النبيُ محمّدٌ عندليبُ روضِ الأبد
قائل هذا البيت الشعري باللغة الأوردية هو السير كيشان براساد شاد، رئيس وزراء ولاية حيدر آباد الهندوسي. اعتبر الأستاذ عيسى علي العاكوب هذا البيت مفتاحًا لفهم شخصية «آنّا ماري شيمل»، فقد أثبتته في مطلع كتابها: «وأن محمّدًا رسول الله» التي نصّت شيمل على أن كثيرين لهم مشاركتهم في ظهور هذا الكتاب: القوّالون في الهند، والباكستان، الذين غنّوا مديح النبي بألحانٍ لا يمكن أن تُنسى، والفقهاء الذين عارضوا التفسير الصوفي لشخص رسول الله، والعجائز في قرى تُركيا وباكستان اللائي تخلل حُبٌّ عميقٌ راسخٌ لمحبوب الحقّ حياتهن الكاملة، والطلاب في البلدان الإسلامية وفي الولايات المتحدة، الذين سألوا أسئلة، وحاولوا أن يتعلموا المزيد حول ظاهرة معروفة على نحو ضئيل جدًّا في الغرب.
وكما نقلت شيمل هذا البيت نقل المستشرق الألماني تور أندريه بعض الأبيات الشعرية لمولانا جلال الدين الرومي التي تشير إلى المنزلة المميزة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في العالم الإسلامي.. يحكي الرومي في هذه الأبيات مشهدًا من السيرة المحمدية , يصوّر فيها كيف أن محمدًا وهو صبي تاه في المكان، فانفجرت مربيته حليمة السعدية بالبكاء، فجاءت المواساة تطمئنها في الكلمات التالية: «لا تحزني إنه منك لن يضيع .. بل إن العالم كله فيه سوف يضيع!»
تكرر أنا ماري شيمل الإشارة إلى كتابات تور أندريه في كتابها «أبعاد صوفية في الإسلام» وفي حواراتها مع الآباء المسيحيين (سلسلة الإسلام والمسيحية في الحوار والتعاون) مشيرة إلى كون النبي هو المعيار الإلهي للإنسان – كما يقول مولانا جلال الدين – وخلافًا للتوحيد «الإبليسي» الذي لا يسجد إلا لله، يوضع النبي في الوسط لتدمير هذا الإغراء، الذي ربما يقود أخيرًا نحو وحدة الوجود واختلاط العقائد الدينية جميعًا.
بداية الفصل الذي تخصصه شيمل في كتابها «أبعاد صوفية في الإسلام» لا جديد فيه بالنسبة للمسلم، فأغلب المسلمين يعتبرون النبي المثل الأعلى، وسلوكه وأفعاله تتخذ نماذج لدى أرباب الورع، ويحاول الكثيرون محاكاتها حتى في أصغر التفاصيل، سواءٌ أكان ذلك شكل اللباس، أم طريقة اللحية، أم القيام بأدق تفصيلات الوضوء، بل حتى في إيثاره ألوانًا معينة من الطعام.
إنما الجديد بالنسبة لكثيرين لا يعرفون عن تبجيل النبي في التراث الصوفي سوى ما كتبه الإمام البوصيري في بردة المديح الشافية، أو غيرها من المدائح وكتب الشمائل أنهم سيعرفون من خلال إطلالة شيمل الواسعة كيف يعبّر أهل الهند والباكستان والسند وتركيا وغيرها من بلدان العالم الإسلامي عن محبة النبي، حتى الذين ينزعون إلى التجريد من بعض الصوفية ويرون أن محبتهم لله لم تدع أي مجال لمحبّة غيره، فقد ادعى نفرٌ من الصوفية ذلك في حال ووقت معين، ومن ذلك ما يُروى عن أحدهم: «ذات ليلة رأيتُ النبي في منامي. قال: أتحبّني؟ قلتُ: سامحني، لكن محبة الله شغلتني عن محبّتك». يذكرنا هذا بما روي عن ابن عربي في تقسيمه للطريق الصوفي أن بعضًا من السّيارين يبدأ بالرسول ويمضي معه في بداية الطريق ثم يستمر في السير معتمدًا على نفسه، ولعل ذلك يماثل ما رُوي أنّ السلطان محمود الغزنوي أراد أن یری الشیخ أبا الحسن الخرقاني وكان یعلم أنّ الشیخ لا یذهب لزیارة السلطان، فقال لرسوله: قل للشیخ: قال اللّه تعالی: أَطِيعُوا اللَّهَ. وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. ولمّا وصل الرّسول واستمع الشیخ إلی قوله، قال: قل لمحمود: أنا منهمكٌ في «أَطِيعُوا اللَّهَ» بحیث لا أعلم أرسولٌ یوجد في العالم أم لا ؟ إذًا فكیف أصل إلی المرتبة الثالثة (یعنی اُولي الأمر).
