الأمير فيليب: ظل الملكة إليزابيث وإله قبيلة تانا
زوج الملكة إليزابيث الثانية لمدة 73 عامًا، دوق إدنبرة، والبالغ 100 عام إلا شهورًا قليلة، الأمير فيليب. تُوفي في قلعة وندسور بعد أن عاد لتوه من المستشفى بعد إقامة طالت لمدة شهر فيها، وهى أطول مدة يقضيها الرجل في مستشفى. البيانات الملكية لم تكن واضحةً بخصوص سبب الوفاة، لكنها أشارت إلى أنه ذهب إلى المستشفى في المقام الأول ليتلقى علاجًا من عدوى ما، دون تحديد اسمها، ثم أجرى جراحةً في القلب بسبب مرض سابق.
صحة الأمير تتدهور منذ سنوات ببطء، فقد أُعلن عام 2017 أنه سوف يتنحى عن ارتباطات ملكية بسبب حالته الصحية، وقال ضاحكًا إنه لم يعد قادرًا على الوقوف. ولم يظهر بشكل علني منذ آخر ظهور له عام 2017 أيضًا في استعراض لمشاة البحرية الملكية في فناء قصر باكينجهام. وظل طوال فترة الجائحة في قلعة وندسور رفقة الملكة، ومن تك القاعة أحيا معًا ذكرى زواجهما الثالثة والسبعين.
ويُعتبر آخر ظهور لخبر متعلق بالأمير فيليب هو خبر صدمه لامرأتين ورضيع، إذ نُقلت المرأتان إلى المستشفى لتلقي العلاج، ولم يتأذَّ الرضيع، كما أن الأمير لم يتعرض للمحاكمة ولا المقاضاة، رغم أن الحادث كان سببه أن الشمس جعلته ينحرف عن المسار أثناء قيادته، لكن اكتفت النيابة بتنازله الطوعي عن رخصة قيادته. وقبل الحادث بشهور كان قد خضع لتوِّه لعملية استبدال فخذ في أبريل/ نيسان عام 2018.
الإشعار الرسمي بوفاته نُشر على درابزين قصر باكينجهام، كما جرت عادة المملكة المتحدة، لكن سرعان ما أُزيل الإعلان خوفًا من تجمهر الحشود حوله، ما يعني أن الحد من التجمهر بسبب الإجراءات الاحترازية المتبعة في زمن الوباء سيؤثر بالقطع على الجنازة الملكية، وأن الجماهير لن تستطيع أن تُلقي عليه نظرة الوداع، ولا أن تتجمع لوداعه.
والده مدمن قمار ووالدته مريضة نفسية
الأمير فيليب هو من مواليد جزيرة كورفو اليونانية، لذلك غالبًا ما كان يصف نفسه بالأمير البلقاني. وُلد في منزل عائلة مون ريبوس، ويقول إن ميلاده كان على طاولة المطبخ، عام 1921. فيليب هو أصغر الأبناء، والابن الذكر الوحيد لوالده الأمير أندرو أمير اليونان والأميرة آليس أميرة باتنبرج، التي كانت صماء.
الأتراك هزموا اليونانيين، فاتُّهم والده بالخيانة العظمى لذا تم إجلاؤهم على متن سفينة حربية بريطانية. كان عمر فيليب في تلك اللحظة لم يجاوز العام الواحد، وحُمل في مهدٍ هو في الأصل صندوق برتقال. لم توحد الأزمة والديه بل هزت زواجهما فانفصلا. استقر والده في مونت كارلو الفرنسية، وتراكمت عليه ديون القمار. أما والدته الصماء فأسست مجموعةً للراهبات، لكنها لاحقًا أصيبت بالاكتئاب ووُضعت في مصحة نفسية.
تم تشخيص والدته بانفصام الشخصية، فأصبح فيليب مضطرًّا للانتقال للحياة مع جدته لأمه وهو ابن ثمانية أعوام، ومن منزل جدته التحق بمدرسته الأولى في بريطانيا. درس في المرحلة ما قبل الجامعية في 3 دول، المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، لكن استقر به الأمر في الكلية البحرية الملكية عام 1939، وعمره 18 عامًا آنذاك.
