شروط الأميرة «فاطمة» للمنح الدراسية منذ مائة عام
إعمالًا بنظرية «الاحتياط» المعروفة في الدراسات الفقهية والأصولية، وسدًا لذرائع التسيب فيما خصصته البرنسيس «فاطمة إسماعيل» من ريع وقفياتها لدعم المؤسسة العسكرية الحربية والبحرية بدار الخلافة في إسطنبول (انظر مقالنا السابق في إضاءات)، فإنها اشترطت أنه: إذا رُفت واحد من التلامذة المبتعثين للتعلم بالمدارس في الممالك الأجنبية لسوء سلوكه بالمدرسة أو خارجها، أو لأنه متكاسل في التعليم، فلا يكون لذلك التلميذ المرفوت سوى مصاريف إعادته إلى دار الخلافة وحدها، أي مصاريف السفر.
وكل تلميذ ختم وتمّم دراسته وأخذ الشهادة النهائية المذكورة وعاد بها إلى دار الخلافة، يُعمَل له امتحان بديوان الحربية بدار الخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية، بمعرفة منْ لهم معرفة تامة بالعلوم والفنون والصنائع التي تلقاها ذلك التلميذ، واستحصل على شهادة بها، ويكون عدد الممتحنين لذلك التلميذ وتعيينهم بمعرفة نظارتي الحربية والبحرية بدار الخلافة، ومتى ظهرت نتيجة الامتحان عن إحراز ذلك التلميذ للعلوم والفنون والصنايع التي تدل عليها الشهادة التي بيده:
ويكون صرف تلك المبالغ دفعة واحدة للتلامذة المذكورين بكيفية أن: نظارة الحربية والبحرية بدار الخلافة -بعد عملية الامتحان على الوجه الذي تقدم- تُصدِر قرارًا مُبينًا به منْ استحق الــ 100 جنيه، في كل سنة، ومن استحق الــ 50 جنيهًا في كل سنة مدة الدراسة، وأسماءهم وأسماء آبائهم وأجدادهم، ومحل سكنهم، وأن يُصرف لهم ذلك المبلغ ويرسل ذلك القرار لمن يكون ناظرًا على وقف الأميرة فاطمة، مصحوبًا بالسندات الدالة على صرف تلك المبالغ للتلامذة المذكورين من الأربعين سهمًا المخصصة لذلك، ومُصدقًا على تلك المستندات من النظارة التي هو تابع لها منْ صرف إليه، بما يدل على اعتماد ما صُرف بتلك السندات ليُقيِّد ذلك بدفاتر الوقف.
وهذا التخصيص من ريع الوقف لدعم المجهود الحربي يؤكد لنا ما سبق أن انتهينا إليه في بحوث سابقة وهو أن: نظام الوقف سمح بتأسيس مجال تعاوني مشترك بين الأمة والسلطة الحاكمة، وأنه يستهدف تقوية الطرفين معًا: الأمة والسلطان. وهو يختلف في هذه المسألة عمّا يُسمى «المجتمع المدني» التي عرفتها المجتمعات الغربية الرأسمالية بأشكال وصيغ مختلفة منذ عصر النهضة الحديثة إلى اليوم، وكلها قد استهدفت الحد من سطوة سلطان الدولة على المجتمع، وكبح جماحها عبر استخلاص جزء من الخدمات التي تُقدِّمها، وجعلها بيد مؤسسات مدنية غير ربحية وغير حكومية، وهو ما عُرف في الخبرة الأوربية بمبدأ «المشاركة في ترياق القمع».
وتدل شروط الأميرة فاطمة التي وضعتها أيضًا لتمويل المؤسسة الحربية، على أن الهدف من ذلك تمثل في «اللحاق بالتقدم التكنولوجي» دون الانغماس في نمط الحياة الاجتماعية للبلدان المتقدمة صناعيًا، وهو النهج الذي اختطه محمد علي باشا جدُّ الواقفة، من خلال بعثاته العلمية المبكرة إلى المعاهد والجامعات الأوروبية في خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهو ما سعت إليه البرنسيس بتوظيفها «سنّة الوقف» لتحقيق هذا الغرض من خلال شروطها سالفة الذكر بشأن بعثات طلاب الحربية والبحرية، وأرادت فعل ذلك أيضًا من خلال شروطها في وقفيتها على الجامعة المصرية، وعلى دار الفنون بالآستانة.
