رؤساء الولايات المتحدة: تاريخ من التلويح بالإنجيل
أمريكا تشتعل..
شرطي يقتل مواطنًا أسود على مرأى ومسمع من الجميع.
ينتشر الغضب بين المواطنين ويتحدى المخاوف العارمة من الإصابة بكورونا، فتجتاح المظاهرات شوارع المدن الأمريكية الكُبرى تصرخ بمساواة طال غيابها.
تمتدُّ المظاهرات إلى أعمال شغبٍ وعنفٍ يفشل الجميع في تهدئتها وتقترب من أسوار البيت الأبيض نفسه.
يبدو هذه المرة أن وميض النار لم يختبئ تحت الرماد وإنما أسفل الثلج، الذي خرجت منه كرة احتجاجية كبيرة، كلما مرت عليها الأيام ازدادت ضخامة وثقلًا على صدر قائد أمريكا الذي يُعاني الأمرين بسبب أفاعيل كورونا بالبلاد والعباد.
هنا يعتقد ترامب أن وقت ظهوره المُلائم قد حان، يترجَّل عن مكتبه البيضاوي، ويتوعَّد بنشر الجيش في الولايات المضطربة لحفظ الأمن حتى لو رفض حكَّام الولايات ذلك، ثم بعدها يتوجَّه إلى ما وصفه بأنه «مكان مميز جدًّا»، وهو كنيسة ساينت جون، التي تقع جوار البيت الأبيض.
بالأمس تجمَّعت أمام هذه الكنيسة مظاهرة خرَّبت أجزاءً منها؛ لذا كان لازمًا أن يسبق خطوة ترامب فضًّا أمنيًّا لهذا الاحتشاد، فأُطلقت على الناس الرصاصات المطاطية والغاز المسيل للدموع حتى يتمكن رئيس أمريكا من الذهاب بأمان دون أن تُلاحقه لعنات المحتجين، ويتمكَّن من أداء مشهده الأسطوري بنجاح، ويتحدَّث عن أمان البلاد!
وقف الرجل أمام المبنى، ورفع نسخة الملك جيمس من الكتاب المقدس، قائلًا: «بلدنا سيعود قويًّا، أقوى مما كان سابقًا».
فتح هذا التصرّف الباب واسعًا للانتقادات، حصَّة ضئيلة منها ناقشت مدى تمتع ترامب بصلاحيات دستورية تُتيح له نشر الجيش رغمًا عن حكَّام الولايات، بينما استأثرت صورته وهو يرفع الإنجيل بنصيب الأسد من الحديث، وفجرت بركانًا من التفاعل عبر كل منصات التواصل الاجتماعي.
طريقته في مسك الإنجيل مقلوبًا جعلت البعض يتهمه بأنه أول مرة يرفعه، وهذا الاتِّهام غير صحيح، فهذا المشهد ليس غريبًا على ترامب؛ فالرجل استعان بالإنجيل مرارًا خلال حملته الانتخابية وأكَّد ذات مرة أنه «لا أحد يُحب الإنجيل أكثر منه»، كما أنه في محفلٍ انتخابي آخر كان أكثر وضوحًا حين رفع الكتاب المقدس عاليًا وهو يقول: «هذا هو المفتاح».
وربما كانت هذه إحدى المرَّات النادرة التي تخرج فيها الحكمة من بين شفتي ترامب بِاعتباره أن الكتاب المقدس مفتاحه لتحقيق ما يُريد، لكن هذا لم يرحمه من سيول الانتقادات المُوجَّهة إليه بأنه يستغل الإنجيل «سياسيًّا» للدعاية لنفسه دون أن يُؤمن بمحتواه حقًّا، كان أكثرها ما قاله منافسه المرتقب في الانتخابات الرئاسية المقبلة: «أتمنى فقط أن يفتحه (الكتاب المقدس) من حين لآخر»، وهو ما ينسجم بكل تأكيد مع سلوكيات ترامب الذي طُلب منه ذات مرة أن يقول قطعة واحدة يُحبُّها من «كتابه المفضل» فعجز عن ذلك!
