إشكاليات التقدم: كيف رأى «هـ. ج. ويلز» المستقبل؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
انتاب هـربرت جورج ويلز قلق دائم بشأن مستقبل البشرية. فبينما كان يأمل في إحراز تقدم في الشؤون الإنسانية، كان يدرك جيدًا أنه أمر ليس بحتمي ولا مضمون الاستمرار. احتفى ويلز على مدى حياته المهنية بالتطورات التكنولوجية التي أحدثت ثورة في الحياة، لكنه خشي من أنها قد تؤدي في نهاية المطاف إلى انتكاسة، أو، كما حدث في عام 1914، حربًا كارثية. كما كان مدركًا لوجود خلافات حول ما يمكن اعتباره تقدمًا من الأساس. إن تزويد الجميع بمزايا الصناعة الحديثة قد لا يكفي، خاصة أن الابتكار التكنولوجي المستمر يتطلب إعادة تشكيل المجتمع بشكل مستمر. كانت الخطوات التقدمية التي أدخلت اختصاصات جديدة تمامًا، في كل من التطور البيولوجي والاجتماعي، عرضية وغير محدودة ولا قابلة للتنبؤ. وقد تضاعفت أوجه عدم اليقين هذه من خلال إدراك أنه، فيما يتعلق بالابتكار التكنولوجي، كان يستحيل عمليًّا التنبؤ بالاختراعات المستقبلية أو بعواقبها بعيدة المدى. حتى إذا استمر التقدم، فسيكون أشد جموحًا بكثير مما يتصور المدافعون عن الفكرة التقليدية للتقدم.
كان الخوف من عدم محافظة الجنس البشري على معدل نموه الحالي، هو المنبع الأساسي لعدم التيقن عند ويلز. في قصة «آلة الزمن»، المنشورة عام 1895، تخيل رائد الخيال العلمي مسافرًا في الزمن تُعرض أمامه حقب التقدم المستقبلي، فيقول: «رأيت معمارًا عظيمًا وباهرًا يرتفع أمامي، معمارًا أضخم من أي مبانٍ في عصرنا، ومع ذلك، فقد بدا لي مشيدًا من بريق وضباب». لكن المطاف سينتهي بمسافر الزمن في عالم أطاح به الانقسام الاجتماعي والتنكس. إن المورلوك المتوحشين هم أحفاد العمال الصناعيين، في حين أن الإيلوي الأشبه بالأطفال هم بقايا الطبقات العليا المترفة. استند ويلز في تنبؤه هذا على النسخة المطورة من النظرية الداروينية كما قدمها صديقه إي راي لانكستر عالم الحيوان. فلما كان التطور يعمل عن طريق تكييف السكان مع بيئتهم، فإن التقدم، حسب قول لانكستر، ليس محتومًا، وأي نوع يتكيف مع أسلوب حياة أقل نشاطًا، وبالتالي أقل صعوبة سوف يتنكس. كان هذا نموذجًا لرؤية أكثر تعقيدًا للتقدم، يعتمد فيها أي تقدم على طبيعة ظروف المرحلة، ولا يمكن التنبؤ به على أساس التوجهات السائدة سابقًا.
تتبدى وجهة النظر الداروينية بصورة أوضح في عمل ويلز غير الخيالي هائل النجاح «موجز تاريخ العالم»، المنشور ابتداءً في أجزاء تصدر كل أسبوعين في العام 1920. يبدأ المسح عند تطور الحياة على الأرض وتطور الجنس البشري. حدث التقدم بالتأكيد في كل من التطور وتاريخ البشرية بداية من العصر الحجري فصاعدًا، لكن ويلز يبين عدم وجود اتجاه صعودي محتوم. أدرك ويلز من تعرفه على الرؤية الداروينية للتطور البيولوجي وجود طرق متعددة لتحقيق بنية بيولوجية أو مجتمعًا أكثر تعقيدًا. كانت الخطوات التقدمية الحقيقية في كلا المجالين متقطعة وغير متوقعة ومفتوحة. عندما حدث تقدم في المجتمع البشري، كان ويلز على يقين من أن القوة الدافعة هي التفكير العقلاني والعلم والابتكار التكنولوجي. ومع ذلك، أظهر التاريخ أنه في كثير من الأحيان تم تقويض فوائد الإبداع من قبل المحافظين والتوترات الاجتماعية، التي بلغت ذروتها في كارثة الحرب العالمية الأولى.