فقد خصّصت عشرين سهمًا من المائة سهم من صافي ريع الوقف سنويًا للجامعة المصرية، لكي يُصرف منها في تعليم أولاد المسلمين العلوم والفنون والصنائع الراقية النافعة للقطر المصري، الموجبة لترقي الأمة المصرية لدرجات الفلاح والنجاح؛ حتى تساوي الأمم الراقية من الأمم الأجنبية. وفي ثمن أدوات تعليم، وكتب، وورق ونحو ذلك مما يلزم للتعليم، وفي إرسال أربعة من حاملي شهادة البكالوريا بشرط أن يؤخذ الأول فالأول منهم من أولاد المسلمين للمدارس العالية بالبلاد الأجنبية لتعليمهم العلوم والفنون والصنائع الراقية بها، ودفع ما يلزم لهم من مصاريف ومن المأكل، والمشرب، والكسوة، والسكن، وغير ذلك مما تدعو إليه الضرورة في تلك الجهة.
وكل من تمم دراسته واستحصل على الشهادة النهائية بالعلم الذي أرسل من أجله، وجب عليه أن يُعلِّم ذلك العلم بالجامعة المصرية مدة خمس سنوات بالماهية التي تُقرِّرها له الجامعة، ولا يسوغ له بحال من الأحوال الامتناع عن إعطاء الدروس بالجامعة المدة المذكورة بالماهية التي تُقرِّرها له الجامعة؛ إلا إذا قام به مانع قهري لا يمكنه من الاشتغال بالعلم الذي تعلمه مطلقًا. أمّا إذا لم يكن به مانعٌ على الوجه المشروح، وامتنع عن التعليم بالجامعة، فيكون حينئذ ملزمًا بدفع كافة ما صُرف عليه من وقت سفره ليوم امتناعه.
وعملًا بمبادئ الاحتياط وسد ذرائع التسيب والإهمال؛ اشترطت البرنسيس: أنه يجب على رئيس الجامعة وأعضائها أن يتحصّلوا من كل واحد من التلامذة قبل إرساله لتلقي العلوم على الوجه الذي سبق، على تعهد منه بخطه وإمضائه، يلزم نفسه في هذا التعهد بأنه ملزوم قطعيًا عند تمام دراسته أن يُعلِّم بالجامعة مدة خمس سنوات بالماهية التي تقررها الجامعة، وهكذا عند إرسال كل تلميذ للمدارس الأجنبية على الوجه المشروح. وكل من تمّم دراسته كذلك بالمدارس العالية بالبلاد الأجنبية، وحضر بمصر المحروسة مقر الجامعة المصرية؛ تُرسل الجامعة المُشار إليها غيره ليتعلم العلوم والفنون والصنائع المُشار إليها، ويُصرف عليه ما كان يُصرف على مَنْ قبله، أو حسبما تدعو إليه الضرورة، وهكذا.
وخصّصت الأميرة أيضًا عشرة أسهم من المائة سهم من ريع وقفها سنويًا للجامعة الكلية الموجودة بالآستانة العلية، وكانت معروفة باسم «دار الفنون»، وذلك لإنفاقها في تعليم التلامذة بها أولاد المسلمين العلوم والفنون والصنايع وفي ثمن أدوات التعليم وثمن كتب وورق وغير ذلك، مما يلزم للتعليم بتلك الجامعة، وفي إرسال اثنين على الأقل من أولاد المسلمين للمدارس العالية بالبلاد الأجنبية عن مقر دار الخلافة العثمانية لتعليم العلوم والفنون والصنايع الراقية التي لم تكن تُدرَّس بتلك الجامعة حين ذاك. وصرف ما يلزم صرفُه على منْ يُرسَل من مصاريف التعليم والأدوات والكتب ونحو ذلك، وما يلزم لهم أيضًا من المأكل والمشرب والكسوة والمسكن، وغير ذلك، مما تدعو إليه الضرورة بتلك الجهة.
