في المقال السابق قلنا أننا للبرهنة على كون نص السيرة -وعلى خلاف ما يرى أصحاب المقاربتين النقدية والتشكيكية- هو النص الأمثل الذي يصلح كمصدر لتأريخ اللحظة الانخطافية، لحظة تلقي النبي للوحي، فإننا نحتاج أولا لبلورة تصور ولو أولي عن طبيعة نص السيرة، ومدى تميزه عن غيره من النصوص، وكيفية صناعته لمتنه وتعامله مع مصادره، فهذا وحده الذي سيحدد ما إذا كان نص السيرة قادرا على كشف هذه اللحظة بالفعل كما ندعي أم لا.

وكنا قد انتهينا في محاولتنا هذه لنتيجة قد تكون محبطة للوهلة الأولى، وهي عدم القدرة على إجراء هذا التحديد الأولي لطبيعة نص السيرة، حيث أن الإحداثيات التي تشكل طبيعة نص السيرة هذه، من أهداف لكتابته، ودوافع، وعلاقة بالسلطة السياسية والمعرفية، وعلاقة لهذا الفن ببقية العلوم، ليست هي نفسها على طول مراحل تشكل نص السيرة كنص ذي طبيعة نوعية محددة.

على العكس، فكما تبين لنا أنها شديدة التغير والتشابك، مما يجعل أي حديث عن أهداف لنص السيرة، أو علاقة محددة له بالسلطة المعرفية والسياسية، أو صلة محددة له بغيره من العلوم ومن ثم تحديد لطبيعته هكذا مرة واحدة وبإطلاق هو أمر غير مأمون بالمرة، وعندما لم يتحسن الأمر حين اقتصرنا على نص «ابن هشام» لتحديد إحداثياته ومن ثم طبيعته لأسباب ذكرناها هناك، اقترحنا القيام بما أسميناه «مقاربة جزيئية» لنص السيرة، أي أخذ قطاع منه وتعيين إحداثياته ثم بناء عليها نحدد طريقة بناء نص السيرة لمتنه في هذا القطاع بالذات، والمصادر التي يعتمد عليها، وكيفية استخدامه لها.

قلنا أن ما سنقتطعه بالطبع هو الجزء الخاص بلحظة الوحي التي تهمنا هنا، ما يبرر لنا هذا الاقتطاع هو ما قلناه عن أن تطور نص السيرة في أحد وجوهه كان عبارة عن تطور تراكبي يتم عبر إضافة لأجزاء و حذف لأخرى، مغازي، ثم مغازي ومناقب، ثم الهيكل الشهير للزهري، ثم إضافة المبتدأ مع «ابن إسحاق» وحذفه مع ابن هشام، مما يعني أن قطاعا ما قد يكون له طبيعة نوعية خاصة لا يؤثر فيها اقتطاعها من النص الكامل.

إجراء هذه المقاربة الجزيئية لنص السيرة و إبراز كيف أن الكيفية التي يبني بها هذا القطاع متنه، هي الأمثل لكشف اللحظة الانخطافية، لحظة تلقي النبي للوحي، هو موضوع هذا المقال.


تحديد إحداثيات قطاع السيرة الخاص بلحظة الوحي

هذا القطاع الذي حددناه يتناول الجزء الأهم في حياة النبي، وهو لحظة تلقي النبي للوحي، هذه اللحظة ولأنها تتحرك بعيدا عن تحركات النبي أفقيا لإنجاز مهام «السياسة والحروب والتشريعات»، فإن روايتها تبتعد عن أي تأثر بأية أهداف سياسية فتتحرك في تلك المساحة التي يتحدث عنها غرينون وباسورون[1] المساحة البعيدة عن السلطة السياسية قبولا أو مقاومة.

