فيلم «Promising Young Woman»: انتقام من الرجال اللطفاء
ينحدر الفيلم الأول للمخرجة اميرلد فينيل «شابة واعدة – promising young woman» من نوع سينمائي محدود اشتهر في سبعينيات القرن الماضي يطلق عليه أفلام انتقام الاغتصاب، ينحدر ذلك النوع من آخر أعم منه، وهو أفلام الانتقام. لا يملك هذا النوع الكثير من العمق أو الأفكار، لكنه يملك قيمة إشباعية؛ لأنه يصور بوضوح عملية العنف الجنسي، ثم الانتقام الدموي التفصيلي الذي ينصر الضحية ويجعل لها اليد العليا على المعتدين عليها، عادة ما يكون هؤلاء المعتدون مجموعة من الرجال المتربصين ذوي الميول العنيفة منعدمي الضمير والشعور، لا توجد صفات تشفع لهم، ولا يملكون شخصيات معقدة خارج كونهم مغتصبين.
يفكك شابة واعدة نوعًا مختلفًا من المتعدين، الشخص المتهم هنا هو الشاب الذي يقابله الجميع يوميًّا، بل ربما يكون قريبًا لك ، أو يكون أنت دون أن تدري، شاب يداوم على ذكر محاسنه، لطفه الشديد واهتمامه، هو ليس مثل الآخرين، ليس مستغلًّا، لم يفعل أي شيء خاطئ، كان صغير السن، ما يعرض النساء له ليس خطأه لكنه سوء تفاهم.
ربما يشعر الكثيرون بالغضب لرؤية شخصيات عادية هي العدو في الفيلم، ليسوا أشرارًا بل هم عادة أبطال الأفلام الرومانسية خفاف الظل سريعو البديهة بارعون في استخدام الكلام للوصول لما يبغون، لن يشعر أحد أن ذلك هو المجرم أو ذاك بعيدًا عن حياته أو عن الأفكار التي يتبناها أو يتبناها من حوله من الرجال، في مقابل ذلك يخلق الفيلم شخصية نسائية قوية، تسعى إلى الانتقام، لكن ليس لنفسها، بل لصديقة عمرها التي تعرضت للاعتداء، لكن الفيلم لا يتخذ من العنف الجسدي سبيلًا، بل تصبح رحلة البطلة أشبه برحلة لمواجهة الرجال بل والنساء أيضًا بهشاشة أفكارهم عن قيمهم الشخصية ولطفهم المدعى.
الخروج عن النوع
يتبع الفيلم شخصية كاساندرا أو كاسي (كاري موليجان) في رحلاتها الأسبوعية للملاهي الليلية حيث تدعي الثمالة لكي توقع بأحد الرجال، فيأخذها إلى بيته متصورًا أنها في حالة هشة تمكنه من التقرب منها أو ممارسة الجنس معها دون فرصة للرفض، وبعد أن تجاريه تكشف له أنها في حقيقة الأمر واعية تمامًا، في أول مرة يكشف لنا الفيلم نواياها، تكسر كاسي الحائط الرابع وتنظر إلينا مباشرة في تحدٍّ قائلة: “ماذا تظن نفسك فاعلًا؟” لا ينتهج الفيلم أسلوبية كسر الإيهام إلا في ذلك المشهد، لكي يكشف المتلقي أمام نفسه وما إذا كان يتفق مع أحقية الرجل في استغلال تلك الهشاشة أم سيذعر مثل الشخصية التي يراها أمامه.
عندما يأتي النهار تعمل كاسي في مقهى ذي ألوان ناعمة حية تشبهها، وتعيش في منزل والديها القلقين بسبب تأخرها في الزواج وتركها لكلية الطب، تعيش كاسي حاملة حقيقة ثقيلة، وهي أن صديقتها المقربة لم تعد على قيد الحياة إثر تدهور حالتها النفسية بعد تعرضها للاغتصاب على يد زميل لها في حضرة آخرين يصفقون ويشجعون ويقضون وقتًا ممتعًا، تسعى كاسي لانتقام يختلف عن ذلك الذي تصوره أفلام الانتقام النوعية العنيفة، تبث الذعر في النفوس عن طريق عرض الحقيقة، فبمجرد أن يكتشف الشاب أنها واعية لما حولها يهلع ويرفض التقرب منه، وكأن الطريقة الوحيدة لممارسة علاقة ما هي بإكراه الطرف الآخر فيما يتخبط غير واعٍ بما حوله.