كان ويلز يفضل نسخة جديدة وأقل حتمية من فكرة التقدم. لقد زال إيمان مجتمع القرن التاسع عشر بحتمية التقدم، ليس فقط لتقليله من شأن العوائق، ولكن لافتراضه نموذجًا مفرط التبسيط لكيفية حدوث التنمية. بغض النظر عن وجهات نظرهم المختلفة حول الهدف المراد تحقيقه، فإن مفكري الجيل السابق -وفيهم الماركسيون، الذين كن لهم ويلز بعض الاحترام- قد تصوروا التاريخ على أنه صعود لسلم من مراحل تطورية يؤدي إلى يوتوبيا نهائية. لقد كشفت الداروينية عن أن تاريخ الحياة يجدر تمثيله بشجرة متفرعة، عوضًا عن السلم، ورأى ويلز الآن أن التاريخ البشري أدى أيضًا إلى العديد من الأشكال المختلفة من المجتمعات المعقدة. ومثلما كانت «الطفرات» العظيمة في تطور الحيوان غالبًا ما تأتي من بدايات غير ذات أهمية، لم تكن المواصلة على خطى التوجهات السائدة مسبقًا هي أبرز ما يميز أهم التطورات في تاريخ البشرية.
يأخذ ويلز التوليفة الحديثة للعلم والتكنولوجيا، والتي يعتبرها ناشئة في المقام الأول في أوروبا، كمثال على ذلك. بالنسبة لمعظم تاريخها، لم تكن أوروبا في طليعة التقدم، ولكن تطويرها للعلم والصناعة الحديث دفعها إلى الهيمنة على العالم. قارن ويلز ذلك صراحةً بتطور الثدييات غير المهمة خلال عصر الديناصورات.
تحقق هذا الإنجاز الحديث في فرع واحد فقط من الشجرة المتباينة للتطور الثقافي، وهو فرع لم يكن تيارًا رئيسًا ولم يكن بأي حال من الأحوال الأكثر تقدمًا في ذلك الوقت. لم يكن ويلز المفكر الوحيد الذي جادل آنذاك بأن ظهور العلم في أوروبا لم يكن بالإمكان التنبؤ به على أساس التوجهات التاريخية السائدة مسبقًا. وضح ألفريد نورث وايتهيد النقطة نفسها، مشيرًا إلى أنه بدون هذا الإنجاز غير المتوقع، ربما بقيت البشرية راكدة طوال أزمنة قادمة لا يعلم طولها أحد. رأى وايتهيد صعود العلم الحديث كتطور فلسفي لم يصبح مرتبطًا بالاختراع التكنولوجي حتى القرن التاسع عشر.
جادل ويلز بأن الموقع الجغرافي المعزول كان السبب الأساسي وراء صعود أوروبا إلى الهيمنة العالمية، إذ لعب دورًا محفزًا في عصر الاستكشاف البحري. على عكس الإمبراطوريات العظيمة في الماضي، واجهت أوروبا تحديًا جغرافيًّا غير عادي، لا تمليه الأرض بل البحر – فقد كان موقعها يضعها بمواجهة المحيط الأطلسي وما وراءه. نتجت عن ذلك ثقافة روجت في النهاية لا لثورة صناعية فقط ولكن لما أطلق عليه ويلز «ثورة ميكانيكية» أيضًا – لا سيما اختراع مصادر جديدة للطاقة بما في ذلك البخار والكهرباء. بالنسبة إلى ويلز، كان ذلك إيذانًا بـ«شيء جديد في التجربة الإنسانية […] فمثل هذا التغيير في حياة الإنسان كان ليشكل مرحلة جديدة من التاريخ».
إلا أن هذا النوع من التطوير جلب معه مشاكل. كان الابتكار العلمي والتكنولوجي يتسارع في مجتمع لم يتجاوز بعد حدود الثقافة والسياسة التقليدية. فأسيء استخدام التكنولوجيا لأغراض عسكرية، وأوضحت الحرب العالمية الأولى ما لذلك من عواقب كارثية محتملة. في سنوات ما قبل الحرب، كان ويلز من أوائل من استشرفوا الجرعة التدميرية الزائدة التي ستضيفها التقنيات الجديدة مثل الطيران على الصراعات المستقبلية. كان هذا موضوع روايته «الحرب التي في الهواء» عام 1908، بينما لم يتنبأ في روايته «العالم يتحرر» عام 1914 فقط بمصدر جديد للطاقة مستمد من أحدث الاكتشافات للفيزياء الذرية، بل أيضًا بالقنبلة الذرية. في فترة ما بعد الحرب كان ويلز فردًا من بين مجموعة كبيرة قلقة من احتمالية تقويض الحرب القادمة للحضارة تمامًا. تحدثت روايته الاستشرافية «شكل الأشياء القادمة» المنشورة عام 1933 عن اندلاع حرب تحط بمعظم العالم إلى الهمجية. ومع ذلك، احتفظ ويلز بالأمل في بقاء مجموعة صغيرة من التكنوقراط بقيادة خبراء الطيران على قيد الحياة، كي يعيدوا بناء المجتمع في نهاية المطاف على أسس أكثر عقلانية، إيذانًا بعصر التقدم الحقيقي. إذ أفلتت الإنسانية أخيرًا من القيود التي تفرضها القيم الثقافية القديمة.