إنها تنطلق بالأحرى من هدف تسجيل حياة النبي لا بغرض إنشاء مدونة قانونية كما تقول «عمامو» بل بغرض الاقتراب من هذه اللحظة الفذة، والتي بانتهاءها، بموت الرسول وانقطاع الوحي، أصبح الإيمان بصعوبة استعادتها أكبر، لكن الرغبة في استعادتها ولو رمزيا يجعل الهدف ينتقل من محض تسجيل لهذه اللحظة إلى سردها/كشفها عبر مسرحتها وتخييلها.

ونظن أن ما يتحدث عنه الجمل من كون أحد أهداف كتابة السيرة هو الرغبة في خلق سردية منفتحة على العجيب المدهش، يعمل عمله هنا في هذا القطاع المحدد أيضا، لكن لا بكونه هدفا مستقلا -ربما يصدق كون خلق سردية مدهشة هدفا مستقلا على أخبار الأمم السابقة والتي حذفها ابن هشام لتعود مع الطبري- بل بما يستطيع أن تؤديه هذا السردية في سرد/كشف هذه اللحظة العجيبة والفذة لحظة تلقي الوحي.

هذا بالنسبة للأبعاد الخارجية لهذا القطاع من نص السيرة «أهدافه وعلاقته بالسلطة السياسية»، أما بالنسبة للأبعاد الداخلية والتي تعني العلاقة بين الفنون الداخلة في تشكيله، ومصادره، وطريقة تعامله معها، فهي تظهر لنا بتعيين تلك المرحلة من تطور فن السيرة التي ينتمي لها هذا القطاع.

كما قلنا فإن قدرا كبيرا من تطور نص السيرة كان تراكبيا، حيث أضيفت أجزاء وحذفت أجزاء، هذا القطاع الذي يخصنا ينتمي لتلك المرحلة الواصلة من الزهري لـ«ابن هشام»، الزهري-ابن إسحاق-ابن هشام، وهذه المرحلة شهدت إضافات وحذوفات ومنعطفات تبيانها سيقترب بنا من الأبعاد الداخلية لهذا القطاع من نص السيرة.

«الزهري» هو الرجل الذي أعطى هذا الفن اسمه، وهو يمثل منعطفا هاما في فن السيرة كله، فهو الذي حدد هيكلها وجعلها تبدأ بالمبعث، بالنسبة للقطاع الذي نتحدث عنه، فهو من أضاف القطاع وجعله جزءا من السيرة، وكون هذا الرجل محدثا بالأساس فإن هذا يكشف عن العلاقة بين نص السيرة وبين الحديث، حيث أخذت السيرة -وانطلاقا من هذا المنعطف- خصيصة أن تكون أخبارها مقبولة حديثيا إلى حد كبير، ولكن هذا الاهتمام بقبول الخبر حديثيا لا يجعل نص السيرة مجرد تسجيل لأخبار الحديث الخاصة بالنبي، هذا لأن نص السيرة ومع المنعطف الذي شكله ابن إسحاق أصبح منفتحا على القص والحكاية وأبعد عن الالتزام بمنهج أهل المدينة.

لعل هذا يوضح بوجه ما لماذا كان أشد الناس في ابن إسحاق تقريبا هو مالك إمام دار الهجرة، فلم يعد محض تسجيل بل دخل في إطار من التخييل مصدره قصص الاسرائيليات التي توسع فيها ابن إسحاق، المنعطف الأخير هو منعطف ابن هشام الذي أعطى لنفسه سلطة حذف المشين، مما يعني أن القصة إذا اثبتت عند ابن هشام فهذا يعني أنها لا تضاد المعتقدات «الآخذة في الاستقرار» عن النبوة و الوحي.

إلي جانب القص والحديث والتاريخ فإن لنص السيرة في هذا القطاع علاقة بالقرآن بالطبع، وربما هي العلاقة الأهم والتي تحتاج لتناول أدق في سياق تحديد طبيعة هذا القطاع وطريقة بنائه لنصه، هذا لأنها من ناحية حيرت كثيرين، ومن ناحية لأن رفض السيرة كمصدر مرتبط أصلا بمقارنتها بالقرآن والنظر لها كتشويه له، سواء كان رفضا عاما، كما في حالة أصحاب المقاربة النقدية، أو رفض خاص بما ترويه في هذا القطاع الذي يتناول لحظة الوحي كما عند «جعيط»، مما يجعل تحرير هذه العلاقة أمرا هاما في طريق تحديدنا للأبعاد الداخلية لهذا القطاع من نص السيرة.


