريخ والمسيّرات التي استهدفت مواقع لشركة أرامكو، وعدداً من المطارات والمواقع الاستراتيجية الأخرى، ويبدو أن السعودية أدركت بأن كلفة الانفتاح على إيران والتفاهم معها سياسياً واقتصادياً وأمنياً هي أقلّ بكثير من الأثمان التي تُقدّم لأطراف دولية من أجل الدفاع عن المصالح الخليجية، وهو ما لم يتحقق على أرض الواقع عندما حانت لحظة الحقيقة وتعرّض أمن السعودية ومصالحها الاستراتيجية للتهديد والاستهداف من قبل الحوثيين.
- تجاهل الإدارة الأمريكية الديمقراطية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، واتخاذها موقفاً سلبياً من العلاقة معه، الأمر الذي تسبّب بردّة فعل سلبية مقابلة لدى القيادة السعودية يُرجّح أن تكون قد أسهمت في دفعها لإعادة النظر في إدارة منظومة علاقاتها الإقليمية والدولية.
الآفاق المستقبلية للاتفاق السعودي الإيراني
تبرز ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل العلاقات السعودية الإيرانية في ضوء الاتفاق الأخير بين الطرفين:
السيناريو الأول: نجاح الاتفاق في تطوير علاقات استراتيجية مستدامة بين البلدين:
وبموجب هذا السيناريو ينجح الاتفاق الأخير في تطوير علاقات استراتيجية طويلة الأمد بين الطرفين، تنعكس إيجاباً على المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية للدولتين، وتفضي إلى حالة من التنسيق والتعاون المشترك في معالجة أزمات المنطقة، بما في ذلك تعزيز فرص التوصل لحل سياسي ينهي الأزمة اليمنية، والإسهام في تطوير العلاقات السعودية السورية بما يمهد الطريق لعودة سوريا لتفعيل دورها في جامعة الدول العربية، وكذلك تعزيز العلاقات السعودية العراقية، وتوفير فرصة لتجاوز الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان.
وعلى المستوى الإقليمي يُرجّح أن يسهم نجاح هذا السيناريو في تراجع حالة التوتر والتصعيد والاستقطاب الطائفي في المنطقة، وفي تعزيز حالة الأمن والاستقرار الإقليمي، وإضعاف فرص بناء تحالف لاحتواء إيران ومحاصرتها وفق الرغبة الإسرائيلية والأمريكية.
السيناريو الثاني: إنهاء القطيعة وتحقيق انفراج محدود في العلاقات بين البلدين:
ويقوم هذا السيناريو على تحقيق تطوّر محدود في العلاقات بين الطرفين يكفل إنهاء حالة القطيعة بين البلدين، وتهدئة حالة الاحتقان والتوتر التي استمرت لأعوام، ويعيد العلاقات السعودية الإيرانية قريباً مما كانت عليه قبل اندلاع الأزمة اليمنية سنة 2015، وقبل قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين سنة 2016، وبما يسهم بشكل محدود في تخفيف حالة الاحتقان والاستقطاب الطائفي في المنطقة، دون أن ينهي حالة التنافس الإقليمي بين البلدين، أو ينعكس بصورة مؤثرة على حالة الاستقرار الإقليمي وعلى فرص معالجة الأزمات العالقة في المنطقة.
السيناريو الثالث: تعثّر تنفيذ الاتفاق واستمرار التوتر في العلاقات السعودية الإيرانية:
ويقوم هذا السيناريو على تعثّر تنفيذ الاتفاق السعودي الإيراني نتيجة عوامل ذاتية ناجمة عن عدم توفّر القناعة لدى الطرفين بأهمية المضي في تطوير العلاقات الثنائية، أو بتأثير عوامل خارجية ناجمة عن تزايد الضغوط الأمريكية لوقف مسار التقارب السعودي، أو عن تراجع الدور الصيني في الوساطة بين الطرفين.
ومن شأن نجاح هذا السيناريو أن يسهم في استمرار حالة التنافس الإقليمي بين الطرفين، وأن تستمر أزمات المنطقة وحالة الاستقطاب الطائفي بوضعها الراهن، مع تهدئة محدودة لبعض أشكال التصعيد بين البلدين نتيجة استئناف العلاقات الرسمية بينهما.
الترجيح بين السيناريوهات
يتضح مما سبق أن هناك مجموعة من المحددات والعوامل التي يُتوقّع أن تؤثر في مستقبل العلاقات السعودية الإيرانية بعد توقيع الاتفاق، ومن أهمها:
1. خيارات السعودية وإيران تجاه مستقبل العلاقة بينهما، والتي تعتمد بصورة أساسية على استمرار تأثير الدوافع التي شجعت الطرفين على استئناف العلاقات وإنهاء حالة القطيعة، كما تعتمد على مدى قناعة الطرفين بأن النتائج العملية للاتفاق الأخير تخدم أولوياتهما ومصالحهما الحيوية.
