المكتبات الخاصة: فردوس البيوت
منذ تسع سنوات امتلك هاني محمود حُلم جميل شهدت عليه جُدران غُرفته، فذات يوم كتب على الحائط «هيبقى عندي مكتبة هنا»، وبالفعل تمكّن الشاب من تحقيق حُلمه، ليس ذلك فحسب؛ بل إن تلك المكتبة صارت أكبر من مساحة جدار، وتوغلت كثيرًا بسبب امتلاكه فوق الألف كتاب، كذلك حدث مع أحمد عايد وحسن حافظ وهالة الشربيني، فكبُرت مكتباتهم حتى صارت عالمًا خاصًا بنفسه، وكأنها الفِرْدَوس الذي قال عنه الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس.
في بداية مرحلة الجامعة بدأ هاني محمود في تكوين مكتبته الشخصية، حينها كان يتذوق طعم القراءة للمرة الأولى «ولقيت واحد أدام الجامعة بيبيع كتب قديمة لأنيس منصور ومحمود السعدني وغيرهم»، وتدريجيًا اشتدّ نهمه؛ حيث تعرّف على مكتبة مصر العامة، التي صارت منبعاً أصيلاً للاستزادة، ومن وقت لآخر تمكّن من شراء الكتب، وكبُر حلم امتلاك مكتبة خاصة به داخله، بالذات مع قراءته لكتب السيرة الذاتية، التي يحكي فيها الكُتّاب عن مكتباتهم الخاصة، وبالفعل قام والده بعمل المكتبة على نفقته الخاصة، وقد أشار على أحد النجارين بصُنعها، لكنها كانت ذات حجم كبير، مما فاجأ هاني.
لذا قام بالتبرع بجزء من المكتبة للجامع المُجاور لهم «أخدت اتنين متر، والباقي اديته للجامع»، لم يعلم هاني أن حُب القراءة لديه سيكون أكبر بكثير من الاثنين متر «مكنتش متخيل إني هملاها كُلها»، وعلى مدار سنوات امتلك هاني العديد من الكتب من مصادر عديدة «من معارض الكتب وبياعين الرصيف والكتب المعروضة للبيع أونلاين ومن سور السيدة زينب».
على عكس هاني كانت بدايات حُب القراءة مُختلفة عند أحمد وحسن وهالة، فقد أغوتهم القراءة في سن صغيرة، وعلى يد عائلاتهم، وقد صنع أحمد أول مكتبة له خلال مرحلة الإعدادية «أنا فاكر كرتونتين إريال وبتتقفل بزرار الملابس وضلفة، دي أول مكتبة نعملها».
أما حسن فقد بدأ في حب القراءة في عمر الأربع سنوات، كان يذهب مع والدته لشراء وجبة الإفطار، ويتوقف عند بائع الصحف بالوقت، صحيح أن ذهنه لا يتمكّن من استعادة الحدث، لكن أسرته تُكرر له تلك الحكاية أحيانًا «وبدأت أهتم بالكوميكس أكتر، وفي مرحلة المراهقة كنت بقرأ رجل المستحيل وملف المستقبل»، واختلفت قراءاته بعد ذلك؛ حيث تعرف على كتاب مثل يوسف السباعي وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ونجيب محفوظ.
أما هالة فقد ربّاها والدها على حب الكتب «كان معودنا إن القراية أهم حاجة في حياتنا»، فمنذ صغرها اطّلعت على الكتب التي ملأت مكتبة والدها، كما يحمل عقلها ذكريات عزيزة لا تنساها عن أبيها الذي كان يعمل ناظر مدرسة، فقد اعتادت أن يفاجئها بحقيبة ممتلئة بمجلات الأطفال «ميكي والعربي الصغيرة وكتب مكتبة الأسرة».