وكل من تمّم دراسته في المدارس العالية الأجنبية، واستحصل على الشهادة النهائية في العلم الذي أُرسل من أجله، وجب عليه أن يُعلِّم ذلك العلمَ بالكلية التي بدار الخلافة التي أُرسل منها، مدة سبع سنوات بالماهية التي تُقرِّرها له الجامعة أو الحكومة أو نظارة المعارف بدار الخلافة والسلطنة العثمانية، بحسب الأصول المتبعة لديها، فإذا امتنع عن التعليم بتلك الكلية، وكان امتناعه بغير عذر شرعي مقبول، وجب عليه أن يدفع لخزينة الكلية كافةَ ما صُرف عليه في التعليم؛ سواء كان بتلك الكلية، أو بالمدارس بالبلاد الأجنبية. وما صُرف عليه في المأكل والمشرب والكسوة والمسكن والسفر مما جميعه؛ بحيث أنه من باب الاحتياط يجب على الكلية قبل إرسال أي واحد للمدارس العالية بالبلاد الأجنبية، أن تتحصّل منه على تعهد بخطه، يقر فيه بأنه ملزوم قطعيًا عند إتمام دراسته بالمدارس العالية المذكورة وحضر، أن يُعلِّم بالكلية التي أرسلته مدة سبع سنوات، العلمَ الذي تلقاه وأخذ به الشهادة النهائية بالماهية التي تُقرِّرها له تلك الكلية، أو الحكومة، أو نظارة المعارف بدار الخلافة والسلطنة العثمانية، بحسب الأصول التبعة لديها، وهكذا.
وكل من حضر بعد تتميم دراسته على الوجه المشروح، ترسل الكلية غيره ليتعلم العلوم والفنون والصنايع المُشار إليها، ويُصرف عليه ما كان يصرف على من كان قبْله، أو ما يحتاجه الحال. فإذا اكتفت الجامعة، ورأت عدم لزوم إرسال أحد للمدارس بالبلاد الأجنبية، صرفت العشرة أسهم المذكورة في تعليم تلامذة الجامعة نفسها العلوم المذكورة أعلاه على الدوام والاستمرار.
وخصّصت كذلك ثلاثةَ أسهم من المائة سهم من ريع وقفها سنويًا للجمعية الخيرية الإسلامية بمصر المحروسة، لإنفاقها في تعليم أولاد المسلمين الفقراء واليتامى منهم العلوم الابتدائية والتجهيزية، وفي ثمن كتب وأدوات التعليم، وفي مأكلهم ومشربهم وكسوتهم وما يلزم لهم في حالة التعليم، وفي تعليم أربعة من أولاد المسلمين من حاملي شهادة البكالوريا -بشرط أن يُؤخذ الأول فالأول منهم- بالمدارس العالية الكائنة بمصر بمدرسة الطب، والمهندسخانة، والزراعة، والصنائع، والحقوق، والمحاسبة، والتجارة، والمعلمين، ونحو ذلك.
وكل من تمّم دراسته بإحدى تلك المدارس، وأخذ منها الشهادة النهائية، وكانت إدارة الأوقاف محتاجة لاستخدامهم أو واحد منهم، إن كان ممّن تحصّل على شهادة من المهندسخانة، أو من مدرسة الزراعة، أو من مدرسة الصنائع، أو غير ذلك من باقي المدارس المذكورة، وجب على منْ يكون محتاجًا إليه منهم أن يخدم في إدارة الوقف مدة خمس سنوات بالماهية التي تُقدِّرها له إدارة الوقف شهريًا، فإن امتنع عن ذلك يكون ملزومًا بدفع كافة ما صُرف عليه في زمن التعليم ابتدائيًا ونهائيًا، ويتحصّل ذلك منه بمعرفة من يكون ناظرًا على هذا الوقف. وكل من تمّم دراسته بالمدارس العالية من الأربعة المذكورين، ترسل الجمعية الخيرية الإسلامية غيره ليتعلم تلك العلوم، أو ما شابهها، وهكذا.
تلك شروط الأميرة فاطمة بنت الخديوي إسماعيل للمنح الدراسية والبعثات العلمية للخارج، وقد مضت عليها مائة سنة وعشر سنوات اليوم، ولك أن تقارنها وتستنتج بنفسك الفروق بينها وبين شروط المنح التي تقدمها الحكومات والجهات الرسمية اليوم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.