هذه الأفعال الترامبية فتحت باب النقاش مُجددًا حول مدى علاقة رؤساء أمريكا بالله، وكيف تؤثر قناعاتهم الدينية على القرارات المصيرية التي يتخذونها بحقِّ كافة شعوب العالم، وهل أمريكا دولة علمانية أم أن الدين يلعب دورًا رئيسيًّا في رسم سياساتها؟
الإنجيل.. مفتاح أمريكا المقدس
ينصُّ الدستور الأمريكي على «علمانية الدولة» وفصل الدين وتأثيرات رجاله بشكلٍ تام عن سُلطة الحُكم، وهو ما قد يعتبره البعض مؤشرًا على اتخاذ واشنطن موقفًا عدائيًّا أو حتى مُحايدًا من الدين ومن الإيمان بالله، وهي في الواقع أبعد ما تكون عن ذلك.
فالوثيقة التأسيسية لإعلان الاستقلال تحدثت عن الخالق باعتباره «الراعي للحقوق»، كما اعتبر الكاتب الصحفي بيل فلاكس، أن الثورة الأمريكية على الاحتلال الإنجليزي كانت في أصولها حدثًا دينيًّا، كما أن «المبادئ العامة التي أرساها الآباء المؤسسون خلال الاستقلال هي المبادئ العامة للمسيحية».
ومنذ العام 1864م نُقشت على العملة الرسمية للبلاد عبارة «في الله نثق In God We Trust»، والتي اعتمدها الكونجرس شعارًا وطنيًّا عام 1956م.
وخلال فترة رئاسته للدولة أضاف جورج واشنطن للقسم الرئاسي جُملة «ساعدني يا الله» إلى يمين التنصيب، ولا يزال الفائزون برئاسة أمريكا يرددونها، وهم يضعون يدهم على الإنجيل، قبيل تسلمهم مناصبهم حتى الآن، وآخرهم الرئيس ترامب.
إذا ذهبت إلى فلادليفيا فستجد أن أحد أشهر معالمها، وهو جرس الحُرية مكتوب عليه اقتباس من الكتاب المقدس يقول: «أعلنوا الحرية في جميع أنحاء الأرض لجميع سكانها». وإذا طرت إلى واشنطن ورغبت في وداع جثمان زعيم أمريكا البارز جورج واشنطن، فستكتشف أن عبارة لاتينية كُتبت على نُصبه التذكاري هي «LAUS DEO» وتعني «الحمد لله».
أما إذا قادك الحظ يومًا ودخلت غرفة القراءة في مكتبة الكونجرس فستجد نقوشًا مُنتقاة من الإنجيل تدعو إلى الإيمان والرحمة و«مجد الله».
ولهذا فإن ترامب ليس وحده الرئيس الأمريكي الذي اعتبر أن الإنجيل هو المفتاح، فنادرًا ما لم يُجاهر أي رئيس أمريكي أو مرشح انتخابي يسعى للوصول إلى البيت الأبيض بالحديث عن احترامه للإنجيل وحبه له واللحظات الخاصة التي جمعته به في طريقه للإيمان، بل اعتماده عليه في اتخاذ القرارات الحاسمة.
وفي هذه الأجواء يُمكننا فهم كلمات الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت (1882م- 1945م)، أكَّد على أهمية الكتاب المقدس في التاريخ الأمريكي بقوله: «لا نستطيع قراءة تاريخ صعودنا وتطورنا كأمة، دون حساب المكان الذي احتله الإنجيل في صياغة تطور الجمهورية».
ولهذا لم يكن غريبًا عليه أن يعتمد على الإنجيل في خطاب ألقاه عام 1942م بعد شهر واحد من دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، اعتبر فيه أن أمريكا تُقاتل من أجل حماية الإنسان من الأشرار وجلب العدالة له؛ إيمانًا بما جاء في سِفر التكوين من تكريم ومساواة للبشر بأن «الله خلقهم على صورته».