في البداية كانت هالة تقرأ الكتب الموجودة بمكتبة والدها الضخمة، لكن بعد ذلك، وتحديدًا في المرحلة الجامعية بدأت تنشأ مكتبتها الخاصة بها برفقة أخيها المُحب للكتب أيضًا، حيث تشكلت علاقة مميزة بينهما؛ فقد نظما لخطة قراءة سويًا، وعلى أساسها يشتريان الكتب التي يحتاجان إليها، وحينما يتأثر أحدهما ماديًا يُسهّل عليه الثاني الشراء «بنكمل بعض».
غواية القراءة لدى الأربع شباب لم تنتهِ عند ذلك الحد، فمع توسّع مكتباتهم كان ذوقهم الخاص يتشكّل تدريجيًا، بعد سنوات من القراءة أدرك هاني أنه يُحبّ كتب التراث العربي، وعرف حسن أنه يهتم بالفلسفة والتاريخ وعلوم الاجتماع أكثر، أما أحمد فلا تتركز قراءاته في مجال معين، حيث تتنوع من الفيزياء والكيمياء إلى الفلسفة والتصوف والتراث والأدب الحديث والكلاسيكي، تختلف عنهم هالة التي تنجذب نحو الأدب والترجمات، بخاصة الأعمال الملحمية الإنسانية التي تنقلها إلى عالم آخر، فيما يؤمن الأربعة ألا تخصص في القراءة.
كانت المكتبة لدى الشباب الأربعة تكبر مع الوقت، لم تبقْ مكتبة هاني على حالها، فقد احتلت بقية الغرفة «اتملت جدًا، وبقى فيه كتب كتير موجودة في كراتين»، أما مكتبة أحمد، فصارت تحتلّ طابقًا بأكمله، فيما يعيش مع زوجته وأولاده في طابق آخر، كما استقرت مكتبة حسن في صالون المنزل، الذي بدأ في صنع مكتبته عام 2004 «في الأول كانت عبارة عن كومودينو خشب واخد جزء من الصالون، مع الوقت اختفى الصالون ومافضلش غير كنبة واحدة في الصالون، وبقيته عبارة عن المكتبة»، لكن مكتبة هالة اتسعت مساحتها في جميع الأماكن المحتملة بالمنزل، هناك جدار كامل تُفرد مساحته للكتب، ولا يوجد فراغ بالبيت سوى وقد تمّ ملؤه بالكتب «الشوفنيرة فيها كتب والجزامة والنيش»، كذلك توجد مكتبة خارج البيت على السلم، بالإضافة إلى كراتين الكتب المحفوظة تحت الأسرّة «عندنا أكتر من ألف كتاب».
تعرّض أحمد وهاني وحسن أيضًا لانتقادات من الأهل بسبب كبر حجم مكتباتهم، تلقوا تعليقات مُشابهة لـ«حسن» الذي قيل له «وفر فلوسك وهات عربية»، ولـ«أحمد» قيل «عيالك أولى بالفلوس دي»، كذلك تلقى هاني نفس التعليقات، لكنهم يُدركون جيدًا حجم الثروة التي يمتلكونها، فلديهم كُتب عمرها يتجاوز المئة عام وأكثر، كثير منها متبوع بإهداءات من مؤلفيها «لما ماما بتقولي عيالك أولى خالي رد عليها وقالها إن الكتب دي ورث عياله»، يقول أحمد الذي قام بعمل ختم باسمه يختم به الكتب، كما أنه يُضيف حواشي داخل كل كتاب يقرؤه «بكتب بدأت أقراه امتى، وخلصته امتى، وقريته فين»، وبأسلوبه ذلك يتّبع نهج المخطوطات القديمة «دي بيضيف قيمة للكتاب بعد وقت»، لكن على العكس منهم كانت هالة التي لم تتعرض لانتقادات من الأهل، فتقول ضاحكة «الحمدلله ماما متعايشة مع الموضوع ده».