يوحي الفيلم بالعنف عدة مرات، ففي أول مرة تقوم كاسي بمهمتها، لا نرى بقية المشهد، نراها تسير بملابس ممزقة وقطرات من الدم تسيل على ساقيها، بينما تلتهم شطيرة تسرب صلصة على أصابعها أو ربما تلك دماء أيضًا، يذهب العقل لتصور أن هدفها الرئيسي هو استدراج الرجال ثم قتلهم، لكن سرعان ما يكشف الفيلم عن نفسه، كاسي تستهدف الكشف والتعليم بالطريقة الصعبة، فهي تعرض الجميع لما تعرضت له صديقتها، تصنع واقعًا بديلًا حيث كان من الممكن أن تفلت وألا تواجه المصير الذي واجهته.
لا يقتصر انتقام كاسي على الرجال بل تستهدف النساء خالقات الأعذار للمغتصبين، اللاتي يرددن جملًا على غرار “لقد كانت ثملة ما الذي تتوقعه؟” أو “هل نفسد مستقبل شاب في سبيل اتهام دون دليل”، تواجه كاسي هؤلاء بحقيقتهن، فعندما يتعرضن هن أو أحباؤهن لنفس الموقف لن تنجدهم الأعذار، ويتخطى غضبها الأفراد ليصل إلى المؤسسات التي تدعم حق الرجال في الحصول على فرصة ثانية، وتترك ضحايا الاعتداء لمواجهة مصائرهم القاتمة.
لا يهتم الفيلم بإظهار العنف على الشاشة أو حادث التعدي نفسه، فلا يقع في فخ استغلال ضحيته، وتسليع جسدها بالتركيز على العنف الجنسي لفترات طويلة، لا يستغل الفيلم جسد بطلته أو معاناتها ولا ينقص ذلك من الفاجعة في شيء، في أحد المشاهد تشاهد كاسي مقطعًا مصورًا لحادثة صديقتها، تختار الكاميرا المكوث على وجه كاري موليجان تتبع كل اختلاجة في عضلات وجهها المضطرب، بكاءها لاسترجاعها للحادث وفقدان صديقتها ثم تحول الحزن إلى هلع حينما تتعرف على صوت حبيبها الحالي، نخمن معها صوته دون أن نشاركها صدمة الرؤية.
تظهر كاسي كنموذج لمسيح مخلص في ايكنوغرافيا تصويرها على الشاشة، نراها في منتصف الإطار يكلل نور الشمس خصلات شعرها المضفرة، لا يحاول الفيلم إخفاء رمزيته، بل يضغط عليها أكثر من مرة، تظهر كاسي في أحد المشاهد متوجة بهالة دائرية، يمتزج فيها ما هو روحي بما هو عادي ويومي، فبينما يبدو الإطار دينيًّا ويبدو وجهها وديعًا، لكنها مجرد فتاة تعمل في مقهى يملك ديكورًا جعلته الصدفة يبدو كهالة قدسية، في مشهد البداية تظهر كاسي بذراعين ممتدتين ورأس محنٍ، وفي مشهد النهاية المفاجئ تأخذ وضعية مشابهة، وربما بشكل أكثر مباشرة نظرًا لتضحيتها الأخيرة أثناء محاولاتها للانتقام، كل محاولات كاسي اقتصرت على التخويف، لكن في عمليتها الكبرى أرادت أن تلجأ للعنف، أن تشعر مغتصب صديقتها بالألم الذي شعرت به قبل رحيلها، كاسي ليست بوداعة ونبل نموذج للمسيح، بل تسعى لتنفيذ انتقامها، لا تدير الخد الآخر للمعتدي، لكنها حلقة أخرى في سلسلة مستضعفة، ليس لأنها ضعيفة، لكن لأن كل ما حولها يدعم الطرف الأقوى.
ظهرت الدعاية للفيلم بوصفه فيلم انتقام للاغتصاب، لكن تجربة مشاهدته غير متوقعة، فهو فيلم انتقام دون عنف أو دماء، فيلم يضحي فيه المنتقم في سبيل نشر فكرة معينة مثل نبي يسعى لنشر رسالته، لا تجعل تلك الرمزيات من شابة واعدة فيلمًا قاتمًا أو جديًّا، في واقع الأمر يتبنى الفيلم جماليات أفلام المراهقين الخفيفة الملونة التي يتهمها الكثيرون بالتفاهة.
