أساتذة ابن إسحاق: من هم رواة السيرة الأوائل؟
متى كانت غزوة بدر، كيف أعد لها رسول الله، وماذا حدث فيها، وما نتائجها؟
مثل هذه الأسئلة وغيرها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وغزواته، كانت تُدار في مجلس الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان (41-60هـ)، ومن هذه المجالس التي تناولت دور الرسول في الغزوات والفتوح، وقدرته السياسية والعسكرية، وأخلاقه في الحروب، خرج علينا ما يُعرف بأدب السيرة.
حياة مثالية
يرجع نشأة أدب السيرة عند المسلمين، لاهتمام الصحابة ومن بعدهم التابعين إلى رصد وتحري الدقة في جميع أفعال وأقوال الرسول- صلى الله عليه وسلم- لأنه النموذج الأوضح والأشمل للإسلام، والقدوة الحسنة التي يجب أن يتبعها كل مسلم.
أيضًا لأن حياته مثالية في جميع جوانبها ومستوياتها ودراستها متعة روحية وذهنية، كما قال الدكتور عبد الشافي محمد في كتابه «السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي»، وهذا ما يؤكده المستشرق «مونتيه» في وصف وضوح حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم: «ولقد ندر بين المصلحين من عُرفت حياتهم بالتفصيل مثل محمد، وإن ما قام به من إصلاح الأخلاق وتطهير المجتمع يمكن أن يُعد به من أعظم المحسنين للإنسانية».
الرواة الأوائل
لم يهتم الصحابة بتدوين سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بحكم أنهم عاصروه في جميع مراحل حياته، كما أنهم لما وهبهم الله من قوة الحافظة وسرعة البديهة، أمكنهم من حفظ كل كلمة نطق بها أو فعل قامه به بشكل دقيق جدًا، لكن بمرور الزمن وظهور جيل التابعين، ظهرت الحاجة إلى تدوين وتسجيل السيرة النبوية، والتأريخ للعهد النبوي.
فبحسب عبد الشافي محمد في كتابه، بدأ التابعون يسألون الصحابة عن أدق أدق التفاصيل عن حياة الرسول، سواء في المدينة المنورة أو مكة أو البصرة والكوفة أو الشام أو مصر، فأينما وجد صحابي وجد تابعي يسأل عن الرسول، وهكذا انطلقت أقلام التدوين ما بين القرنين الأول والثاني للهجرة.
ويمكن تقسيم المراحل الأولى لتدوين السيرة إلى ثلاث طبقات كما ذكرها المستشرق «يوسف هوروفنتس» في كتابه «المغازي الأولى ومؤلفوها».
رجال الطبقة الأولى
أبان بن عثمان
هو ابن أمير المؤمنين عثمان بن عفان- رضي الله عنه- وقد لد قبل 20 للهجرة، وتلقي العلم مبكرًا حتى أصبح من كبار فقهاء المدينة، كما أن له شهرة حسنة بين المحدّثين، وكذلك اشتهر في روايته لمغازي وسيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويُعد مؤسس هذا الفن، فهو أول من دوّن مجموعة خاصة تتناول المغازي، كما أوضح «هوروفنتس» في كتابه.
واتسمت تلك المجموعة التي وصلتنا عن طريق المغيرة بن عبد الرحمن، الحديث عن المغازي التي شارك فيها الرسول، وقد دونت في كتب المحدّثين، كما ذكر ابن سعد في كتاب «الطبقات».
عروة بن الزبير
هو ابن الزبير بن العوام بن خويلد، وأمه أسماء بنت أبي بكر (ذات الناطقين)، وقد ولد في المدينة المنورة سنة 26هـ، وقد تأثر بهما في نشأته العلمية، كما أخذ عن خالته عائشة بنت أبي بكر زوجة الرسول، ما لم يأخذ من غيرها من العلوم، ولقد كان كثير التردد عليها وسؤالها، مما جعله من أبرز علماء عصره، فهو أحد فقهاء المدينة السبعة.
أما عن جمعه للسيرة فقد ورد في كتب ابن إسحاق والواقدي والطبري، أن عروة كان يرسل إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، رسائل دوّن فيها أخبار المغازي للرسول، وأخرى عن هجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- للمدينة، أو عن هجرة المسلمين للحبشة، فهو كان ملمًا بالأحداث الأولى في الإسلام.