لكن بعد مضي فترة من التحاقه بالكلية طالبته والدته بالعودة ليحيا معها، فوافق وعاد إليها. لكن ملك اليونان، جورج الثاني، نصحه، أو طالبه، بالعودة إلى المملكة المتحدة كي يُكمل دراسته في البحرية الملكية ففعل فيليب. لم يكن أحد يتوقع أن يُخلص فيليب للبحرية الملكية ويقاتل تحت لوائها في الحرب العالمية الثانية، حتى لو كان يُقاتل ضد اثنين من أزواج شقيقاته اللذين قاتلا مع الجانب الألماني.
فاقد للمصداقية ولا يتمتع بأي ميزة
بعد انتهاء الحرب بأشهر قليلة أصبح ضابط صف بحري، وأشرف على حماية القوافل التجارية من سفن الاستطلاع الأسترالية. أشهر أخرى قليلة ونال ترقية ملازم ثانٍ لتفوقه وحصوله الدائم على المرتبة الأولى في كل الاختبارات التأهيلية التي يخوضها. ونال وسام صليب الحرب اليوناني، وعُيِّن لاحقًا قائدًا لأسطول بحري.
بتلك الترقيات السريعة كان فيليب أصغر ملازم ثانٍ في تاريخ البحرية البريطانية، فقد كان عمره 21 عامًا فقط. وعُيِّن أيضًا مدرسًا بحريًّا في كلية آرثر الملكية.
ووصف نفسه أيضًا بأنه فاقد للمصداقية ولا يتمتع بأي ميزة، لكن المتابعين للنظام الملكي البريطاني يدركون أن الرجل ساهم في تطوير النظام الملكي البريطاني.
تطويره لم يأتِ بصورة رسمية، لأن الرجل لم يكن ذا أهلية دستورية للاطلاع على أي شيء يخص المملكة المتحدة. واستُبعِد بصورة رسمية من الأمور الملكية المهمة، لذا كانت مساهماته طفيفة وفي أمور هامشية. مثل أنه حرَّض الملكة عام 1958 على إلغاء حفلة النخبة. تلك الحفلة تأتي فيها الفتيات من الطبقات الأدني اجتماعيًّا ليعرضن أنفسهن على الأمراء والطبقات الأعلى. كذلك حرص الرجل على تنظيم العديد من الحفلات ودعوة ضيوف من طبقات مختلفة.
كما كان فيليب رئيسًا لمجموعة الطريق للأمام التي عُنيت بفحص كل الانتقادات الموجهة إلى العائلة المالكة. وكان هو الدافع وراء موافقة الملكة على دفع ضريبة على دخلها الخاص، وصاحب رأي بيع اليخت الملكي بريتانا. وعُني بالحياة البرية وبالحفاظ عليها، فكان رئيسًا للصندوق العالمي للحياة البرية في بريطانيا.
كما استلهم من أيام دراسته دافعًا لحث الشباب وتشجيعهم فأنشأ جائزة دوق إدنبرة عام 1956، وأسس منظمة فيلدز إن تراست الخيرية عام 1925، ومؤسسة أوتورد باوند التعليمية عام 1941، وافتتح لها مقرًّا في سلطنة عمان.
الزواحف اللعينة تطارده
لم يُلقب فيليب بالأمير زوج الملكة، واحتفظ بمجرد لقب الأمير، لكنه قطعًا عاش الحياة الملكية كاملة. ومن أجل تلك الحياة، ومن أجل دعم زوجته الملكة، تخلى الرجل عن حياته المهنية راضيًا أن يبقى ظلًّا للملكة. فقد كانت له حياة في البحرية البريطانية شديدة القوة ويُعتقد أنه لمهارته، بجانب زواجه من الملكة، كان من الممكن أن يصبح سيد البحار الأول، أو لورد البحر الأول، كما يقول البريطانيون.
لكن تخلي الرجل عن مهنته، وقبوله بالوقوف دائمًا خلف زوجته، أو رفع الأطفال من وراء حواجز الشرطة ليقدموا الأزهار لزوجته، كل ذلك لم يشفع له عند الصحافة التي تربصت به في كل حين، ولم تجعله يتصدر صحفها الأولى إلا إذا التقطت له الكاميرات هفوةً ما.
