إشكالية تاريخ مصر الحديث (2/2): حقيقة الحملة الفرنسية
عرفنا في الجزء السابق من هذه المقالة، أن الحالة العامة لمصر تحت الحكم العثماني لم تكن كما تصورها كتب التاريخ في المدارس، وإنما كانت مرحلة لا تمثل نهضة كاملة، وإن حملت في أحشائها مقوّمات النهضة الثقافية والعلمية والاقتصادية، ليس في مصر فقط، بل وفي العالم الإسلامي ككلّ؛ حيث ظهرت العقول النهضوية الموسوعية الفائقة مثل الزبيدي والشوكاني وابن عبد الوهاب والبغدادي وحسن الجبرتي الكبير، واستمرت هذه المقوّمات في طلبة الأزهر لدى هؤلاء العلماء الذي أملت فيهم الأمة نهضتها ورفعتها تبعًا لفكر تجديد التراث والارتباط بالهوية لبناء أمة قوية واستعادة الحضارة الوحيدة في التاريخ، حضارة إسلامية.
عن الحالة المصرية قبل الحملة الفرنسية
بقي أن أنبه إلى أن النهضة السياسية كانت في الأمة أيضًا، وظهرت في مصر من خلال تحكّم المماليك المصريين في الوالي، بل كان المماليك إذا أرادوا خلع والٍ، أرسلوا له رسولا يثني طرف سجادته ويقول له «انزل يا باشا»، فينزل على كلمة المماليك. وكانت سلطتهم هي الأولى وليست للخلافة. وليس للخليفة سوى تسمية الوالي والجزية التي كانت نحو 300 ألف فرنك، حيث كان الإنتاج يقدر بحوالي أكثر من 7 ملايين. ومعها كانت قوة الأزهر التي ساعدت التربية الإسلامية والعقلية الإسلامية المتفتحة التي لا تسلم بالعصمة والصواب المطلق لأي فرد كان بعد الأنبياء، حاكما أو محكوما، والتركيب الاجتماعي للمصريين ومكانة الأزهر في القلوب صنعت مواقفه المتحررة – حتى بمقاييس اليوم – التي سجلها التاريخ لشيوخ الأزهر.
بل حين رفض المشايخ تنفيذ أمر من السلطنة، ترافع المشايخ فقال الشيخ سليمان المنصوري: «فلا يجوز لأحد يؤمن بالله ورسوله أن يبطل ذلك وإن أمر ولي الأمر (يقصد الخليفة) بإبطاله لا يسلم له ويخالف أمره لأن ذلك مخالف للشرع ولا يسلم للإمام فعل مايخالف الشرع ولا لنائبه كذلك». هل رأيتم مرافعة دستورية أقوي من تلك؟! وتوالت المواقف التي تبرز استقلال الأزهر الفكري حتي في اختيار شيخه؛ فعندما عين المماليك الشيخ العريشي شيخا للأزهر، رفض المشايخ تعيينه وصمموا على تقليد الشيخ العروسي وتم لهم ما أرادوا.
هل رأيتم هذا المبدأ العظيم الذي هو موجود في الإسلام كحضارة ورفعه الشيخ المنصوري عام 1735م، من إسقاط أي مرسوم سلطاني يخالف الشريعة، وذلك قبل أي دستور؟ ثم هل تعلم أن أول عقد اجتماعي مكتوب هو وثيقة العلماء؟! هي الوثيقة التي كتبها القاضي بما نص عليه العلماء وفرمَن عليها الباشا، وختمها العلماء مراد بك والألفي بك مجبرين، بعد أن كاد العلماء أن يخلعوهم بقيادة الشيخ الشرقاوي والسادات والنقيب ومشايخ الأزهر وخرجت الوثيقة مكتوبًا فيها: «على حسب ما رسم سادتنا العلماء بأن جميع المظالم والحوادث والمكوس باطلة في جميع المملكة المصرية». كان ذلك في 1794م، أي قبل الحملة بـ 4 سنوات فقط، وإن لم تدم آثار هذه الوثيقة كثيرا ولكنها علمت مشايخ الأزهر قوتهم في مقابل الطغيان، ومساندة العامة الكاملة للمشايخ في موقفهم فكانوا هم أهل الحل والعقد. هذا عن الحالة المصرية قبل الحملة الفرنسية.
