حضور التصوف في حياتي
قبل أكثر من خمسة عشر عامًا تعرّفت على كلمات مولانا جلال الدين الرومي، مررت عليها مرور الكرام وأنا أقرأ بعض ترجمات للمستشرق الإنجليزي نيكلسون، مدوّنة في كتابٍ ترجمَه تلميذُه أستاذ الثورة الروحية في مصر أبو العلا عفيفي، كانت النصوص مكتوبة بحبرٍ سرعان ما جفّ، ولم يبق في القلب أثر لمعانيها الروحية. كنتُ منشغلاً بدرسٍ آخر أو أبحث عن ماذا أدرس فلم أكتشف شيئًا فيّ بعد ولم أشبع نهم أي غريزة بَدَا لي أنها عَطْشَى.
مضيتُ أنقرُ بعيني بضع كلمات من هنا وهناك، وأهيم في كل وادٍ رُسمت لوحاته بخطوط عربية، لم يكن هناك فرق بين ما قاله الجنيد أو ما قاله ابن عربي أو الرومي أو البسطامي أو الحلاج، الكلُّ يقول كلامًا جميلًا أكتشفه للمرة الأولى، ولا يمكن بحال من الأحوال أن أدرك ما في باطنه أو ما وراءه من عوالم، أو تاريخٍ أو تجارب. وكما يتعجّب أحد الأصدقاء اليوم في تكليف بعض الأساتذة لطلاّبهم أن يطالعوا علم الكلام الجديد وهم لم يقرأوا القديم بعد!، فكيف يُدرك التطور في فن قديم دون الاطلاع على أصوله ومعرفتها؟!.
كان الهمُّ همّ تعبئة وجمع وتفتيش واكتشاف لمجهول، وحفظ معلومات وبيانات وترتيلها تلقائيًّا في الجلسات وإن كانت قليلة، إلا أنها كانت تستوعب انفجار المواد التي تم تخزينها دون عناية، وكلما خرجت معلومة دخلت أختها، فلا فارق ولا تمييز؛ لأن القارئ لا أستاذ له وهو لا يزال بعد تلميذًا تائهًا من جملة التلاميذ.
حتى صحّ العزم أن أنصرف إلى الاهتمام بفن خاصٍ يشبع نهم الصغار وطلاب الحجاج وقتها، فكان أن اهتممت بعلم مقارنة الأديان الذي حاولت في دراستي أن أتعرف – قدر الطاقة – على معالمه من مراجعه وكتاباته، حتى أسلمني هذا الاهتمام لقراءة كتب التصوف على هامش الدراسة، جزءُ الدراسة يشبع الطلب، وجزء التصوف يساعدني على أن أحيا بشكل داخلي وإن لم أُبن عن ذلك!
فهمت أن الحبَّ لا يُدرس ولا يُطلب في الدفاتر، فكنت أقرأ ونادرًا ما أخبر أحدًا إلا من أراه يشاركني في مثل هذه التجربة، أو أنشد فيه صدقًا لم أره حولي كثيرًا، وهكذا بدأت من جديد مع الحلّاج الذي طالعت أخباره قبل ذلك سريعًا وقرأت بعض كلماته.
كانت المسرحيات الإذاعية، وبعد ذلك الكتب المسموعة، بمثابة اختراع ينقل الدفء للصخر فيذيبه. ربما لم أُحْسن حفظ الكلمات أو الجمل التي كنت أسمعها وأكرر إذاعتها مرات حتى يتجدد الشعور الذي اكتسبته في كل لحظة وأنا أعيش بعض المعاني، لكني بالفعل كنت أجد ما لا أستطيع تحصيله الآن بعد هذه الرحلة الطويلة نوعًا ما، وإن آمنت أن كل فترة لها ما يناسبها، فلا ثبات ونحن نؤمن بتجدد الحياة!.
رويت لشيخ صوفي هو صديق لي منذ بدء الرحلة بعض عبارات قالها الحلاّج، فكان يطلب مني ترجمة بعض المعاني، لكني كنت أعجز عن نقلها، فكان يجبر الكسر الذي ألمسه فيّ بأن يقول: إن هذا مما لا يُترجم، هذا المعنى أو ذاك لا يمكن نقله لأنه يعاش. وقد أكد لي بكلماته أن العجز كما قال الصّديق عن درك الإدراك إدراك!.
لمستُ في كلام الحلاّج ما ليس بحاجة إلى معجم اصطلاحات أو شرحٍ لديوان، فلا يهم ما استُغلق من كلمات أو طلاسم يمكنني أن أتعدّاه إلى غيره، وسيأتي وقتٌ مع تجديد المطالعة وتطوّر التجربة أفهم فيه ما استُغلق من قبل. لم تشغلني كثيرًا مصدرية التصوف، وهل هو أصيل في الإسلام أم مستفاد من الأديان السابقة عليه أو المذاهب الباطنية أو (الأديان غير السماوية)، كنتُ أقرأ عن ذلك ولا يثبت في ذهني منه شيء. فسواء أكان من الإسلام أم من غيره لم يكن هامًّا بالنسبة لي؛ لأن كلَّ واردٍ على القلب يسعده، كنتُ أراه أصيلًا وموصولًا بالسماء، وإن كان مذهب (حدثني قلبي) ممجوجًا ومستبعدًا في وقت يسعى الكلُّ فيه للقولبة، ويُدخل الآخرين في قالبٍ، سواء هنا أو بعد الممات.