إلا أن هذا النوع من التطوير جلب معه مشاكل. كان الابتكار العلمي والتكنولوجي يتسارع في مجتمع لم يتجاوز بعد حدود الثقافة والسياسة التقليدية. فأسيء استخدام التكنولوجيا لأغراض عسكرية، وأوضحت الحرب العالمية الأولى ما لذلك من عواقب كارثية محتملة. في سنوات ما قبل الحرب، كان ويلز من أوائل من استشرفوا الجرعة التدميرية الزائدة التي ستضيفها التقنيات الجديدة مثل الطيران على الصراعات المستقبلية. كان هذا موضوع روايته «الحرب التي في الهواء» عام 1908، بينما لم يتنبأ في روايته «العالم يتحرر» عام 1914 فقط بمصدر جديد للطاقة مستمد من أحدث الاكتشافات للفيزياء الذرية، بل أيضًا بالقنبلة الذرية. في فترة ما بعد الحرب كان ويلز فردًا من بين مجموعة كبيرة قلقة من احتمالية تقويض الحرب القادمة للحضارة تمامًا. تحدثت روايته الاستشرافية «شكل الأشياء القادمة» المنشورة عام 1933 عن اندلاع حرب تحط بمعظم العالم إلى الهمجية. ومع ذلك، احتفظ ويلز بالأمل في بقاء مجموعة صغيرة من التكنوقراط بقيادة خبراء الطيران على قيد الحياة، كي يعيدوا بناء المجتمع في نهاية المطاف على أسس أكثر عقلانية، إيذانًا بعصر التقدم الحقيقي. إذ أفلتت الإنسانية أخيرًا من القيود التي تفرضها القيم الثقافية القديمة.
فيما يتعلق بالشكل الذي سيتخذه المجتمع المستقبلي المأمول، كان لدى ويلز خطط محددة للغاية. إذ روَّج في الكتاب لحملته الطويلة من أجل دولة عالمية رشيدة تضمن توزيع ثمار الابتكار التكنولوجي إلى حد ما. ومع ذلك فلم يكن ويلز ديمقراطيًّا، فرأى هذا مدفوعًا بأنشطة مجموعة من النخبة، هم «الساموراي العلمي»، الذين يظهرون مثل الملاحين الجويين الذين يغيرون شكل العالم في «شكل الأشياء القادمة». كان ويلز يدرك أن إعطاء الجميع كثيرًا من المواد قد لا يكون كافيًا لتلبية احتياجاتهم العاطفية. في البداية يبدو أنه فكر على أسس شبه دينية، متخيلًا البشرية وهي تحقق وحدة روحية شبه كاملة. لكن في سيناريو فيلم «الأشياء التي ستأتي» -للمخرج «ألكسندر كوردا»- المستند إلى الكتاب بشكل فضفاض، أضاف ويلز حلقة ختامية شكلت فيها احتمالية نشر الجنس البشري المحول في الأكوان من خلال السفر في الفضاء مكافئًا ماديًّا للدين، بمعنى كونها أمرًا يمنح حياتنا غاية نهائية. حتى هنا، على الرغم من ذلك، كان ثمة تهديد بأن المفكرين المحافظين لن يوافقوا على هذا الإخلال بحياتهم الرتيبة. ففي المشاهد النهائية، يحاول حشد تدمير المسدس العملاق وهو على وشك إطلاق رواد الفضاء الشباب إلى الفضاء (هنا احتفاء وتكريم من ويلز لجول فيرن). ثم يشير زعيم «الساموراي» إلى السماء ويمنحنا الاختيار: «الكون كله أو لا شيء.. أيهما يا ترى؟» ويظلم المشهد تدريجيًّا ليظهر السؤال: «إلى أين تمضي البشرية؟»
إن الإشارة إلى رغبة الدولة العالمية في توسيع أنشطتها إلى الفضاء ينقلنا إلى عنصر مهم آخر في رؤية ويلز الجديدة للتقدم. أدرك ويلز أنه بمجرد تحول الابتكار التكنولوجي إلى قوة دافعة، سوف لن تكون هناك مدينة فاضلة مستقبلية ثابتة كما تخيلت التمظهرات السابقة لفكرة التقدم. سيستمر الاختراع، وسيتعين على المجتمع مواصلة التكيف بالمقابل. الآن بعد أن خرج جني التكنولوجيا المدفوعة بالعلم من القمقم، أصبح ويلز مدركًا تمام الإدراك لصعوبة التنبؤ بالاختراعات المستقبلية، ولصعوبة التنبؤ بعواقب تلك التي نجحت. سيحتاج المجتمع الرشيد بحق إلى أخذ ذلك في الاعتبار والتخطيط وفقًا له.