وفي 6 يونيو 1944م، انضمت القوات الأمريكية إلى جيوش الحلفاء خلال هجومها شواطئ نورماندي لطرد النازيين من فرنسا، فظهر روزفلت في خطابٍ عام للأمريكيين دعاهم به للدخول في صلاة معه طلب فيها من الله مساعدة الجنود الأمريكيين في مساعيهم للحفاظ على الجمهورية والدين والحضارة، وأنهى خطابه بـ «ساعدنا إلهي القدير».
هذا الاشتباك المبكر بين الدين والسياسة في أمريكا كان أحد الأسباب الرئيسي للدعم الأزلي الذي نالته إسرائيل من حكام البيت الأبيض، فهو لا يقوم فقط بناءً على اعتبارات سياسية واقتصادية تبحث عن المصلحة الأمريكية، وإنما يرتبط أيضًا بما بينهما من إيمان مُشترك بالإنجيل الذي وعد بعض أسفاره اليهود بالأرض الموعودة، لذا كان العمل على تحقيق هذا الحلم والعناية به فضيلة دينية تسابق قادة أمريكا في الإعراب عن تسابقهم على تحقيقها.
فمثلًا، الرئيس هاري ترومان (1884-1972) الذي سبق أن اعتبر أمريكا «أمة مسيحية» تأسست «من قِبَل رجال يؤمنون بالله» كان أسرع زعيم بالدنيا اعترافًا بدولة إسرائيل عام 1948م، مخالفًا القواعد الدبلوماسية المعتادة، فلم ينتظر حتى أن تطلب منه تل أبيب رسميًّا هذا الاعتراف، وإنما تطوَّع بمنحه لها فورًا قبل انتهاء الانتداب البريطاني عن فلسطين بعشر ساعات.
وبخلاف ذلك فإن الدعم الأمريكي لإسرائيل أكبر من أن يُحصر في موضوع واحد، ولكن ما يهمنا هنا هو التأكيد على أن الخلفيات التوراتية لعبت دورًا حاسمًا في تطوير هذه العلاقة التي غيَّرت شكل منطقة الشرق الأوسط.
لتكون واحدة من مجالات كثيرة عبَّر خلالها قادة أمريكا عن قناعاتهم الدينية وتأثيرها في قراراتهم، لكن هذا المزيج (الديني/ السياسي) تجلَّى بوضوح في عهد 3 رؤساء وُصفوا بأنهم الأكثر تدينًا في تاريخ أمريكا.
رونالد ريجان: قتل نصف العالم لتحقيق إرادة الله
خلال خطاب تنصيبه رئيسًا لأول مرة لم يتردد رونالد في الإعلان عن قناعته بأن أمريكا أمة تحت رعاية الله، وأن الله اختارهم عمدًا ليكونوا أحرارًا.
تعتبر سهام قحطاني في كتابها «العذراء والرب: قراءة في الخطاب السياسي الأمريكي»، أن ريجان هو زعيم حرب النجوم والحروب النووية التي هي في رأيه تُسرِّع بمجيء المسيح، لذا فإنها تراه أشد رؤساء أمريكا تطرفًا في عقائده الدينية.
ولا عجب في ذلك، فالرجل يُعتبر مثالًا دامغًا على عُمق تأثير الدين على السياسة الخارجية الأمريكية، وكان ريجان يتخذ معظم قراراته السياسية أثناء توليه الرئاسة الأمريكية من منطلق مفاهيمه التوراتية.
وتسببت محاولة اغتيال فاشلة تعرض لها عام 1981م لتعميق إيمانه، واعتبر أن هذه المحاولة «دعوة من الله للاستيقاظ»، وأكد أن كل ما سيفعله من هذه اللحظة سيكون لله وحده.
