لمحات من تاريخ الأندلس: الفايكنج في إشبيلية
على ضفاف نهر الوادي الكبير، كانت مدينة إشبيلية تواصل رقدتها النعساء، كعروس في صباح زفافها المتجدد. كواحدة من أرقى حواضر الأندلس في ذلك الوقت، كانت حمص – كما كان يسميها العرب لشبهها الكبير بحمص الشام – غارقة حتى الثمالة في ضروب النعيم.
لعل من أبرز تجليَّات نعيم إشبيلية هذا الأمان الفريد الذي تتمتع به في جنوب الأندلس الإسلامية، حيث تفصلها مئات الكيلومترات، وعشرات الغابات والتلال والهضاب، ومئات الحصون، وعشرات الآلاف من الجنود والفرسان، عن الثغور الأندلسية في الشمال، والتي كانت دائمًا وأبدًا ساحة مفتوحة للصدام، والكر والفر، بين الأندلس الإسلامية، وخصومها في الممالك الإسبانية النصرانية في أقصى شمال شبه الجزيرة.
لكن دائمًا ما تأتي الأقدار بكل جديد، سواءً بالأبيض أو بالأسود. سيتفتت ذلك المشهد الوديع المستقر كزجاجة أصابتها قذيفة مدفع في صباح ذلك اليوم من أيام عام 230هـ. سيندفع الرعب في شوارع وأزقة المدينة كفيضانٍ مسعور، وسيرى سكان إشبيلية الشائعات التي تكاثرت في الأيام السابقة متجسدة في مياه نهرهم التي طالما حملت إليهم الخير، لكنها ستحمل إليهم الآن الموت القادم من الشمال.
أندلس عبد الرحمن الثاني
عام 206هـ، تولى عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل إمارة الأندلس الإسلامية. كان الأمير الشاب يحمل من جده عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة الأموية الأندلسية أكثر من الاسم، فلم يتوان مثلّه في محاربة أكبر خطر كان يهدد الأندلس دائمًا وأبدًا، ويضعف جانبها في مواجهة أعداء الشمال المتربصين، وهو خطر الفتن الداخلية، وأطماع القادة المحليين. وكلما كان تهدأ الجبهة الداخلية، كانت جيوشه تندفع شمالًا لتأديب الممالك النصرانية الشمالية التي لم تكن تكف عن استغلال اضطرابات الأندلس لتمد أذرعها جنوبًا، سلبًا، ونهبًا، ولتنتزع بعض المواقع الحدودية الإستراتيجية.
بالتوازي مع المد العسكري، وصليل السيوف في الثغور الأندلسية، لم يكن هناك صوتٌ يعلو فوقَ صوت العمران والرفاهية خاصة في حواضر الأندلس الكبرى جنوبًا خاصة العاصمة قرطبة، وإشبيلية، وبلنسية، وغرناطة. أمر عبد الرحمن بتوسعة جامع قرطبة الكبير، وأغدق بغير حساب في عمرانه وزخرفته، كذلك ازدانت العاصمة قرطبة في عهده بالكثير من القصور الباذخة والقناطر والحدائق.
كذلك كانت الأندلس تستورد مبتكرات الرفاهية من الشرق، فاستقدم عبد الرحمن المغني الشهير في البلاط العباسي زرياب، وأغدق عليه، ليحمل زرياب إلى المجتمع الأندلسي الكثير من نوادره في الغناء والموسيقى والطعام وحتى قصات الشعر وديكورات المنازل. كذلك تم استقدام بعض الجواري الموهوبات بالغناء من المدينة المنورة، وتأسيس مدرسة لهن بقرطبة عرفت بدار المدنيات.
بعد ربع قرن من حكمه، كان الأعم الأغلب فيها تحقيق المعادلة الصعبة بين الرفاهية والقوة العسكرية، لم يدُر بخلد عبد الرحمن الثاني أن الأندلس في عهده ستكون على موعد مع خطر فريد لم تشهد مثله من قبل، وأن 40 يومًا من الرعب والموت على وشك أن تدهم إمارته وارفة الظلال في عقر دارها .. في الصميم.