أصبح عنصر عدم إمكانية التنبؤ واضحًا في السنوات الأولى من القرن. أدرك ويلز أن التطبيقات العسكرية للطيران قد تدحض آمال المتفائلين في تشجيع النقل العالمي السريع للوحدة العالمية. كان هذا في «الحرب التي في الهواء»، ذات الافتتاحية الغريبة إلى حد ما، حيث تصور عالمًا تغير فيه النقل السطحي بالفعل بواسطة السكة الأحادية المدوارة (gyroscopic monorail) التي اخترعها لويس برينان. فالقطار الأحادي قادر على عبور الشقوق والبحار على كابل واحد. لقد تنبأ ويلز بنجاحه، لكن هذا الاختراع لم يستخدم في العالم الحقيقي رغم اختباره بالفعل.
كذلك واجه ويلز صعوبة في التنبؤ بآثار التقنيات الجديدة في مجالات أخرى. في رواية أخرى، تحمل عنوان «النائم يستيقظ»، استفاد ويلز من تجربة ناطحات السحاب الأمريكية للدلالة على أننا قريبًا سنعيش جميعًا في «مدن كبيرة» (mega-city) عملاقة بأسقف تقاوم تقلبات الجو. لكنه بعد عام واحد فقط، أشار في كتاب «التوقعات» -الحاوى لمحاولات أكثر جدية للتنبؤ- إلى أن اختراع القطار الكهربائي والسيارات سيسمح «بتوزيع كثافة المدن الكبيرة» نظرًا إلى انتقال السكان إلى الضواحي. لا يؤمن ويلز بإمكانية التنبؤ بالتقنيات الجديدة التي ستنبثق من الاكتشافات العلمية، ولا بإمكانية تحديد أي الاختراعات الجديدة المتزايدة باستمرار سينجح في السوق على وجه اليقين. سوف تسحب التقنيات المتنافسة المجتمع في اتجاهات مختلفة، ومن الصعب تحديد أيها سينتصر في الصراع الصناعي من أجل الوجود على وجه التأكيد. من الصعب أيضًا توقع سرعة التغيير. في طبعة لاحقة من «التوقعات»، أقر ويلز بأنه كان شديد التشاؤم حين رأى أن الطيران لن يصبح شائعًا قبل عام 1950.
حتى عندما تبدأ التكنولوجيا الجديدة في الرواج، قد يصعب تخيل عواقب نجاحها. في حديث إذاعي عام 1932، استخدم ويلز مثال الفوضى المتزايدة على الطرق للإشارة إلى مدى صعوبة توقع عواقب إتاحة السيارات لجمهور أوسع عندما تم تقديمها لأول مرة. أصبح من الواضح الآن أنه يجب إعادة تصميم شبكة الطرق للتعامل مع حركة المرور المتزايدة. ودعا ويلز الجامعات إلى توظيف «أساتذة استبصار» للتعامل مع العواقب غير المقصودة التي تطرحها الاختراعات المستقبلية.
يطلق المؤرخ فيليب بلوم على أوائل القرن العشرين «سنوات الدوار»، حيث أدت مجموعة محيرة من التقنيات الجديدة إلى تحول في شتى مناحي الحياة اليومية. أدرك ويلز أن حالة عدم اليقين هذه ستستمر إلى ما لا نهاية، ما يجعل التنبؤ بما سيظهر أمرًا مستحيلًا حتى على المتحمسين. يشيد التقنيون بابتكاراتهم كقوة دافعة للتقدم، لكنهم لا يتوقعون دائمًا ما سيخترع، أو التأثيرات النهائية على المجتمع. هذه حالة ندركها تمامًا اليوم: إن قلنا تجاوزًا إن ثمة من استطاع التنبؤ بتأثير أجهزة الكمبيوتر والثورة الرقمية، فما هم إلا قلة، كما أننا ندرك تدريجيًّا أن هذه الابتكارات لم تحقق لنا فوائد خالية من الشوائب. فإن التقنيات التي كشف الغطاء عن آثارها الجانبية الضارة لهي الآن كثرة كاثرة، وهو ما توقعه ويلز نفسه.