سريعًا، حقَّق ريجان وعده فأمر بالسماح بالصلاة في المدارس، ومنح القس الشهير بيلي جراهام وسام الحرية الرئاسي، وسمح له بحضور اجتماعات مجلس الأمن القومي خلال مناقشتها احتمالات وقوع حرب نووية مع روسيا.
كما أعلن أن 1983م هو «عام الكتاب المقدس»، ودعا الأمريكيين للاستجابة لهذه الدعوة بِاعتبار أن «الإيمان بالله هو الصخرة التي تأسست عليها هذه الأمة العظيمة».
فخلال حملته الانتخابية أعلن في أحد المؤتمرات دعمه المطلق لإسرائيل مبررًا ذلك بقوله: «في دفاعنا عن حق إسرائيل في الوجود، إنما ندافع عن ذات القيم التي بُنيت على أساسها أمتنا».
وجعله إيمانه بأن التوراة وعدت بني إسرائيل بـ «الأرض الموعودة» يُقدِّم دعمًا سياسيًّا ومعنويًّا غير مسبوق لإسرائيل.
لذا عندما أشرف على إخراج القوات الفلسطينية من لبنان عام 1982م، قال ريجان في خطاب له: «إننا معنيون بالبحث عن السلام في الشرق الأوسط ليس كخيار إنما كالتزام ديني».
وهذه الرؤية التي انعكست أيضًا على رؤيته لأعدائه، ففي العام 1986م وافق ريجان على قصف ليبيا باعتبارها «عدوًّا لله»، كما أنه في ذروة خلافه مع الاتحاد السوفيتي وصفه بأنه كـ «يأجوج ومأجوج».
وحينما سُئل ريجان عن حلوله لأزمة الصراع العربي الصهيوني، لم يكل الحل الذي اقترحه مبادرة سياسية أو ضغوطًا عسكرية، وإنما الحل توراتي بامتياز، فقال خلال حوارٍ مع صحيفة عبرية:
وفي هذا التصريح تواصل لما اشتُهر عن الرجل بإيمانه الشديد بحتمية وقوع معركة هرمجدون، واعتقاده أنه بعد تملُّك الإسرائيليين لفلسطين فإن نهاية العالم أوشكت على الحدوث.
وكشف ريجان عن أمله أن يمنَّ الله عليه بشرف كبس الزر النووي لتحقيق إرادة الله في وقوع معركة هرمجدون ومن ثم عودة المسيح.
وتُشكِّل هذه المعركة المفترضة جزءًا من النبوءات التوراتية الشهيرة، عن حرب تقع في منطقة بين الأردن وفلسطين في سهل المجدل بين إمبراطورية الشر (الاتحاد السوفيتي والعرب والمسلمين والصين) ضد بني إسرائيل، ومن المفترض أن يضرب السيد المسيح الأشرار بقنبلة نووية تبيد هذا الجيش وتقتل ثلثا اليهود، أما الباقون فسيعيشون تحت حُكم السيد المسيح في سعادة وهناء لمدة ألف عام.
ويعتبر نزار صميدة في كتابه «النصوص الرؤيوية الكتابية» أن هذه العقيدة استحوذت على ريجان طوال مشواره الرئاسي، فخلال خوضه الانتخابات الرئاسية أكد أنه يشعر بأن المسيح سيأخذ بيده، وأنه سينجح ليقود معركة هرمجدون، وقال في لقاء جمعه ببعض القساوسة في البيت الأبيض عام 1985م:
كما يرى صميدة أن إعلان حربه على بغداد، فيما عُرف بحرب الخليج الأولى، لم تخل من رؤية إنجيلية متغلغة في نفس الرجل، بشأن العراق الذي هو «بابل السبي» الذي يُشكل عقدة تاريخية لليهود، والنظر لصدام حسين على أنه خليفة لنبوخذ نصر!