الحملة الفرنسية كمشروع استعماري إمبريالي
كيف بدأ التفكير في الحملة الفرنسية على مصر؟ وما اسباب إرسالها؟ الحقيقة التي نقدّمها هنا أن مشروع الحملة الفرنسية على مصر مشروع استعماري امبريالي اعتمد أسلوب الغزو العسكري واحتلال مصر بالقوة وانتزاعها من الدولة العثمانية، وذلك بقرار الجمهورية الفرنسية بإرسال الحملة في 1798م، كمحاولة لتحقيق مشروع قديم من المشروعات التي كانت أمام الملكية الفرنسية في أوقات وأشكال متنوعة، وكانت أشهرها حملة لويس التاسع 1249م، والتي أُسِر فيها ووضع في منزل القاضي ابن لقمان بالمنصورة. بل تجددت الفكرة عندما أغري الفيلسوف الشهير جدا «ليبنتز» الملك لويس الرابع عشر، في عام 1671م، لكن الملك تراجع خوفا من الدولة العثمانية.
وتوالت الكتابات من السياسيين الفرنسيين يغرون بغزو مصر استكمالا للمشروع الاستعماري الفرنسي الذي كان متأججا في بدايات القرن الثامن عشر في كندا والولايات المتحدة والسنغال، أما على الصعيد الداخلى فقد كانت فرنسا خارجة لتوّها من حرب السنين السبع وخسارة مستعمراتها الأمريكية، ثم الصراع الكبير بين طبقات المجتمع من رجال دين ونبلاء وشعب مُثخن بالبطالة المتفشية والديون الباهظة. لقد كانت خسارة المستعمرات الأمريكية ألما موجعا مهّد لسقوط المملكة الفرنسية ككل، وذلك في 1763م، بصلح باريس.
وفي نفس هذه الفترة توالت الكتابات من «سان برييست» سفير فرنسا باستانبول، تدعو الملك لغزو مصر، بعد أن تأكد انهيار الدولة العثمانية 1768م، بل وطلب إرسال البارون «دي توت» الذي كانت أرسلته فرنسا كمستشار عسكري للسلطنة في حربها ضد روسيا، وبالطبع وصلوا للمعلومات الدقيقة التي يحتاجونها، وبالفعل تم إرسال دي توت كأول جاسوس فرنسي مبتعث للشرق لمصر بمهمة خاصة من البلاط الملكي الفرنسي لدراسة السبل لاحتلال مصر، بل ودراسة أفضل الأماكن لنزول جنود الحملة ومقدار ارتفاع منسوب النيل وكل المعلومات الاستخباراتية الضرورية للاحتلال.
في المقابل فى هذا العصر الذى كانت تقوم بدايات نهضة معرفية وسياسية في مركز العالم الإسلامي؛ لتعيد له بعض ما فقده بسبب ما يعانيه من ضعف قبضة الخلافة، وعلى الناحية الأخرى من ضفاف المتوسط كانت أوروبا يقوم فيها صراع دينى (كاثوليكى – بروتستانتي) أتبعه صراع عسكرى وصراع فكرى وانتشر فكر التنوير فى ربوع أوروبا، وكانت فرنسا – كما قلنا- تحمل لواء الفكر التنويري، ثم كانت حرب تحرير أمريكا التى شارك فيها النبلاء الفرنسيون، ثم إعلان الحقوق المدنية والبدء فى الحلم بالتغيير، واستنساخ التجربة فى الجانب الآخر من المحيط. وسنجد فيما بعد أن جيفرسون، مهندس الدستور الأمريكي وإعلان الحقوق المدنية، كان سفيرًا لبلاده فى باريس فى فترة قيام الثورة وساهم بالفعل فى كتابة الدستور الجديد لفرنسا وإعلان الثورة الفرنسية لوثيقة الحرية والمساوة والإخاء.