السيرة والقرآن

رغم أن جعيط قد خصص فصلين من جزء كتابه الثاني عن السيرة لبحث مشكلة المصادر بصورة دقيقة، «الفصل الأول: تقييم أولي للمصادر الأساسية»، و«الفصل السابع: تحليل نقدي للسير والأنساب والتواريخ»، ومنها سيرتا ابن إسحاق وابن هشام، إلا أن هيمنة وظيفة المؤرخ على جعيط جعلته لا يلتفت سوى لاستخلاص أخبار يستطيع الثقة في اقترابها من الوقائع، لكنه لم يشغل بتحديد طبيعة نص السيرة وطبيعة تصرفه في هذه الأخبار والمصادر.

رغم هذا فإن جعيط قد مس قضية طبيعة نص السيرة -أو على الأقل أحد أبعاده الداخلية أي علاقته بالقرآن- مسا رقيقا في نقاشه لرأي «الشدادي» عن علاقة السيرة بالأناجيل، هذا لأن السبب الذي يبرر به الشدادي تشابه السيرة والأناجيل هو موقع النص القرآني من نص السيرة، فأن تأتي الآية في إثر الخبر يشبه حضور «الحق» في الأناجيل، هو ما يجعل السيرة مثل الأناجيل إظهارا للحق وفقا له.

هذه الملاحظة من الشدادي بتعرضها لطبيعة حضور القرآن داخل نص السيرة، هي ما ترفع النقاش من نقاش تاريخي عن تأثير وتأثر بين الأناجيل والسير[2] لنقاش حول علاقة نص السيرة بالقرآن، نستطيع التقاط هذا الخيط كي نبحث كيفية نظر نص السيرة للقرآن، وكيفية استخدامه له في بناء متنه. مما يقربنا من التوصل لتحديد الأبعاد الداخلية لنص السيرة.

يختلف جعيط مع الشدادي في رأيه عن موقع نص القرآن في نص السيرة، إذ يرى أن الآية لا تحضر بعد الخبر بغرض إظهار الحق، على العكس يرى جعيط أن الآية تأتي كإشارة يفسرها الخبر ولو بالخيال مما يجعل السيرة كتابا في أسباب النزول أو تفسيرا تاريخيا للنص كما يرى لامانس[3].

ظننا أن علاقة نص السيرة بالقرآن، ولو بقينا عند حد المقاربة الجزيئية، هي علاقة أعقد كثيرا مما يفترض جعيط والشدادي، وأن الخلاف حول إتيان الآية كإظهار للحق أو إشاره يفسرها الخبر هو خلاف شديد الظاهرية، حيث أن استخدام نص السيرة للقرآن مرتبط حتما بأمر أعمق طريقة نظرها له، وبالفعل فكلا من رأيي الشدادي وجعيط يبطن تصورا لكيفية نظر نص السيرة للقرآن.

فرؤية الشدادي تبطن أن نص السيرة ينظر للقرآن كحق يراد إظهاره، مما يجعل نص السيرة لا يستخدم هذا القرآن في بناء متنه بل فقط ينتهي إليه بعد ذكر الأخبار، أما جعيط فرؤيته تبطن أن نص السيرة ينظر للقرآن كأصل يتم تفسيره، هذا لو وقفنا عند كلام جعيط في مناقشة الشدادي، إلا أننا لو انتقلنا لحديثه في نفس الكتاب عن حادثة «الغرانيق» ونقده لورود آية الحج في القصة، فإننا سنجده يتصور وكأن نص السيرة يعامل القرآن كدليل على صحة خبر مختلق. لكن هل هذه النظرات الثلاثة هي بالفعل نظرات نص السيرة للقرآن؟