جيمي كارتر: الليزر يحمي أمريكا من هرمجدون
يقول نزار صميدة في كتابه «النصوص الرؤيوية الكتابية» إن جيمي كارتر كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين وضوحًا في التعبير عن البُعد الديني في السياسة الأمريكية، وكانت كل قراراته ومواقفه السياسية منطلقة من خلفيته الدينية الأصولية، التي أكَّدها منذ البداية دعم التيار الأصولي الإنجيلي له -بقيادة القس جيري فالويل- عند ترشحه لرئاسة أمريكا عام 1976م.
خلال ترشحه لخوض الانتخابات الأمريكية ذكر كارتر في برنامجه أن «تأسيس إسرائيل المعاصرة هو تحقيق للنبوءة التوراتية».
وما إن وصل إلى الحكم عام 1967م حتى أعلن أنه «وُلد ثانية كمسيحي»، وهو ما شرحه لاحقًا بأنه مر بسلسلة من الخطوات جعلته أقرب إلى المسيح.
ويقول محمد السماك في كتابه «الدين في القرار الأمريكي» إن كارتر اعترف أنه وضع سياسته في الشرق الأوسط وفقًا لمشاعره المؤيدة للصهيونية.
ولم يتوقف دعم الرجل لإسرائيل على العملية السياسية فقط، وإنما أعلن إدانته لكل مَن يتهم اليهود بقتل المسيح.
ويروي سعدون المشهداني في كتابه «أثر النص المقدس في منظومة القيم»، أن كارتر أعلن خلال زيارة قام بها إلى الكنيست الإسرائيلي أن «أمريكا وإسرائيل تتقاسمان تراث التوراة»، واعتبر أيضًا أن علاقات أمريكا بإسرائيل «فريدة» لأنها «متأصلة في ضمير الشعب الأمريكي نفسه وفي أخلاقه وفي دينه وفي معتقداته».
وكما فعل ريجان، فإن كارتر كان مقتنعًا بأن معركة هرمجدون على الأبواب، ولهذا أمر بتغطية سماء أمريكا بشبكة من أشعة الليزر الصاروخية حتى يمنع وصول أي صواريخ روسية إليها.
جورج بوش الابن: قائد الحرب الصليبية
في ختام الدورة الرئاسية لكلينتون التي عصفت بها فضيحة علاقته بمونيكا لوينسكي، تعهَّد المرشح الجمهوري جورج بوش الابن، والذي كان يستعد لخلافة كلينتون، تعهد بـ «إعادة الأخلاق إلى واشنطن».
والمفارقة أن بوش «مُعيد الأخلاق» لم يكن متدينًا بالمرة حينما كان شابًّا، وإنما كان مدمنًا للخمر حتى قابل الرجل الذي أثَّر بشدة في حياته الدينية وحوله من مدمن إلى أصولي مسيحي، وهو القس بيلي غراهام، الذي أثنى عليه ذات مرة قائلًا: «إنه الرجل الذي قادني إلى الرب».
وبيلي غراهام هو أحد أبرز وجود اليمين المسيحي الصيهوني في أمريكا، وابنه هو الذي ترأس صلوات تدشين رئاسة بوش في 2003م، ويُكنُّ غراهام عداءً أزليًّا للإسلام عبَّر عنه علنًا في أكثر من وسيلة إعلامية قائلًا: «الفرق بين الإسلام والمسيحية هو كالفرق بين الظلام والنور»، وفي مناسبة أخرى وصف الإسلام بأنه «دين شيطاني».
وربما لعبت جهود غراهام في تهيئة عقل بوش ليكون أكثر انفتاحًا على الله، لهذا اعتبر أن رئاسته هي جزء من «خطة مقدسة»، وعندما كان حاكمًا لولاية تكساس أفشى لصديقه باعتقاده أن «الله يريده أن يترشح للرئاسة، وأوعز للولايات المتحدة بأن تقود حملة صليبية تحريرية في الشرق الأوسط».