ولكبر مكتباتهم يولونها أهمية خاصة، فيجب تنظيفها أولًا بأول، ولا يُسمح لأحد بالعناية بها إلا تحت إشرافهم الخاص كما في حالة حسن، أما هاني «أنا اللي بنضفها، كل فترة برتب الكتب اللي لنفس المؤلف أو نفس الصنف المعرفي»، حيث يقوم بمسح الغبار مع إعادة ترتيب الكتب بشكل جديد، وذلك لسببين كما يذكر هاني؛ أولهما أنه تجديد لشكل الكتب أمام عينيه، وحتى يتمكّن من معرفة مجموع ما لديه «علشان أشوف هقرأ ايه، أو ايه مكرر فأستغنى عنه، أو عندي فمروحش أشتريه تاني».
كذلك يُعيد أحمد ترتيب مكتبته كُلما شعر بالتزاحم، وأحيانًا يتخلى عن بعض الكتب ويُعطيها لأصدقائه، ويُحبّ تنظيفها بنفسه أسبوعيًا، فيما تمتلك هالة جهاز للتغليف؛ كلما شعرت بأن الكتب قاربت على التفكك قامت بحمايتها «وبنضف المكتبة على طول».
لا يتخيل أحد منهم بيع مكتبته أبدًا، حتى في أحلك الظروف، لكن هناك بعض الأوقات التي لا يحب تذّكرها أحمد، فذات مرّة احتاج لمبلغ نقدي كبير، فكّر حينها في بيع جزء من مكتبته، وأشار على صديق له يعمل في بيع الكتب «ورغم كدا رفض تمامًا قراري ده واتخانق معايا»، ففي وجهة نظر صديقه أن البيع سيبخس ثمن الكتب كثيرًا «وقالي لو سبته مع الزمن هيبقى أغلى».
لا يُحبّ أحمد أيضًا تذكّر المرة التي ضاعت فيها كرتونتين من كتبه، ففي عام 2016 كان ينقل من بيته لمكان آخر، وخلال عملية النقل فقد تلك المجموعة، وفي صغره كانت أسرته تُخفي الكتب عنه حتى يُذاكر، فيضطر هو لإخفائهم بعيد عن الأعين «كنت بخبيهم في مدخل العمارة، وأنا نازل المدرسة الصبح كنت آخدهم».
كما مرّ هاني بنفس التجربة الصعبة في بيع المكتبة؛ فذات يوم اضطر للتفكير في ذلك «وكان موقف تعبني نفسيًا جدًا»، لكنه في اللحظة الأخيرة تراجع عن البيع «أنا مقدرش على مسألة البيع، المكتبة تزيد متنقصش»، لكن هناك بعض الحالات التي يقلّ فيها عدد الكتب بالنسبة لهاني، حينما يُهادي صديقًا له بكتاب مُكرر لديه، أو يقوم ببيعه، والحالة الثالثة حينما يشعر أن هناك كتبًا قد تجاوزها معرفيًا، وأنها كانت صالحة في فترة ما فقط «ساعتها بقرر أبيعها، وأشتري كتب تانية مكانها»، وهي نفس السبب الذي يستغني فيه حسن عن الكتب لديه «في فترة تخلصت من سلاسل رجل المستحيل وما وراء الطبيعة، حسيت إني دخلت في مرحلة عمرية تانية وتجاوزت الكتب دي»، أما هالة فلم تتعرض مُطلقًا لذلك الظرف الصعب، ولكنها تقوم بالتخلص أحيانًا ببعض الكتب التي تشعر أنها تسرعت في اقتنائها.
تعتبر تلك المكتبات هي الملاذ الآمن لدى الأربعة، فالعلاقة بين هاني ومكتبته هي محبة مُتبادلة «أنا صنيعة المكتبة دي، لغتي وأفكاري ومشاعري نتيجتها»، وعلى مدار عشر سنوات أخذ هاني يضع بذور مكتبته التي كبرت يومًا بعد يوم، حيث يراها كشجرة ضخمة تُظلل عليه، تلك العلاقة القوية أيضًا لدى حسن، فلا يتخيل أبدًا عدم وجود مكتبته «هي جزء مني»، كذلك يتشابه الشعور لدى هالة، حيث تُحسّ بأن المكتبة هي مواساتها عن كل الأحداث السيئة في الحياة، ولا تجد أي شيء آخر يُمكن أن يسعدها أكثر من الكتب.