كما قلنا فإن ابن اسحاق يمثل منعطفا حاسما في تشكل نص السيرة، ما يميز هذا المنعطف ليس فحسب القص، بل الانفتاح الكبير على الإسرائيليات، حين يتلاقى قصص الإسرائيليات هذا بقصص القرآن وأخباره يدخل معها في علاقة تتحرك ما بين الدمج والاستيعاب والإضافة والإرجاء[4]

إن القصص الإسرائيلي باتساعه وتشعبه وعجائبيته يضيف ويفسر ويكشف عن مسكوت القص القرآني بدمجه داخله، مما يعني ألا أثر هنا لفكرة أصلية القرآن، والتي تعني فيما تعني أنه حاكم ومهيمن على ما سبقه وأنه القصص الحق، فهنا القرآن مدمج في غيره غير حاكم عليه، وقصصه تشرح وتفصل وتوسع بأخرى، فنظرة نص السيرة للقرآن ليست أنه أصل أو حق يُظهر بل سردية منفتحة على أكثر المواقف البشرية حدية[5].

هذه النظرة تعني أن حضور القرآن في نص السيرة كحق يراد إظهاره (الشدادي) أو دليل يتم الاستشهاد به أو أصل يتم تفسيره (جعيط) هو أمر مستبعد، فتأرجح حضور الآيات في نص السيرة ما بين بداية القصة ونهايتها وداخلها، ليس سوى عوارض لطبيعة حضور خاص للقرآن داخل نص السيرة، وهو الحضور عبر وسيط القص المشبع بالإسرائيليات، هذا القص المشبع بالإسرائيليات يستوعب الخبر المراد تسجيله ويرتفع به من تسجيل حدث واقعي لكشف تعالي هذا الحدث، تحضر الآية هنا مدمجة في القصة لا هي دليل و لا أصل يتم تفسيره بل جزء من نسيج القصة.

هل نستطيع بهذا أن نقول أن النص يمثل مصدرا في بناء السيرة لمتنها؟ ربما لا يكون الأمر دقيقا، ربما الأقرب أن نقول أن القرآن في نص السيرة أكبر من مصدر، وربما علينا التخلي عن فكرة المصدر والتشكيل التي لا تناسب هذا التشابك الذي ينطوي عليه بناء متن السيرة، بالأحرى نستطيع تشبيه الأمر بشبكة أول خيطها هو جزء منها في ذات الوقت، فنقول أن القرآن يحضر في نص السيرة كأرضية ينطلق منها كاتب السيرة نحو القصص الكتابي الأكثر اتساعا من أجل مسرحة أخبار يكون هو، أي القرآن أو الأخبار المقبولة حديثيا، مصدرها. (وهذا التشابك هو سبب الحيرة بين هل الآية بداية يشكل بعدها الخبر كما يقول جعيط، أم نهاية ينتهي إليها الخبر كما يقول الشدادي، والأقرب أن التمييز بين بداية ونهاية للخيط في شبكة هو أمر غير ممكن).

لو حاولنا الآن أن نجمل ما قلنا من أبعاد النص الخارجية «أهدافه وعلاقته بالسلطة السياسية»، والداخلية «علاقته بعلوم الحديث وتفسير القرآن وتعامله مع القرآن والأخبار» لتحديد طبيعة هذا القطاع، سنقول:

أن نص السيرة في هذا القطاع هو نص قصصي تخييلي يروي حدثا له مصدر مقبول حديثيا أو مصدره القرآن، ويعتمد في تخييله على القرآن نفسه لكن منفتحا على الإسرائيليات، ليتحول لنص شبكي هدفه سرد/كشف حدث متعال هو لحظة تلقي النبي للوحي بغرض استعادة ولو رمزية لهذه اللحظة الفذة.