وخلال حملته الانتخابية، ذكر بوش أكثر من مرة أنه يبدأ يومه بقراءة الإنجيل، ووفقًا لمجلة «النيوزويك»، فإن أحد كُتب بوش المفضلة هو كتاب للقس أوزوالد شامبرز، الذي مات في مصر 1917م، وهو يعظ الجنود البريطانيين والأستراليين، ويُطالبهم بالزحف على القدس وانتزاعها من المسلمين.
يقول فائز صالح في كتابه «البعد الديني في السياسة الأمريكي»، إن إدارة بوش كانت أكثر الإدارات الامريكية التزامًا بعقيدة «الولادة الثانية» التي تقول بالعودة الثانية للمسيح، وأن مستلزمات هذه العودة قيام إسرائيل دولة لكل يهود العالم على كل الأرض الموعودة.
ويُضيف أن إيمان بوش بهذه العقيدة لعب دورًا في ذيوع نجمه السياسي، بعدما أكدت الإحصائيات أن الأمريكيين الأكثر تمسكًا بـ «الولادة الثانية» هم سُكان الولايات الجنوبية مثل ولاية والاس التي كان جورج بوش حاكمًا لها قبل أن يصبح رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية.
وبعدما أصبح جورج بوش رئيسًا أحاط نفسه بعدد من القساوسة ورموز اليمين المسيحي مثل فرانكلين غراهام وجيري فولويل وبات بوبرتسون، الذي اعتُبروا من دائرته المقربة، وعُرف عنهم العداء المطلق للإسلام وإيمانهم التام بـ «الولادة الثانية»، وشكلوا جسرًا لإقامة علاقات متينة بينه وبين شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي.
ويكفي أن نُلقي نظرة سريعة على السيرة الذاتية لبعض هؤلاء القساوسة؛ لنعلم نوع الأفكار التي يحملونها داخل رؤوسهم، فجيري فالويل Jerry Falwell هو قسيس إنجيلي أصولي، له برنامج أسبوعي إذاعي وتليفزيوني يحقق 10 ملايين مشاهدة أسبوعيًّا، يهاجم فيه الإسلام والرسول بصفة منتظمة، وعندما دخلت دبابات الجنرال شارون لبنان واحتلت بيروت عام 1982م، كان جيري في واحدةٍ منها!
أما القس بات روبرتسون Pat Robertson فهو قسيس إنجيلي معروف بتأييده المطلق لإسرائيل، يمتلك محطة فضائية «البث المسيحي» (Christian Broadcasting)، تُقدِّم خدماتها بخمسين لغة مختلفة ويصل بثها إلى 90 دولة، وتشنُّ هجومًا متواصلًا على الإسلام، وفي إحدى عظات روبرتسون شبَّه فيها القرآن بكتاب كفاحي الذي يضم مذكرات هتلر!
حاول الترشح لرئاسة أمريكا عام 1988م وفشل، وعندما احتلَّ الجيش الإسرائيلي القدس عام 1967م، كان روبرتسون يركب دبابة ديان!
عُرف عنه احتفاؤه الشديد بحرب 1967م، وأنتج عنها فيلمًا وثائقيًّا، ورفض اتفاقية السلام مع مصر حتى إنه احتفى بِاغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين، واصفًا قتله بأنه «عمل من أعمال الله، وأنه حكم إلهي نُفِّذ فيه لخيانته شعبه»، واعتبر لاحقًا أن الجلطة الدماغية التي مرَّ بها شارون عقاب آخر من الله له؛ لأنه تخلَّى عن غزة للفلسطينيين.
في 2002م، منحه البيت الأبيض نصف مليون دولار هدية داعمة لجهوده الإنجيلية، لتكون أول مرة يقدم البيت الأبيض الأمريكية دعمًا لأي مؤسسة أو أي شخصية أمريكية، وفي العام نفسه كرَّمه الحزب الجمهوري، بصحبة جيري فالويل؛ لمساهمتهما في دعم التيار اليميني والحزب الجمهوري.