وبحسب «يوسف»، تمثل كتابات عروة، أقدم المدونات التي سجلت لنا حوادث خاصة في حياة الرسول، كما تمثل أقدم نصوص النثر التاريخي العربي.
شرحبيل بن سعد
هو ثالث الرجال المهتمين بتاريخ المغازي وسيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فهو من موالي بني خطمة، نشأ في المدينة المنورة، وأخذ علمه من العديد من الصحابة، منهم: زيد بن ثابت، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وقد عاش أكثر من 100 عامٍ.
أما عن جمعه لأخبار السيرة فهو أول من أعد قوائم بأسماء المهاجرين إلى المدينة، وأسماء الرجال الذين اشتركوا في غزوتي بدر وأحد، وقد قال عنه سفيان بن عيينة: «لم يكن أحد أعلم بالمغازي والبدريين منه»، لكن لتقدمه في العُمر واختلال عقله، دفع العلماء أن يتركوا علمه وما قاله في السيرة، ولم يدون عنه في الكتب سوى ابن سعد في كتابه «طبقات ابن سعد»، ساردًا أحداث هجرة الرسول من قباء إلى المدينة المنورة.
وهب بن منبه
يختلف عمّن سبقه بأنه أول من اهتم بحياة الرسول ومغازيه من خارج المدينة المنورة، فهو ولد باليمن في مدينة قرب صنعاء، سنة 34هـ، وهو من الرجال الثقات، فقد روى عن ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة.
ويًعد من الثقات المعتمدين في سرد قصص الأنبياء، وينسب له كتاب في المغازي، محفوظ في مكتبة هيدلبرج في ألمانيا، تناول فيه: تاريخ العقبة الكبرى، وحديث قريش في دار الندوة، والاستعداد للهجرة، والهجرة ذاتها، ووصول النبي للمدينة، وغزو بني خيثمة»، وما يميز هذا الكتاب أنه لم يذكر رواته، بل حكى الأحداث كعادة القُصاص، ولم يذكر من أخذ منهم أحداث السيرة.
رجال الطبقة الثانية: أساتذة ابن إسحاق
عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري
من علماء الطبقة الثانية من مؤلفي المغازي والسير، فهو من أهل المدينة المنورة، فجده عمرو من صحابة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقد نشأ عبد الله في بيت علم، واهتم برواية الحديث، خاصة الأحاديث التي تناولت أخبار المغازي وحياة النبي، وهذا ما تأكده كتب ابن إسحاق والواقدي وابن سعد والطبري في كتبهم.
كما يشير « هوروفنتس «، إلى أن كتاب «المغازي» المذكور في كتاب «الفهرست» لابن النديم، والمنسوب للقاضي عبد الملك بن محمد القاضي (ت 176هـ) قد أخذ ما فيه من عمه عبد الله بن أبي بكر، واتسمت السيرة التي كتبها، بالاهتمام بشباب النبي وأعوامه الأولى، ووفود القبائل العربية على النبي، ورسائل النبي، وذكر الرواة، كما أنه أول من قام بسرد الأحداث وفقًا لترتيب السنين، فجمع قائمة بغزوات النبي مرتبة ترتيبًا سنويًا، وعنه أخذ ابن إسحاق الترتيب الزمني للأحداث في كتابه.
عاصم بن عمر بن قتادة
ولد في المدينة المنورة، وعن والده أخذ الحديث، وكان عالمًا بالمغازي والسيرة، وعن هذا يقول ابن سعد في كتابه «الطبقات»، أن عاصم ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز في دمشق لقضاء دينه، فأمره أن يجلس في مسجد دمشق، ويحدّث الناس عن مغازي الرسول، ومناقب صحابته، ففعل، وهو بذلك يُعد أول من جلس لتدريس سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- على الناس، كعلم مستقل عن علم الحديث.
ويرجع ذلك إلى أن معرفة عاصم في السيرة والمغازي كانت مشهورة، ويعد من الرواة الثقات، وقد أخذ عنه ابن إسحاق والواقدي في كتبهم، وقد اهتم عاصم في قصه للسيرة بشباب النبي والفترة المكية عامة، كما أهتم بالمغازي.