إن هذا ينقلنا أخيرا للسؤال الرئيس لمقالنا وهو: كيف تكون هذه الطبيعة لنص السيرة و هذه الطبيعة لحضور القرآن و الأخبار المقبولة حديثيا داخله و هذه الكيفية لبناء متنه مستعينا بالتخييل هي الكيفية الأمثل لكشف/سرد لحظة تلقي الوحي؟

سنحاول إجابة هذا السؤال عن طريق مقارنة حكاية نص السيرة لهذه اللحظة بحكاية نص سيرة حديث لها، بالطبع نعني هنا نص جعيط الذي يرى ما روته السيرة اختلاقا يعارض الصورة التي رسمها القرآن لهذه اللحظة، فهذه المقارنة تطلعنا على أفضلية نص السيرة في التأريخ لهذه اللحظة.


القرآن بين نص جعيط ونص السيرة أو في وصف لحظة معاينة النبي للوحي

خطوتان يقوم بهما جعيط لبناء لحظة الوحي كما حدثت، الأولى نقد كل قصص السيرة عنها، والثانية اللجوء للقرآن لإعادة رسم هذه اللحظة.

قصة «غار حراء» بكل ما تشمله من جذب جبريل للنبي وممانعة النبي في القراءة وكل ما يليها من حديث عن رغبة النبي في الانتحار وعن قلق النبي من أن يكون قد مسه شيطان ثم برهان خديجة و حسرها الحجاب فالذهاب لورقة، كل هذا وفقا لجعيط مختلق تماما.

في ظن جعيط ليس كل هذا إلا خليط من إسرائيليات ومن ميثولوجي قرشي عن المرأة والشيطان، يختلف بل يضاد تماما ما يحكيه القرآن عن هذه اللحظة، فالقرآن في حكايته للحظة تلقي الوحي في سورتي النجم والتكوير، يحكي وفقا لجعيط عن حدث هادئ لا أثر فيه لا للصراع ولا للحيرة المحمدية ولا لكل هذا القلق والتزلزل.

هذا الكلام من جعيط يوضح تماما أن الاختلاف الرئيس بينه وبين كاتب السيرة القديم في التأريخ لهذه اللحظة يتركز في كيفية التعامل مع القرآن، أو ما عبرنا عنه بالنظرة للقرآن وطبيعة حضور القرآن في نص السيرة، فجعيط هنا في محاولة البحث عن هذا الحدث، حدث تلقي الوحي، يتعرض للقرآن كنص موثوق ومعاصر لدعوة النبي محمد، فيتناول تلك الآيات التي تتحدث عن هذه الواقعة، واقعة تلقي الوحي، يلجأ لآيات التكوير و النجم باعتبارهما يتناولان حدث تجلي كائن ماورائي للنبي محمد، ليصل بهذا لنتيجته بهدوء هذه اللحظة على عكس ما روت كتب السيرة.

الغريب أن جعيط نفسه يرى أن هذه الآيات هي استعادة للحدث بعد انقضائه ومحاولة لتفصيله مع الإبقاء على غموضه[6] مما يعني أن القرآن هنا ليس معاصرا تماما لهذه اللحظة التي يرويها بل هو يستعديها، وإذا كان هذا الغموض باقيا حتى في الاستعادة فإننا نتسائل عن مدى توتر اللحظة الأصلية المستعادة نفسها، إن كون هاتين الآيتين استعادة لحدث أسبق يعني أن ثمة ما هو محتجب خلف ما يرويانه، هذا المحتجب يجد ما يقوم بكشفه في بقية آيات القرآن التي تتناول أيضا حدث الوحي.

من مثل تلك الآيات التي تروي التزلزل الذي يصيب الأنبياء في تلقيهم للوحي قصة «يونس والحوت»، وقصة «تجلي الله لموسى»، و«حيرة مريم حين كلمها الملك وظنها أنه شيطان»، وتلك التي تروي المخاطر التي يعانيها الوحي حتى الوصول للنبي «آيات التسمع ثم الرصد بالشهب»، كل هذه الأمور تزيدنا حتما فهما للحظة لم تحضر موصوفة تفصيلا في القرآن إلا كاستعادة كما يرى جعيط!