ولم يكتفِ بوش بهؤلاء الرجال، وإنما استعان بقسٍّ آخر هو مايكل جيرسون في كتابة خطاباته الرئاسية، فنجح في إضفاء لمسة توراتية على كلمات الرئيس خاصة كلما تحدث عن قضايا الشرق الأوسط.
ولهذا لا يستغرب الكاتب الصحفي جاكسون ليرز من كثرة انتشار «الأصولية السياسية» بين أنصار بوش، واعتبارهم أنهم يؤمنون بأنهم يعملون بـ «إرشاد إلهي وينفذون إرادة الله»، فيما علَّق الصحفي الألماني غانتز غراس على أسلوب إدارة جورج بوش للأزمات بأنه «أصولي يُقحم الله في الوقوف إلى جانبه».
ممارسة السياسة بعقلية شديدة التدين جعلت بوش أقل تسامحًا بكثير مع الرافضين لسياساته، ومنها تصريحه الاستقطابي الشهير بأن أي دولة في العالم لا تؤيد سياسته إذن فهي ضده.
فيما اعتبرت مجلة «نيوزويك» الأمريكية أن عقيدة جورج بوش الابن الأصولية البروتستانتية لعبت دورًا في دفع أمريكا نحو اتجاه يغلب عليه الحماس الديني أكثر من البصيرة السياسية، فكان قراره بغزو العراق.
وقبل اندلاع الغزو بأيام واصل بوش دبلوماسيته التوراتية فشبَّه صدام حسين بنبوخذ نصر، مستدعيًا عقدة تاريخية أخرى عند اليهود وهي «السبي البابلي»، فأعلن المتحدث الرسمي بِاسمه آري فلايشر، رسالة وجَّهها للعراق في مارس/آذار 2003م قال فيها: «لا يزال هناك وقت لكي يرى صدام حسين ما كُتب على الحائط ويرحل عن العراق»، وفي هذه العبارة توظيف مُباشر لما جاء في سِفر دانيال، بشأن نبوخذ نصر، الذي كان في وليمة عشاء فشاهد يدًا تكتب على الحائط رسالة مشفرة تعني أن الله وضع حدًّا لمملكته!
ويُضيف السماك: اعتبر الرئيس بوش أن الحرب على العراق «مهمة إلهية» يقوم بها من أجل عالم أفضل، كما وصفها في أحد المؤتمرات بأنها «حرب صليبية».
وهو التصريح الذي اعتذر عنه لاحقًا معتبرًا أنه «ما كان عليه أن يستخدم هذه الكلمة»، إلا أنه عاد وكرَّره بعد أن تخلَّى عن الرئاسة.
وخلال عمليات القتال، طلبت وزارة الدفاع من الجنود الأمريكيين، الذين أُرسلوا إلى العراق أن يُصلُّوا وأن يدعوا الله حتى تبقى قرارات الرئيس «إلهية» بعيدة عن مؤثرات الأصوات البشرية المعترضة على هذه الحرب داخل الولايات المتحدة وخارجها.
ويتابع السمَّاك أنه بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر تمت ترجمة بعض المعتقدات الدينية إلى ثوابت سياسية، أبرزها: أن اليهود هُم شعب الله المختار، لذا فإن الالتزام بدعم إسرائيل واجبٌ دينيٌّ يجعله خيارًا سياسيًّا لا بديل عنه، بالإضافة إلى أن أحد شروط العودة الثانية للمسيح هي بناء الهيكل، وهو المشروع الذي يجب أن تساهم أمريكا به وتعمل على إزالة أي عقبات تحول دون بنائه، وفي مقدمتها وجود المسجد الأقصى في الموقع نفسه الذي يجب أن يقوم عليه الهيكل.
وأخيرًا، إن حتمية وقوع هرمجدون التي تسبق العودة الثانية للمسيح تعني تعطيل أي مساعٍ للتسوية والسلام، فيجب ألا تُحل المشاكل بين العرب واليهود؛ لأن السلام يُعطل هرمجدون ويُؤخِّر العودة المنتظرة.