عندما أراد الله أن يخلق محمدًا أظهر نورًا من نوره أضاء المُلكَ كلّه، فكرة النور المحمدي التي تشير شيمل إلى تطوّرها على يد الصوفية بداية من الحلاّج – وإن لم تذكر شيمل هنا شيئًا من طاسين السراج للحلاج، فقد رددت ترانيمه كاملة في دراستها عن الحلاج – ومرورًا بأبي طالب المكي والغزالي، سنجد كتب الدلائل والشمائل أسهبت في ذكر مرويات تؤكدها، لكنها تضيء الفكرة بذكر قبسات من أشعار التصوف الفارسي، ففريد الدين العطار يقول: أصل الروح هو النورُ المُطلقُ لا شيء آخر، ويعني ذلك أنه كان نورُ محمدٍ لا شيء آخر. وسنائي يؤكد لنا في أشعاره: عندما يغدو قلبُك مملوءًا بنورِ أحمد، اعلم يقينًا عندئذ أنك آمن من النار.
تلتفت شيمل إلى مبدأ «الفناء في الرسول» إذ عبر الواسطة يتحقق للصوفي ذلك، فلا يذهب مباشرة إلى الله: أولًا عليه أن يعيش الفناء في شيخه ومرشده الروحي الذي يستحضره في كل لحظة في طريقه، ففي أذكاره يذكر الله رابطًا قلبه بقلب الشيخ، ولا يمكنه إن كان مخلصًا أن يقوم بفعل شيء من نفسه، عليه أن يستشير شيخه، بل يطلب إذنه لفعل أي شيء يريد. وعبر الفناء في الشيخ يتحقق الفناء في الرسول، فالشيخ ممثلٌ للنبي.
وكما اشتهر في تركيا مثنوي سليمان جلبي «المولود الشريف» وهو الكتاب الذي ترجمه إلى العربية الأستاذ حسين مجيب المصري، تُعرّفنا شيمل بمقابله في بلاد الهند، فمن الأقاصي كتب أبو علي قلندر (المَـرْحَبة) العظيمة:
مُحمّدٌ المصطفى المقصود، يشقُّ الرومي القمر بنوره، وينسب سنائي الإعجاز لمن جاءوا قبله من الأنبياء لبركة النبي، فحينما نخاطب الريح لماذا تخدم سليمان، تجيب: «لأن اسم أحمد منقوشٌ على خاتمه».
مُحمّد الأمي الذي لم يفسد قلبه بمآثر عقلية ظاهرية وكان وعاءً طاهرًا مثل جسد مريم العُذري، تشبّه به الصوفية، فرأوا أن الشيخ الصوفي لا بد أن تكون من مآثره كونه أميًّا مثل النبي، فالنبي نموذج المحبة والتسليم الخالص ولا بد للشيخ أن يكون على خطى النبي. لذا نرى الخرقاني يقول: «إن وارث النبي هو من يقتدي بفعل النبيّ، لا من يسوّد وجه الأوراق».
حرف (الميم) هو شالُ الإنسانية من خلعه عرج إلى السماوات العُلى وأصبح قاب قوسين أو أدنى، رأى الصوفية أن حضرة النبي محمد فعل ذلك في بداية رحلته، ومن هنا نسبوا للحق – ربّ العزة – بلسان المحبة: «أنا أحمدٌ بلا ميم».
مُحمّدٌ عندليب روض الأبد يعيد الثناء دومًا على الوردة الحمراء، يذكر الله ويقوم الليل حتى تتورم قدماه، يتحدث عن اشتياقه الدائم لمحبوبه، فله وقت مع الله لا يسعه فيه غير محبوبه، يُنشد الترانيم من قرآن الوردة، تحمّل من دون شكوى وخز الأشواك.
دون مُحمّد لا يمكن الوصول، وقد أكد محمد إقبال في إعلانه الجريء: «تستطيعُ أن تُنكر الله، لكنك لا تستطيع أن تنكر الرسول»!
فباسمِ محمدٍ شمس البرايا … أقيمت خيمة الفَلك المنير
تلألأ في الرياضِ وفي الصحارى … وفوق الموج والسيل المغير
ونبضُ الكونِ منه مستمدٌ … حرارته على مرّ العصور
ومن مراكش يغزو صداه … ربوع الصين بالصوت الجهير
وما مشكاة هذا النورِ إلاّ … ضمير المسلم الحرّ الغيور.
محمد إقبال- شكوى وجواب شكوى- ترجمة الشيخ الصاوي شعلان