من الثورة إلى الحملة
في السنوات السابقة للثورة، بلغ الفساد السياسي والتدهور الاقتصادي في فرنسا غايته، حتى إن «كالون» وزير الخزانة الملكية اعترف بذلك عام (1787م)، وأرادت الحكومة سد عجز الميزانية بإرهاق الشعب بضرائب جديدة فادحة، فازدادت أحوال الطبقات المسحوقة سوءًا، وعصفت بالبلاد موجة من الجوع ونقص المؤن. المهم، أنه بعد أن أصبحت البلاد فى حالة احتقان من الأزمة الاقتصادية ومحاولات الإصلاح العديدة، ثم تمرير لويس السادس لتعديلات البرلمان وعمل انتخابات جديدة للجمعية الوطنية، جاءت جمعية وطنية جديدة بيد الملك وأقسمت على الولاء للملك، ثم بعد 3 سنين أمرت باعدام الملك نفسه!!
ومع التحرك و التدافع، أعلنت الثورة فى فرنسا ودستور جديد واقتحام الباستيل ثم اقتحام قصر فرساي، ومغادرة الملك والملكة له، ثم إعلان وثيقة حقوق الإنسان (الحرية – المساوة – الإخاء)، والتي منها «يولد الناس أحرارًا ومتساوين في الحقوق»، و«هدف كل تشكيل سياسي هو المحافظة على حقوق الإنسان وهي حق الحرية والملكية والأمن ومقاومة الظلم»، و«الأمة مصدر التنمية الكاملة ولا يجوز لأي جماعة أو فرد ممارسة السلطة ما لم تكن مستمدة من الأمة»، و«الحرية تتمثل في السماح للفرد بأن يفعل ما لا يضر الآخرين».
و أعلن التخلص من سيطرة الدين فى معقل الكاثوليكية وحاميتها، ومن ثم تم الاستيلاء على ممتلكات البابا فى فرنسا وإخضاعها للدولة؛ مما عجل بالمواجهة بين البابا، وبين الثورة والأفكار الجديدة، ثم القانون الجديد بجعل آباء الكنيسة موظفين لدى الدولة، ورفض البابا لهذا القانون، وانقسام رجال الدين إلى رسميين تابعين للدولة، ورجعيين تابعين للبابا، وبدأت الاضطرابات والاغتيالات تجتاح فرنسا وسيطر اليعاقبة على الحكم ومن ثم أعلن إلغاء الملكية، ثم اتهم الملك بالتأمر وسيق للمقصلة، وانتشرت المواجهات بين الفرنسيين المؤيدين للثورة وهم اليسار برمزهم الأحمر، وبين المؤيدين للملكية أو الدين، وهم اليمين ورمزهم الأبيض، وسيطر دانتون، ثم من بعده روبسبير على الحكم، وأعلنت سياسة الإرهاب الأحمر، ثم أتبعتها ردة سياسية لصالح اليمين وأعلنت سياسة الإرهاب الأبيض للتخلص من المنافسيين بنفس الطريقة، ثم جاءت حكومة الإدارة لتستقر الأمور نسبيا، وذلك حتى إعلان نابليون الانقلاب وتعيينه قنصلًا أول ثم إمبراطورًا.
ما ارتكبه التحديث الفرنسي في حقّ الآخرين
يهمنا هنا تناول 3 نقط فى الثورة الفرنسية لها علاقة ببحثنا..
الأولى: هل أعلنت أوروبا الحرب على فرنسا حسدا لها على الثورة؟ أثبتت الدراسات الحديثة أن الحقيقة أن فرنسا هى التي أعلنت الحرب على أوروبا، وليس العكس؛ بل لقد أعلنت الحرب على النمسا سنة 1792م، ثم شملت انجلترا وهولندا ثم إسبانيا، وقد قالها أحد الزعماء صراحة «لن نستطيع تدجين اقتصاد فرنسا، لن نستطيع شد أزر الثورة ما دام هناك تهديد خارجي»، وقال آخر «إن الحرب ضرورة لاقتصادنا ومن أجل الهدوء الداخلي».