غزاة الشمال ونثر الموت جنوبًا
في أقصى شمال القارة الأوروبية، في شبه الجزيرة الإسكندنافية، بالأخص في أراضي دولتي النرويج والدنمارك الحاليتين، طفا الفايكينج على سطح التاريخ منذ منتصف القرن الثامن الميلادي، الموافق للقرن الثاني الهجري. سيستمر ذلك المد العسكري للفايكينج لثلاثة قرون، وسيغمر العديد من سواحل أوروبا الغربية، وسيطال روسيا، والقوقاز، وشمال أفريقيا، وحتى سيصل إلى سواحل كندا الحالية قبل قرونٍ من رحلة كريستوفر كولمبس الشهيرة إلى العالم الجديد.
كان الفايكينج يعيشون بالسيف والشراع، وكانوا أمة صعبة المراس، تمتلك الآلاف من المقاتلين الأشداء الذين صقلتهم صعوبة الطبيعة في الشمال في أحضان الغابات الجليدية، والجبال والهضاب الوعرة. كان الفايكينج في بادئ الأمر وثنيين، قبل أن يحتكوا بالثقافة المسيحية في أوروبا في القرون التالية، ويتشربوها، وإن لم تكن حائلًا أبدًا أمام استمرار توسعاتهم وأطماعهم. في أواخر القرن الثامن الميلادي، ومطلع القرن التاسع، حملتهم سفنهم إلى سواحل إنجلترا فعاثوا فيها سلبًا ونهبًا وتخريبًا. على مدار عشرات السنين،استمرت غزوات الفايكينج في الاندفاع جنوبًا خاصة إلى الموانئ الغنية، ومكامن الثروة.
رغم بعد المسافة بين الأندلس في أقصى جنوب غربي القارة الأوروبية، وبين معاقل الفايكينج الرئيسة في أقصى الشمال، فلم تكن حضارة الأندلس، وثرواتها المهولة ببعيدة عن أسماع الفايكينج ومطامعهم، خاصة عندما زاد توغل أساطيلهم وجيوشهم جنوبًا في سواحل فرنسا الحالية القريبة من الأندلس، وأقاموا بها مستعمرات ومعسكرات خاصة بهم.
عام 844م = 229هـ، كانت الأندلس على موعد مع المفاجأة الدموية غير المتوقعة. ظهرت 80 سفينة حربية للفايكنيج على حين غرة أمام ساحل مدينة لشبونة عاصمة البرتغال الحالية، وكأنها تولَّدت من العدم. لم يكن لإمارة الأندلس الإسلامية أسطول قوي، لأن أغلب حروبها الداخلية والخارجية كانت حروبًا برية، ولم يكن لها في ذلك الوقت خضومٌ بحريون.
أرسل والي لشبونة وهب الله بن حزم النذر على وجه السرعة إلى الأمير عبد الرحمن الثاني في قرطبة بالخطر الداهم الجديد. اندلعت المعركة بين الغزاة المتعطشين للأسلاب والغنائم وحامية المدينة التي حاولت أن تدافع بكل ما تملك من قوة ضد أكثر من 15 ألفًا من مقاتلي الفايكينج. استمرت الحرب في لشبونة لأكثر من 13 يومًا بين كر وفر. لم يطل الفايكينج المقام في لشبونة كثيرًا، فحصلوا على حاجتهم من المؤن، ثم اندفعت مدنهم شرقًا عبر نهر الوادي الكبير إلى القواعد الأندلسية الداخلية، المكتظة بما لذ وطاب من الثروات والغنائم.
أوائل المحرم عام 230هـ، وصلت السفن الغازية إلى مدينة إشبيلية التي كانت آنذاك ضعيفة التحصين، لا تمتلك سورًا من الأساس، ولعل السبب في ذلك هو بعدها عن الثغور. كانت حامية المدينة وسكانها على موعد مع الصدمة المروعة. اندفع الغزاة المتعطشون في كافة أرجاء المدينة سلبًا ونهبًا وتقتيلًا وترويعًا، وكانت الأمداد والنجدات القادمة من قرطبة وغيرها من نواحي الأندلس ما تزال في الطريق.
استمر عيث الفايكينج بإشبيلية لسبعة أيام متواصلة، قتل وأسر خلالها عشرات الآلاف من أهل المدينة، وطمست الكثير من معالمها، ثم ترك الفايكينج إشبيلية ليواصلوا اعتداءاتهم على الضواحي والمدن القريبة منها.
