سجين رأي: وبعد؟
في أغلب دول العالم العربي الجميل يُعتقل المواطن في فكرة ويُعذَّب بسبب كلمة، ويُشرَّد في الآفاق لرأي رآه أو لمبدأ تبنّاه، فيُغيّب خلف الشّمس، ويُحال بينه وبين أهله و بينه وبين أسباب الرّزق، ويُمنَع سجين الرأي من النّجاح في المناظرات العمومية رغم تألّقه، وذلك لأنّ اسمه مدرج في القوائم السوداء لدى الدوائر الأمنية في وزارة الداخلية، ويمنع من جواز السفر ومن التنقل داخل المدينة أو بين المحافظات دون إعلام مخفر الشرطة، وتُغلَّق دونه الحدود والأبواب لأنّه خرج عن سمت النظام الحاكم أو فكّر خارج السّبل المسطورة ولأنّه من المغضوب عليهم، يُسلَّط عليه سيف العذاب فيعيش عيشة ضنكى، وتلحق به نعوت مرذولة شتّى وتهم خطيرة عدّة يضيق بتفصيلها المقام، ويتحوّل البلد إلى سجن كبير، يعيش فيه المظلوم بالكاد، ويقضي الضحية نحبه مكلومًا أو يرحل عن عالم النّاس شهيد كلمة وفداء وطن.
ويشهد التّاريخ أنّ آلاف ضحايا الاستبداد قد توزّعوا بين السّجون والمنافي، ودفعوا زهرة أعمارهم بسبب قولهم قولًا أو تبنّيهم فكرًا لا يروق للحاكم وبطانته، فقد كان الرّأي المخالف وما زال جريمة يُعاقب عليها القانون في أرض العرب، ويُعَدّ نقد السّلطان في معظم البلدان العربية أمرًا معيبًا يؤدّي بالفرد أو الجماعة إلى مهاوي لا منجاة منها، وإلى مجاهل لا أحد يعلم مخاطرها، ويُسمّى المخالف معارضًا بالضّرورة، ويُصنّف باعتباره خارجًا عن الملّة، ناكرًا للنّعمة، خائنًا للوطن، فلا يُؤْكل من مائدته، ولا يُشْرَب من مائه، ولا يصاهر ولا يُعاشر، ولا يُقابَل، ولا يُمشى في جنازته، ويُعامَل على أنّه مواطن من درجة ثانية في الحياة الدّنيا، ويُعدّ مبتدعًا أو أفّاكا ومحدثًا في الحياة الأخرى.
آلاف مساجين الرّأي ضحّوا بالغالي والنّفيس، بالبخس والرّخيص حتّى يفكّوا أغلال الاستبداد عن النّاس، وحتّى يمهّدوا الدّرب إلى الحرّية. جرّدهم زبانية السّلطان من ثيابهم و من هويّاتهم، داهموهم في عزّ اللّيل، فحرموهم لذّة النّوم وسكينة اللّيل، وسرقوا أحلامهم، وخطفوا خبزهم، وهتكوا أعراضهم، ونكّلوا بهم وبأُسَرِهِم، وبقيت بصمات الظّلم بادية على أجسادهم وفي قلوبهم وعلى أصواتهم. كانوا يكابدون في صمت، ويجاهدون في إباء ما رضخت إرادتهم ولا ترددّت ألسنتهم في قول لا للحكم الأحادي، لا للدولة القامعة. لا لسرقة أموال الشعب، لا لمصادرة الحق في التفكير والتعبير، نعم للدولة العادلة. نعم للتعدّدية والكرامة والحرّية. وكلّفهم ذلك غاليًا زمن الدّولة الشمولية وبعدها.
تكلّم سجناء الرّأي زمن صمت كثيرون وزمن صفّق آخرون للمستبدّ وأعوانه. تجرّعوا السمّ الزؤام، وشربوا العذاب ألوانًا وما وهنوا. تخلّى عنهم القريب قبل البعيد، وسكنوا أقصى المدينة أو جوف الرّيف أو نئيّ المنافي وما تعبوا. كانوا على يقين من أنّ فجر التنوير سيشرق، وعلى علم بأنّ دولة الظّلم ساعة ودولة الحقّ إلى قيام السّاعة.