فيليب نفسه لاحظ الأمر فصرَّح ذات مرة لـجيلز براندريث، كاتب السير الذاتية، بأن الصحافة باتت أشبه بالزواحف الملعونة. وقال له أيضًا إنه يعلم أنه أصبح مادةً لسخرية الصحافة، وأنه عليه تقبل ذلك فحسب. عُرف عن فيليب صراحته، التي تصل لحد الإهانة أحيانًا، ولطفه البالغ الذي يصل لحد الإطراء على الجميع حينًا.
لكن ظلت الملكة على عهدها القديم في حبها له، فقد قالت إنها أحبته منذ كانت في الثالثة عشرة من عمرها، وقد تقابلا أكثر من مرة في تجمعات عائلية، فهما أبناء عمومة من الدرجة الثالثة، لكنه لم يتقدم رسميًّا لخطبتها إلا عام 1946.
قبيلة تانا تعبده
وافقت الملكة ولم يرفض القصر الملكي، بل أصيب والدها بالهلع من موافقة ابنته على الزواج من أول رجل يتقدم لخطبتها، وافقت والدتها لكنها ظلت تناديه بالغجري في إشارة إلى نسبه المختلط من الروسي والألماني والدنماركي، أما شقيقها، خال إليزابيث الثانية، فوصفه دائمًا بالألماني، أما القصر ككل فظل ينظر لفيليب باعتباره رجلًا من أصل متواضع، لا مال له ولا حسب.
لكن فيليب ظل صامدًا في وجه هذه العوائق جميعها، حتى قالت عنه زوجته، الملكة إليزابيث الثانية، بعد مرور 30 عامًا على زواجهما إن العديد من البلدان يجب أن تدين بالفضل له، سواء عرفت تلك البلدان ذلك أم لم تعرف. وحتى ريتشارد شارترز، أسقف لندن، فقد صرَّح ذات مرة أنه لو كان من تزوج إليزابيث أرستقراطي إنجليزي لكان الأمر مملًّا للغاية. وأردف قائلًا إن الأمير فيليب كان العديد من الأشياء، لكنه من المؤكد لم يكن رجلًا مملًّا.
مهما يكن الحال عند دخول فيليب القصر البريطاني، فقد نُكِّست الأعلام فوقه -وفوق كل المباني الرسمية المهمة- عند خروجه منه.
والأهم أن القبائل التي تعيش في جزيرة تانا، إحدى جزر مقاطعة فانواتو القريبة من أستراليا، ربما تقتنع أخيرًا أن فيليب ليس إلهًا، وأنه لن يعود لزيارتهم مرة أخرى. القرية البدائية، الخالية من غالبية مظاهر الحضارة كالكهرباء مثلًا، تؤمن بأن طفلًا وُلد من بخار الحمم البركانية، فقرر الطفل أن يفر عبر البحر ليتزوج أقوى امرأة في العالم ثم يعود إلى مكان ولادته ليحكمه من جديد.
وفي عام 1974 زار فيليب وإليزابيث مجموعة من الجزر قريبة من تانا، فنظر سكان الجزيرة إلى التبجيل المهول الذي تحظى به الملكة وبجانبها زوجها، فظنوا أن نبوءتهم قد تحققت. فجمعوا صور فيليب وأعلام بريطانيا ووضعوها داخل بيتوهم وأعلنوا أنهم الآن يعبدون الطفل فيليب الذي عاد إليهم ليحميهم من البركان ويبارك محصول الموز لديهم، وأعلنوا 10 يونيو/ حزيران، موعد زيارته، عيدهم الديني السنوي، وباتوا يطوفون حول صوره.
لم يزرهم فيليب أبدًا، وحين علم بالأمر أرسل لهم صورته موقعةً، فأرسلوا له الرماح كهدية، ولا أحد يتوقع كيف سيتصرفون حال معرفتهم بوفاته، فلم ينقل لهم أحد الخبر حتى الآن.