محمد بن مسلم بن شهاب الزهري
من بنو زهرة، إحدى القبائل المكية، كما أنهم أخوال النبي، وقد عاش أكثر عُمره في دمشق إلا أنه كان يذهب إلى مسقط رأسه المدينة المنورة أحيانًا، وكان له نفوذ كبير فيها ومكانة خاصة عند أمراء بني أمية، ويرجع ذلك إلى معرفته لأنساب العرب التي درسها على يد عبد الله بن ثعلبة، ثم تلقيه العلم على يد سعيد بن المسيب، لذا وصفه عِراك بن مالك بأنه «أعلم أهل المدينة»، لأنه جمع علم عروة وسعيد وعبيد الله.
لم يُعب عليه غير صلته الوثيقة بالخلفاء الأمويين، وأيضًا قاله عنه الليث: «ما رأيت عالمًا قط أجمع من ابن شهاب، ولا أكثر علمًا منه».
وما يميزه عن غيره من علماء عصره، أنه اهتمَّ بتدوين كل ما وصل إليه من الحديث، وعن هذا يقول أبو الزناد، زميل الزهري في الدراسة، ورفيقه في بلاط هشام بن عبد الملك: «كنت أطوف أنا والزهري معه ألواح وصحف، فكنا نضحك به، وكان يكتب كل ما سمع»، ويحكي عنه صالح بن كيسان قائلًا: «كنت أطلب العلم أنا والزهري، فقال: تعال نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي، ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة، فكتب ولم أفعل».
هذه الروايات عن الزهري، تؤكد حبه للتدوين، وله العديد من الكتب التي كانت تملأ خزائن الكتب في قصور الأمويين، إلا أن ما جمعه من أخبار السيرة لم يصلنا إلا عن طريق ابن إسحاق في كتابه، وقد اتسم الزهري في سرده للسيرة أنه أخذ من جميع من سبقه ورتب ونسق ما وصل إليه عن الرسول (صلي الله عليه وسلم)، هذا إلى جانب عنايته بالإسناد في سرده لما يقوله من أخبار النبي، مما جعله من أعظم مؤرخي المغازي والسير، وجعل لها قالبًا مميزًا، عرف باسم أدب السيرة.
رجال الطبقة الثالثة: تلاميذ الزهري
وهم ثلاث تلاميذ تلقوا السيرة على يد الزهري، وألفوا في المغازي، وهم موسى بن عقبة، ومعمر بن راشد ومحمد بن إسحاق.
أما موسى بن عقبة فهو كما قال مالك بن أنس: عليكم بمغازي موسى بن عقبة، فإنه ثقة، كانت له حلقة علم في مسجد الرسول، وله كتاب في السيرة لم يصلنا، ولكن وجد مقتطفات منه في الطبقات لابن سعد وتاريخ الطبري.
أما معمر بن راشد فهو من الموالي، كما أنه من أهل الكوفة كما ذكر ابن النديم في كتابه، ثم ارتحل في طلب العلم حتى جلس على يد الزهري مثل ابن عقبة، فتلقى عنه كثيرًا من أخبار المغازي والسير، ووضعها في كتاب عُرِف بـ«كتاب المغازي» لكنه لم يصل إلينا منه سوى مقتطفات في كتب الواقدي وابن سعد والبلاذردي والطبري.
وأخيرًا، يأتي محمد بن إسحاق، صاحب أول كتاب يصل إلينا فيه ذكر سيرة ومغازي الرسول، صلى الله عليه وسلم، فاقت شهرته جميع من سبقه وعاصره في التدوين وجمع السيرة والمغازي، وذلك لأن كتابه وصلنا كاملًا دون أي اقتطاع منه، الذي جمع مادته من الزهري، وفاطمة بنت المنذر زوجة هشام بن عروة، وعاصم بن عمر، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وغيرهم من المحدثين الذين عاصرهم.
وعُرف كتاب ابن إسحاق بـ «كتاب المغازي»، وقسمه إلى ثلاثة أجزاء: المبتدأ، والمبعث، والمغازي، وفيه ذكر تاريخ الرسالات قبل الإسلام، وشباب النبي وأخباره في مكة، وأخيرًا فترة المدينة المنورة.