احتضان التفاهة
يبدأ الفيلم بأغنية لإحدى نجمات البوب المعاصرات شارلي أكس سي أكس بعنوان “الأولاد boys”، أغنية ذات نزعة مراهقة ولحن إلكتروني راقص، تغنى من وجهة نظر فتاة فتية كل ما يشغل بالها هو الفتيان الوسيمين، فتيان الأحلام، تخرج فينيل أغنيات البوب الشابة من سياقاتها الحالمة، فتلعب تلك الأغنية كخلفية لرجال يرقصون بعنف بوضعيات إيحائية، تركز الكاميرا على أجسادهم المترهلة وحركاتهم الجنسية، لا شيء رومانسي في ذلك، وعندما تبتعد نرى الصورة الكاملة، فهم مجموعة من الشبان الثملين الذين يمثلون التهديد الأساسي لكاسي وأي فتاة أخرى في محيطهم.
عندما تمضي كاسي في طريقها بشعر أشعث وملابس رثة بعد تركها للضحية الأولى التي يصورها الفيلم نسمع في الخلفية أغنية «إنها تمطر رجالًا – It’s raining men» الشهيرة، يمتلئ الشارع حولها برجال متربصين في كل جانب يلقون تعليقاتهم السخيفة وتهديداتهم المقلقة، وعندما تقع كاسي في الحب تصنع فينيل مونتاجًا تقليديًّا على ألحان أغنية مشرقة لباريس هيلتون، نرى الثنائي يضحكان ويرقصان ويتبادلان تجارب الحياة حتى نصل إلى أن هذا المشهد يعمل كتحية للأفلام الرومانسية الكوميدية، وكسخرية من عدم واقعيتها في الوقت نفسه.
تلجأ فينيل لاستخدام علامات في تاريخ موسيقى البوب قديمها وحديثها تختارها بعناية ومباشرة سواء في وصف الحدث أو في قلب معناه، يتماشى اختيار الموسيقى الشابة التي غالبًا ما تؤديها نساء شهيرات ثريات لا يخجلن من أنوثتهن مع الخيارات البصرية والسمعية الأخرى في الفيلم، يسيطر اللون الوردي بوضوح على جماليات الفيلم، ليس فقط لأنه لون يرتبط ذهنيًّا بالأنوثة، لكن لأنه لطالما هوجمت الإناث بسببه، عندما يصنع الرجال أفلامًا تروق للمراهقات يخترون اللون الوردي والشعر الأشقر لوصف نوع معين من الفتيات المتكبرات الضحلات ذوات البعد الواحد، لكن فينيل تحتضن ذلك دون خجل، تأخذ كل ما يجعل تلك الأفلام مدعاة للسخرية وتمتلكه وتصبغ به بطلتها والعالم الذي تسكنه.
على غرار صوفيا كوبولا تعيد اميرلد فينيل احتضان الثقافة الشعبية المرتبطة بسطحية أو تفاهة النساء من أغنيات ملكات البوب وتصميم الملابس الأنثوية بألوان فاتحة، وحتى استخدام الشعر الاشقر كجمالية مضادة لفكرة الصورة النمطية للشخصية القوية، تصمم فينيل بمساعدة مصممة الأزياء نانسي شتاينر شخصية فتاة تملك ميولًا عنيفة وجرحًا عميقًا تسعى إلى التخلص منه لكنها تملك حسًّا محددًا ومميزًا فيما تفضله في مظهرها، تزين شعرها المموج بضفائر رقيقة وترتدي الملابس الوردية والبنفسجية وتطلي أظافرها بألوان متعددة مثل علبة حلو، تملك حسًّا شخصيًّا أقرب للطفولة منه إلى الأنوثة، وكأن حياتها توقفت عند لحظة الصدمة وترفض تخطيها.