النقطة التانية: تعامل الثوار مع المعارضين والمخالفين. ونكتفى بالإشارة إلى «فاندية» المدينة المعترضة على الثورة، وعلى إلغاء الديانة الكاثوليكية، وكان الرد باجتياحها وإبادة أهلها بلا رحمة أو شفقة، حتى قال الجنرال وسترمان «لم يعد هناك ما يسمى بفاندية لقد ماتت تحت سيفنا الحر بنسائها وأطفالها، لقد دفناها فى مستنقعات وغابات منطقة سافنيه، لا يوجد سجين واحد يثقل ضميري، لقد دمرت كل شيء». هكذا كان يتعامل أصحاب الحرية والمساوة والإخاء مع أهلهم، ثم ما حدث فى إيطاليا وسويسرا وبلجيكا ولكسمبرج من تجريف كامل، وإلغاء كلمة إخاء من الإعلان، ليبقى فقط حرية ومساواة، وبعد أن كان دخول الفرنسيين لهذه الجمهوريات الشقيقة على أيدى وتهليل التنويريين والثوار من أهل البلد، أصبحوا هم طليعة المقاومة فى دولهم. إذًا هى شعارات للاستهلاك وفقط حتى قالها كارنو صراحة «سياسة عصر الليمونة»!
النقطة الثالثة: ارتباط التنويريين بفكرة إعادة روما القديمة ومجدها، من خلال التأسّي بنظمها وإعادة إيائها و التشبه باللبس الخاص بنوابهم وإعادة الإمبراطورية. و يظهر هذا جليا في أن نابليون عندما قام بالانقلاب، قام بمحاكة النظام الروماني بالقناصل الثلاثة، ثم الانقلاب وأصبح امبراطورًا، حتى أنهم كانوا يلقبون بأسماء مشاهير الرومان، فإذا وصف أحدهم بالنزاهة قيل إنه بروتس، رمز النزاهة فى التاريخ الروماني، والمفكر الكبير بابوف لقب بجراكوس، وأصبح اسمه جراكوس بابوف، نسبة لاخوين رومانيين قتلا لمحاولتهما التصدى لجشع النبلاء… وهكذا. فمثلا عندما تقدم الوزير تاليران بمشروع غزو مصر لحكومة الإدارة قال “كانت مصر مقاطعة فى الجمهورية الرومانية فيجب أن تصبح للجمهورية الفرنسية”.
لقد كان التوجه القومي يحتاج لبناء شخصية تاريخية في المخيال الجمعي للمصريين لتكوين القومية المصرية، ولم يجد المؤرخون المصريون وشبه المحترفين المتأثرين بالروايات الغربية وروايات القناصل الأوربيين، إلا تحديد تاريخ غزو فرنسا لمصر لتحويله كأنه قطيعة مع سابقه لنشأة تاريخ حديث. بينما جاءت الدراسات الأكاديمية التي اعتمدت على الوثائق التاريخية من المحاكم الشرعية والأوقاف وحجج الأراضي والكتب، لتؤكّد أن مصر كانت تشهد حركة علمية وتجارية واجتماعية ثرية تمهد لنشوء تحديث خاص ينبع من تاريخها وهويتها الخاصة، بعيدا عن العقلية الاستعمارية التي كانت ترحب بفكرة أن الاستعمار هو سبيل النهوض لأمم الشرق، وأنه سبيلها الوحيد. وما زال المصريون يرددونها دون وعي بحمولات الماضي، رغم استنكار المدرسة التاريخية المصرية الجديدة.
- الحداثة والامبريالية إشكالية النهضة والغزو الفرنسي لمصر د.أحمد زكريا الشلق ط.مكتبة الأسرة
- الحملة الفرنسية في مصر بونابرت والاسلام ت. هنري لورنس ط.سينا للنشر
- مصر تحت حكم بونابرت غزو الشرق الأوسط ت.خوان كول تقديم د. أحمد زكريا الشاق ط. المركز القومي للترجمة
- قبل أن يأتي الغرب الحركة العلمية في مصر في الرن السابع عشر ت.د.ناصر عبدالله عثمان ط.دار الكتب تقديم د.أحمد زكريا الشلق
- الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير ت. د.ليلى عنان كتاب الهلال
- مئتا عام على حملة المنافقين الفرنسيس د.زينب عبدالعزيز تقديم د.على جمعة
- الجذور الإسلامية للرأسمالية مصر 1760-1840 ت. بيتر جران ط.دار الفكر
- تجار القاهرة في العصر العثماني ت.د.نيللي حنا ط. الدار المصرية اللبنانية تقديم د.رؤوف عباس
- تاريخ أوربا في العصر الحديث د.عبدالعظيم رمضان ط.الهيئة العامة للكتاب