وتظهر المؤشرات الأولية التي أعقبت توقيع الاتفاق رغبة واضحة لدى الطرفين بإنجاح الاتفاق وتطوير العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين، فقد صرَّح أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني بعد إبرام الاتفاق بأن «إزالة سوء التفاهم والتطلع إلى مستقبل العلاقات بين طهران والرياض سيؤدّي بالتأكيد إلى تعزيز الاستقرار والأمن الإقليميين»، وبأن الاتفاق يمكن أن «يزيد من التعاون بين دول الخليج والعالم الإسلامي لإدارة التحديات القائمة».
كما وجَّه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز دعوة رسمية للرئيس الإيراني لزيارة الرياض بهدف تعزيز العلاقات بين البلدين، وتبادل وزيرا الخارجية السعودي والإيراني في 6/ 4/ 2023 في العاصمة الصينية بكين توجيه الدعوات لزيارة البلدين.
2. استمرار الدور الصيني المشجِّع على تطوير العلاقات السعودية الإيرانية، وتواصل حالة التصعيد والتنافس الدولي بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا، ويظهر الموقف الصيني رغبة قوية بمواصلة جهود الوساطة بين الطرفين بهدف تنفيذ الاتفاق الذي جرى توقيعه في بكين، وبتحقيق تقدّم مهم في العلاقات السعودية الإيرانية.
وقد استضافت الصين لقاء وزيرَي الخارجية السعودي والإيراني، حيث أكد الجانبان على إعادة فتح الممثليات خلال المدة المتفق عليها والتي تمتد حتى مايو/أيار 2023، وعلى المضي قُدماً في استئناف الرحلات الجوية والزيارات المتبادلة للوفود الرسمية والقطاع الخاص، وتسهيل منح التأشيرات لمواطني البلدين بما في ذلك تأشيرة العمرة.
3. موقف الولايات المتحدة من الاتفاق السعودي الإيراني، فثمة فرضيتان تطرحان لتفسير الموقف الأمريكي من الاتفاق، تنطلق الأولى من أنه تمّ دون التشاور والتفاهم مع الإدارة الأمريكية، وأنها غير راضية فعلياً عن الاتفاق على الرغم من ترحيبها المعلن به، لكونها ترى فيه تعطيلاً لجهودها في بناء تحالف إقليمي لاحتواء إيران ومحاصرتها، فيما تنطلق الفرضية الثانية من أن الاتفاق تمّ من خلال تفاهم سعودي أمريكي، وأنه يأتي في سياق مقاربة أمريكية جديدة للتأثير في سلوك إيران الإقليمي.
وفي ضوء قراءة تأثير المحددات السابقة تبدو فرص السيناريو الثالث (تعثر الاتفاق) غير مرجّحة ضمن المعطيات الحالية، فالرغبة واضحة لدى الطرفين السعودي والإيراني بتجاوز أزمة العلاقات وتطويرها، ولا سيّما أن الجهود التي بذلها الطرفان من أجل التوصّل للاتفاق ليست وليدة شهور أو أسابيع، بل استغرقت عامين كاملين، كما أن دوافع الطرفين لاستئناف العلاقات ما تزال قائمة ويُرجّح أن تستمر خلال الفترة القادمة، بالإضافة إلى الرغبة الصينية بمواصلة جهودها لتنفيذ الاتفاق وتطوير علاقات التعاون بين البلدين، الأمر الذي يُرجّح فرص تحقيق تقدّم ملموس في العلاقات بين الطرفين، حيث تتقاطع مصالح الطرفين في هذه المرحلة في الدفع بهذا الاتجاه.
ولأن البنى الإديولوجية والتوجهات السياسية العامة ومنظومة الأولويات ما زالت متباينة إلى حدٍّ كبير بين الطرفين، فإن الاتجاه العام سيميل نحو السيناريو الثاني في تحقيق انفراجات محدودة تخدم تقاطعات المرحلة لدى الطرفين، غير أن تطوير علاقات ذات طبيعة استراتيجية (كما في السيناريو الأول) ما زال سابقاً لأوانه؛ وإن كان تحسين علاقات الطرفين في عدد من القضايا المهمة، سيخدم في تقوية وتمتين العلاقات، وتعزيز الثقة، بما قد يفتح المجال مستقبلاً لتحسين فرص السيناريو الأول، وفي كلّ الأحوال فمن المتوقع لهذا الاتفاق أن يؤثر إيجاباً في جملة الملفات الإقليمية العالقة في المنطقة.
الانعكاسات على القضية الفلسطينية
حَظِيَ الاتفاق السعودي الإيراني بترحيب مختلف الأطراف الفلسطينية، فيما أظهرت ردود الفعل الإسرائيلية الغضب والانزعاج من تطوّر العلاقات السعودية الإيرانية الذي جاء في وقت كان الجانب الإسرائيلي يسعى فيه لحشد جهد إقليمي مشترك في مواجهة إيران واحتوائها بمبرر اعتبارها تشكل خطرًا على الأمن الإقليمي، كما أن تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية وإنهاء حالة القطيعة بين البلدين جاء في وقت كانت تطمح فيه حكومة بنيامين نتنياهو واليمين الصهيوني المتطرف بتحقيق اختراقات على صعيد تطبيع العلاقات الإسرائيلية السعودية بدعم وتشجيع أمريكي.