حلّت الثّورة بعد أن راكمت جهودهم عبر عقود، فكانت نتاج تضحيات مناضلين كثر ملأوا مشهد منازلة الحاكم بأمره ومنازعته سلطانًا ليس له، وكانوا ينتمون إلى أطياف سياسيّة وثقافيّة وفكريّة شتّى، فمنهم اليساريّ، ومنهم الإسلاميّ، ومنهم القوميّ، ومنهم الليبراليّ، ومنهم المتديّن، ومنهم غير المتديّن، ومنهم المتأدلج، ومنهم غير المتأدلج، التقوا جميعًا عند حبّ الوطن والشّوق إلى الحرّية، ورفض الاستبلاه الجماعي في عصر الدّولة المستبدّة. ولمّا جاء عصر الثّورة ظنّوا الدّولة الجديدة ستنصفهم، وستعيد لهم اعتبارهم، وترفع من شأنهم وتكرّمهم، بل وتعتذر لهم لأنّ أجهزتها البوليسيّة ومؤسّساتها التنفيذيّة والتشريعيّة والرّدعيّة قد أرهقتهم وعذّبتهم وشرّدتهم سنين عددا، وظنّوا أن يكون الاعتذار سبيلًا إلى تضميد الجراح وطيّ صفحة الماضي والتأسيس لدولة الحقّ والواجب، حلموا كثيرًا، وتمنّوا لو تزهر سنواتهم العجاف في زنزانة صفراء باردة برياحين النّصر وتباشير الحرية وإعادة الاعتبار؛ لكن دون جدوى. تمنّوا وحلموا، وفرحوا وبذلوا، وكدّوا وسعوا، فإذا هو السّراب البلقع.
جاء آخرون من آخر الزّمان ليزايدوا عليهم، ليعتبوا عليهم أنّهم ناضلوا بدلا عنهم. جاؤوا ليحوّلوا جهدهم إلى كرة ثلج تذوب تحت نار الوصوليّة والتحزّب البغيض والتأدلج المغلق والتهافت الرّهيب على السّلطة. وقام في أنحاء المدينة “ثورجيّة” جدد ما عرفوا السّجن يومًا ولا العذاب لحظة، وما رأوا سوط الجلاّد إلاّ في لوحة رسم أو في كابوس عابر. جاءوا يكابرون ويزايدون، ويبخسون المناضلين حقّهم في جبر الضّرر واستئناف الحياة، يريدون لمأساتهم أن تستمرّ ولعذابهم أن يتّصل وللقنوط أن يسكن قلوبهم، وللندم أن ينهش أفئدتهم وللشعور بالإحباط أن يستولي عليهم، يريدون أن يسرقوا حياتهم إلى الأبد و أن يصادروا حلمهم إلى الأبد.
ظلّ سجين الرأي مستضعفًا، مغيّبًا، مهمّشًا قبل الثورات وبعدها، لم يُستمع له ولم تُكتب سيرته، ولم تُضمّد جراحه، ولم يُمكّن بعد من استرداد حقوقه المستلبة واسترجاع كرامته المهدورة، وبالمقابل عاد حرس النظام القديم يمدّون وجوههم في شاشات التلفزيون ويصدّعون آذان الناس بكلامهم الممجوج، وخطابهم الخشبي، يتحدثون في كلّ شيء بغير عمق، ويهرفون بما لا يعرفون، ويدّعون أنّهم رجال دولة وأنّ البلاد دونهم تضيع، والحال أنّهم سبب التيه وعنوان الفساد وسبب خراب العمران وضياع الدول.
تستمرّ مسرحية تبييض رموز الدكتاتورية وإسطوانة التشريع لما يُسمّى بالمستبدّ العادل، ويتواصل صعود أعلام الثورة المضادّة وقوى الشدّ إلى الوراء بسند من الدولة البيروقراطية العميقة، وأباطرة المال والأعمال، وأبواق الإعلام المشبوه، وسلطان العسكر في بلدان ثرواتها منهوبة، وشعوبها مقهورة، وإرادة الناس فيها مغلولة وأصواتهم المعارضة مكتومة، وذاكرتهم الجمعية مخطوفة. وفي الأثناء تضيع في غياهب السجون وزوايا النسيان أعمار مواطنين تعلّقوا بالحرّية وناضلوا من أجل غد أفضل. يبدو العبث سيّارًا في كلّ مكان أو يكاد، ويبدو المشهد العربي تراجيديًا، قاتمًا بامتياز، لكن صيرورة التاريخ لا تؤمن، والقمع سيولّد الانفجار لا محالة. فمن رحم المأساة تولد الثورة ومن الظلام ينبجس نور التغيير.