على عكس مثلًا تصميم شخصية تشارليز ثيرون في فيلم يقع تحت تصنيف انتقام الاغتصاب «وحش Monster» أصبحت ثيرون نسخة أقل جمالًا من نفسها، فقدت رشاقتها وشعرها الذهبي واستبدلت ببشرتها الملساء أخرى مبثرة وغير متناسقة، تستدرج الرجال ثم تقتلهم بعنف، اختارت فينيل وضع كاري موليجان في شخصية مغايرة عنها عادة ما يستغل وجه موليجان الوديع في أدوار نساء من عصور أقدم، ترتدي المشدات وتبتسم برقة، هنا هي نسخة أكتر صبًى ومرحًا من ذاتها، استبدلت بشعرها القصير آخر أطول وأكثر شقرة ووازنت ببراعة بين إضافة رقة طفولية إلى حدة جنسانية جريئة إذا تطلب الأمر، تملك أسلوبًا وصوتًا حادًّا على عكس صوت موليجان الهامس، وبديهة حاضرة وقدرة على التسبب في الأذى، لكنها أيضًا صاحبة ضمير يقظ ومشاعر طبيعية.
تخرج فينيل الفيلم النسوي كتصنيف من نطاق العنف ومحاولة الظهور بقوة ذكورية، بل تستخدم كل ما يتم السخرية منه فيما يسمى أفلام النساء لصالحها، لأنه لا شيء يثير الخجل في كون الفن النسوي أنثويًّا.
قيمة التطهير
نظر أرسطو أحد أقدم منظري الدراما لمفهوم أسماه التطهير أو التنفيس catharsis، وهو خروج المتلقي بعد اختباره للعمل الفني بنوع من الإشباع والتطهير عن طريق الشفقة على الأبطال أو الخوف من مصائرهم، يكمن التنفيس أيضًا في الإشباع الناتج عن الانتقام، في تلقي المجرم عقابه وانتصار العدالة، لكن يملك آخرون أكثر حداثية نظريات مضادة للتطهير، أشهرهم برتلود بريخت الذي يرى أن النهايات غير المرضية للأعمال الفنية تحفز المتلقي على الفعل والاعتراض في العالم الحقيقي، فيصبح الفن أكثر من مجرد أداة لتنفيس الغضب وإشباع المشاعر.
يستخدم الموت في القص كأداة لتنفيذ العدالة أحيانًا، ففي تاريخ السينما تقتل العديد من الأقليات أو من يعتبرون منحرفين أخلاقيًّا أو أيًّا كانت الشخصية التي لا يتفق مع توجهاتها صناع الفيلم، لكي يشعر المتلقون بنوع من الخلاص أو تحقيق العدل حتى إذا لم يكن ذلك مقصودًا، في شابة واعدة يموت المظلومون كقرابين وشهداء، لكن ذلك يترك راسبًا مرًّا يمنع شعور الخلاص المستحق، فلا نرى رجلًا متعديًا يواجه مصير الموت، لكن ما سعت له فينيل هو تقرير أن الرجال يهربون ببساطة من العقاب في العالم الحقيقي بمؤسساته المعيبة التي تتجاهل شهادات الضحايا.
لا تهتم فينيل بالتطهير الذي يختبره المشاهد من انتقام دموي مرتقب، لكنها ببساطة تثبت نقطتها، لكن ما يضعف تأثير تلك اللحظة هو تصور أن شخصية كاسي يمكنها أن تثق في النظام والشرطة لتنفيذ عدالة حقيقية، هي اعتمدت فقط على وجود أدلة جازمة تضمن تنفيذ العقاب، فبعد تضحيتها تزرع كاسي أدلة تدين مغتصب صديقتها بالقتل، لكن هل يكفي ذلك كانتقام لفعلته الأصلية؟ وهل ستلتفت الشرطة إلى حقيقة أن حبيبها كان أحد الشهود على واقعة التعدي فيأخذ عقابه الذي توعدته كاسي به، بل هل ستعتبر السلطات مقطعًا مصورًا في حفلة يصور طلابًا يتعدون على فتاة ثملة اغتصابًا من الأساس؟
تخلق نهاية الفيلم تساؤلات عدة عن رؤية فينيل للمنظومة التي تهاجمها ورؤيتها لبطلتها، لكن إذا نزعنا ارتباط الموت بالعقاب والحياة بالانتصار فإنه يمكن اعتبار الفيلم عن مواجهة الألم ومحاولة التغيير على نطاق أعمق من مجرد تنفيذ انتقام محكم، كاسي لم تنتصر لكننا لسنا في عالم تنتصر فيه النساء بعد.