ويدرك الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي أهمية دور السعودية وإيران وتأثير موقفهما من القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، فالسعودية هي من أطلقت «المبادرة العربية للسلام» سنة 2002 التي ربطت بين التطبيع وتقدّم مسار عملية «السلام» مع الفلسطينيين، وهو ما تجاوزته الاتفاقات الإبراهيمية التي قفزت عن القضية الفلسطينية لصالح إقامة علاقات إسرائيلية عربية ومشاريع تعاون إقليمي بمعزل عن القضية الفلسطينية وعن تحقيق تقدّم في عملية التسوية السياسية، بل إن توقيت توقيع تلك الاتفاقيات جاء في ظلّ سلوك صهيوني هو الأشد تطرّفاً ضدّ حقوق الشعب الفلسطيني.
أمّا إيران، فتُعدّ من الدول المؤثِّرة بقوة في المشهد الفلسطيني، سواء على صعيد موقفها السياسي المتمسك بكامل فلسطين والرافض لاتفاقيات التسوية السياسية، أم لجهة دعمها الصريح والمباشر وعلاقاتها القوية مع أطراف المقاومة الفلسطينية.
ويخشى الجانب الإسرائيلي من أن يرفع التقارب السعودي الإيراني من سقف الموقف العربي والإسلامي الرافض للسياسات والإجراءات الإسرائيلية في ظلّ حكومة اليمين الصهيوني المتطرف، سواء تعلّق الأمر بالسياسة القمعية بحق الشعب الفلسطيني، أم بالانتهاكات الإسرائيلية المتصاعدة في استهداف مدينة القدس والمسجد الأقصى، كما يخشى الجانب الإسرائيلي من تأثيرات سلبية للتقارب السعودي الإيراني على مسار التطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية في المنطقة، بالإضافة إلى الخشية من تراجع فرص إدماج «إسرائيل» في المنطقة من خلال بناء تحالف إقليمي لمواجهة الخطر الإيراني، وربما كانت الأخبار عن ذهاب وفد قيادي من حماس لأداء العمرة، حيث من المرجح اللقاء مع مسؤولين سعوديين، مؤشراً على هذا التحسن.
وفي ضوء هذه المعطيات تبدو انعكاسات التقارب الإيراني السعودي على القضية الفلسطينية أمام سيناريوهين رئيسيين:
السيناريو الأول:
استمرار الموقف الإيراني والسعودي الحالي تجاه القضية الفلسطينية دون تغيير جوهري يؤثّر في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، وفي مستوى إسناد القضية الفلسطينية ودعمها.
ولا شكّ أن فرص تحقّق هذا السيناريو تتعزز في حال تعثّر مسار التقارب السعودي الإيراني، أو تعامُل الطرفين مع الاتفاق بصورة تكتيكية لا استراتيجية، بحيث يقتصر تأثيره على تبريد حالة التصعيد والتوتر دون أن ينقل العلاقات بين الدولتين إلى مستوى تعزيز التنسيق والتعاون الإقليمي تجاه قضايا المنطقة.
السيناريو الثاني:
تحقيق نقلة نوعية في الموقف الإيراني والسعودي من القضية الفلسطينية، باتجاه بناء موقف سياسي مشترك أكثر دعماً للقضية الفلسطينية، ورفضاً للسلوك الإسرائيلي المتطرّف تجاه القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. وتتعزز فرص هذا السيناريو في حال تنفيذ الاتفاق السعودي الإيراني، وتعامُل الطرفين معه بصورة استراتيجية تُسهم في تطوير العلاقات بين البلدين، وتنقل مستوى العلاقة بينهما من التنافس إلى التعاون والتنسيق المشترك في معالجة أزمات المنطقة.
وإذا كان الموقف الإيراني من القضية الفلسطينية قد اتسم بقدر جيد من الاستقرار خلال الأعوام الماضية، تبدو فرص تطوير الموقف السعودي تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي قائمة، وتتعزّز في ظلّ هيمنة اليمين المتطرف على مقاليد السلطتين التشريعية والتنفيذية في الكيان الصهيوني، ومع تزايد الاستفزازات الإسرائيلية والاعتداءات على مدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصى.
ويُلاحظ أن الخطاب السعودي تجاه القضية الفلسطينية شهد تطوّراً نسبياً في الآونة الأخيرة، وعاد للتأكيد على «المبادرة العربية للسلام» لسنة 2002، في إشارة إلى عدم استعداد السعودية للالتحاق بركب الاتفاقات الإبراهيمية لتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال، في ظلّ حالة الانسداد الكامل التي تواجه مسار التسوية السياسية.