هجوم أندلسي مضاد
أعلن عبد الرحمن الثاني النفير العام في كافة أرجاء الأندلس لنجدة إشبيلية. تقدمت القوات الأندلسية بقيادة القائد نصر الصقلبي، لتواجه جيش الفايكينج قرب قرية طلياطة غير البعيدة عن إشبيلية.
في الخامس والعشرين من شهر صفر 230هـ ، دارت بين الجيشيْن معركةً حامية الوطيس، تمكنت فيها جيوش الأندلس من إيقاع هزيمة ثقيلة بالفايكينج، رغم وصول بعض الأمداد البحرية لهم. فرّت فلول الفايكينج إلى سفنهم الراسية في النهر، وحينها استخدمت الجيوش الأندلسية ما كان يعرف بالنار الإغريقية على رءوس السهام والمجانيق، لتنجح في إحراق أكثر من 30 سفينة معتدية. وسيسقط قائد جيش الفايكنج قتيلًا في تلك المعركة.
ستطارد القوات الأندلسية الغزاة في رحلة فرارهم بطول نهر الوادي الكبير لتحاول استعادة أكبر قدر ممكن من الأسرى عنوةً أو افتداء أو في تبادل للأسرى. بعد حوالي 43 يومًا من بداية غزوتهم قرب ساحل لشبونة، كانت آخر سفن الفايكنج تولي الأدبار هائمة في غمار المحيط الأطلنطي بعيدًا عن الأندلس.
أمر عبد الرحمن الثاني بإرسال البشارات إلى كافة أرجاء الأندلس والمغرب بالنصر الذي تحقَّق على المجوس الأردمانيين كما كان يسميهم المسلمون في الأندلس، فوصف المجوس عائدٌ إلى أنهم كانوا وثنيين، ووصف الأردمانيين تحريف لكلمة النورمانيين التي تعني أهل الشمال.
توابع المعركة
كان للثمن الباهظ الذي دفعته الأندلس دماءً وخرابًا، نتيجة تلك الغزوة البربرية أثرٌ كبير في القرارات التي اتخذتها حكومة قرطبة لمنع تكرارها. أمر عبد الرحمن الثاني بإنشاء دار عظمى لصناعة السفن في إشبيلية، وأنشأ نواة لأسطول أندلسي كبير سبيلغ ذروة قوته بعد قرن من عصره، وذلك في أيام حفيده عبد الرحمن الناصر الذي يعتبره الكثيرون أقوى حكام الأندلس الإسلامية على مدار تاريخها.
كذلك شرع عبد الرحمن في تحصين إشبيلية، وإحاطتها بسور ضخم. كذلك اهتمت حكومة قرطبة ببسط سيطرتها على الجزر الحيوية القريبة من الأندلس في كافة الاتجاهات، حتى لا تكون منطَلَقات للإغارة على السواحل الأندلسية، وكان بداية هذا باستلاء جيوش الأندلس في عهد عبد الرحمن الثاني عام 234 هـ على جزر البليار شرق الساحل الأندلسي.
في العام التالي للحرب، واستكمالًا لسلسلة المفاجآت القادمة من الشمال، فوجئ بلاط قرطبة بوفد من الفايكنج يطلب عقد أواصر السلم والمهادنة بين الجانبيْن. وافق عبد الرحمن على الصلح، وأرسل الشاعر الأندلسي الشهير الغزال – وكان قد تجاوز الستين من عمره – مبعوثًا منه إلى بلاط ملك الفايكينج في الدانمارك، وذلك لما يمتاز به من حنكة وذكاء، وقدرات، ظهرت خلال سفارةٍ سابقة له من طرف عبد الرحمن إلى البلاط البيزنطي في القسطنطينية.
احتفى ملك الفايكينج بالغزال، وبما حمله إليه من الهدايا الأندلسية. عاد الغزال من سفارته بـ عد أكثر من 20 شهرً ا، ليقص على الأمير وعلى خاصة قرطبة وعامتها الكثير من الطرائف التي رآها لدى الفايكينج، وكذلك بأبيات من الشعر تغزَّل بها في ملكة الفايكينج.