لكن جعيط مع هذا فوت كل هذه الأمور على نفسه حين بحث عن آيتين يتحدثان بوضوح عن لقاء بالماورائي واستخدمهما كمصدر لتسجيل ما حدث وتوقف عند ظاهر ما تستعيداه دون محاولة كشف المسكوت عنه. هذا لأن القرآن هنا يحضر كمجرد مصدر للتأريخ وليس نصا له بواطن عديدة بقدر حيوية التجارب التي يسردها و ينفتح عليها و مدى حديتها.

ما قام به جعيط هو عكس ما قام به كاتب السيرة القديم تماما، فكاتب السيرة ونتيجة لطبيعة نصه الشبكية والتي حاولنا تحديدها قام بدمج هذا الحدث الواقعي المروي سواء في الآيات أو أخبار داخل تخييله المعتمد على القرآن منفتحا على الإسرائيليات، فالقرآن في هذا النص الشبكي هو سردية منفتحة على أشد تجارب الإنسان حدية، مكن هذا نص السيرة من مسرحة هذه اللحظة بهدف سردها/كشفها لا تسجيلها فحسب.

هذه المسرحة عبر التخييل والقص والدمج للإسرائيليات التي يمجها جعيط انتهت بنص السيرة لكشف ما لم يتحدث عنه القرآن في تناوله لهذه اللحظة «استعادتها»، أو تكلم عنه في مواضع أخرى، مثل القلق من الوقوع فريسة الشياطين ومثل شدة وطأة الوحي وثقله ومثل ما ينتاب الروح من صراع شديد في تلقيه، استعاد نص السيرة كل هذا في قصة الغار، في الصراع مع جبريل ورفض القراءة وقلق النبي.

إن قصة الغار بكل ما يتعلق بها تدل تماما على أن الكيفية التي يتناول بها نص السيرة الشبكي حدث الوحي هي الأفضل على الأطلاق في روايتها حيث لا تتوقف عن تسجيل هذه اللحظة فحسب بل تمضي إلي سردها/كشفها، مما يجعلنا نقول إن كتابة بيوغرافيا روحية للنبي انطلاقا من نص السيرة لهو أمر شديد الإمكان.


الهوامش:

1. البعض يعتبر السيرة نص في الأدب الشعبي الذي يرسم صورة بطل قومي، لكن ينبغي التركيز وكما يرى «غرينون»، و«باسورون» أن الثقافة الشعبية غير مجندة طول الوقت في موقع نضالي، بل هي تنشط في استغلال بل وخلق مساحة بعيدة عن الصراع، تصبح موضع لنشاط ترميزي أصيل، «مفهوم الثقافة في العلوم الإجتماعية» دينيس كوش، ص127، مما يعني أنه حتى مع هذه المقاربة فإن بعض أجزاء السيرة لا يمكن قراءتها بثنائية الأدب الرسمي/الشعبي المقاوم بما يعطيه من أهمية للأبعاد الإيدلوجية.

2. يدخل جعيط هنا في نقاش مع الشدادي حول مدى الإمكان التاريخي لتأثر كتاب السير بالأناجيل، لكن هذا لا يعنينا كثيرا في موضوعنا هنا، ما يهمنا هو النقاش الذي يطال حضور القرآن في نص السيرة

3. هشام جعيط، تاريخية الدعوة المحمدية، ص 30، 31.

4. في دراسته المذكورة بالأعلى يحاول العبدولي تحديد مدى ما طرأ على قصص القرآن عن إبراهيم من تغير في المدونات اللاحقة، فيحلل ما طرأ عليها من حذف وإضافة ودمج واستيعاب، واللجوء لقصص التوارة من أجل إجراء هذه التعديلات التي لها أهداف تتعلق بموقع نصوص العلوم التي تمارسها الأيدلوجي والمعرفي أو بإحداثياته كما عبرنا في المقال.

5. في هذا يرى الربيعو أن فتح القرآن على قصص الاسرائيليات كان غرضه الوصول بها لكشف تجارب الإنسان مع حدوده «العنف والجنس».

6. هشام جعيط، القرآن والوحي والنبوة، ص49.