لا زلت أذكر ما يُقال عن (مسيحية الحلّاج) وكونه (مسيح الإسلام) من خصوم التصوف أو المهتمين به من أهل الاستشراق كماسنيون، ودفاع البعض عنه وشرح كلماته، وتأويل شطحاته، أو تطويرها في نصوص أخرى، فارسية كانت أو أوردية أو عربية، أو في لغات أوروبية، لكنني – وإن تابعت ذلك – لم أنشغل به كثيرًا، وإن ثارت معارك بسببه ولا تزال.
كنتُ أصدّق عبد الرحمن بدوي في حكاياته عن تدين ماسنيون، الذي قضى جزءًا من حياته في إعادة اكتشاف الحلاج، وسواء ألبسه تاج الشوك ووضعه على صليب المسيح وسط قضاة السياسة وفقهاء التاريخ، أو ألبسه مرقعة عمر وزركشها بصلوات القديسين، فإنني أصدق أن الحلاج أخذ من ماسنيون حياته، وأخذ منه ماسنيون في حياته الكثير، فالسيرُ في وقت تتساقط فيه الثلوج إلى الكنيسة لا يقوم به شاب مسلم اليوم في كامل صحّته وكبير التزامه بطقوس الدين، فالرخصة الفقهية تقتضي ألا يلقي المرء نفسه بالتهلكة في ظل رحمة الشريعة، لكن القارئ لنص الفراشة التي تحترق في ضوء المصباح، لا يرضى إلا أن يكون زيتًا للقنديل.
لفتَ نظري أن بعض الدارسين للتصوف من المستشرقين والمخاصمين له من المسلمين، يصرّون على أن هذا الدين لا يمكن أن ينتج تجارب روحية على الصور التي وصلتنا، ولا بد من أثر خارجي (لوّث أو طهّر!)، والغريب أن بعض المسلمين المحبّين للتصوف أو العرفان، الناطقين بلسان غير عربي يؤيدون أن هؤلاء العرب أجلاف قساة، لا ينبت من بذورهم إلا الشوك الذي يريق الدماء!.
كان من الصعب أن أتقبّل ذلك وأنا أقرأ وأتعرف على كتابات أصيلة تقول إن الشعر يظل عمادًا من أعمدة البيت الصوفي بكافة أغراضه، فضلًا عن الغزل الذي يصعب فهم كثير من نصوص الصوفية نثرًا أو شعرًا دونه. ولا تزال كتابات المغفور له محمد غنيمي هلال حاضرة بجمالها ورصانتها العلمية في فهمي لكثير من هذه الأمور، ككتابه عن ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻌﺎﻃﻔﻴﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻌﺬﺭﻳﺔ ﻭﺍﻟﺼﻮﻓﻴﺔ، ودراسته عن ليلى والمجنون، حتى مختاراته من الشعر الفارسي التي لا تقل في جمالها عن هذين الكتابين وعن مختارات غيره، بالنسبة لي يظل الشعر العربي حاضرًا فيها.
العودة للحلاج عودة إلى الأصل، إذ لا يمكن تجاوزه من الدارسين للتجربة الصوفية، ولا يمكن فهم كثيرين دون قراءته، حتى من بدا في الصورة معارضًا له أو بعيدًا عنه تجد في كلامه من كلام الحلاج وعباراته، فالصورة التي تحتفظ بها أدبيات أهل فارس للجنيد لا تختلف كثيرًا في تفاصيلها عن صورة الحلاج، ربما هذه الصورة من بناء الرواة وصوفية القرون التالية، لكن الشاهد فيها أن الحلاج سماء يستظل بها أهل ذلك البستان.
تعرّفت على كتابات نصر الله بورجوادي عبر مشاركته في كتاب أهدي لذكرى ماسنيون باعتباره عميدًا من عمداء الدرس الاستشراقي الصوفي، لا يمكن تجاهل كتاباته في هذا المضمار، فرجل بحجم محمد إقبال شاعر الهند والأب الروحي لباكستان يدين لماسنيون بتصحيح نظرته للحلاج!، فبعد أن انتقد إقبال الحلاج تحولت صرخته (أنا الحقّ) إلى أيقونة لا يمكن تجاهلها، وأنت تقرأ عن (الذاتية) وأسرارها عند إقبال، أو تجديد التفكير الديني في الإسلام!.
شارك بورجوادي في هذا الكتاب، وشارك آخرون؛ كأبي يعرب المرزوقي، وبورجوادي محقق شهير لا تزال أعماله تُطبع في إيران بكثرة، ويحقق وحده أعمالاً كثيرة- وإن سبق طبعها في نشرات قديمة هندية أو مصرية – يكتشف من النصوص التراثية ويجتهد في طبعها ما لا يكتشفه باحثو الدكتوراه والأساتذة في بلادنا العربية، ويُحسن الربط بين عناصر الموضوع الواحد، ويهتم بما اهتم به المستشرقون ويكمل المسيرة التي بدأت مع هنري كوربان وغيره، ويصدر بعض الرسائل والكتب بتحقيق مشترك مع المستشرقين الألمان.
كان بورجوادي سببًا لتعرّفي على نصوص ابن خفيف التي رحت أبحث عنها بناء على إشاراته، وكان من حسن الحظ أن وفّر الأستاذ إبراهيم الدسوقي شتا نصًّا بديعًا فيه سيرة ابن خفيف منقولة عن الفارسية كتبها تلميذه، وفي السيرة عقيدة ابن خفيف وأخباره وتجاربه. ومن الجميل أن شتا نقل المقدمة التركية التي صدّرت بها النشرة السيدة أنّا ماري شيمل التي سأصحب مؤلفاتها وقتًا ولا أغادرها؛ لأنها متى أشرقت بوصفها لعالم الإسلام المترامي الأطراف لا يسعك إلا أن ترتحل معها ولا تعود أبدًا!.
يُتبع بمقال تالٍ إن شاء الله.