حضور مولانا جلال الدين الرومي في المغرب
تركز هذه المقالة على حضور جلال الدين الرومي في الثقافة العربية والمغربية بشكل خاص، ذلك الحضور الذي بدأ بإصدار مطبعة بولاق أجمل طبعات المثنوي، وشرحه العربي (المنهج القوي لطلاب المثنوي)؛ وتطوّر بعد إنشاء معهد اللغات الشرقية بكلية الآداب في الجامعة المصرية، إذ أضحى المثنوي وقتها مادة للدراسة والترجمة، بفضل الأساتذة الأوائل الذين درسوا على أيدي المستشرقين المتخصصين في الأدب الفارسي، ومن هؤلاء الأستاذ عبد الوهاب عزّام الذي تتلمذ على يد المستشرق (دنسّ رس) و(نيكلسون) و (توماس أرنولد).
إن واحدًا من هؤلاء المستشرقين الكبار صرف عمره في درس التصوف الإسلامي، حتى أمسى حُجّة في علمه، وله فيه مؤلفات كثيرة يعتمد عليها الباحثون في التصوف، وهي حَرية بأن يعتمد عليها، وقد نشر بعض كتب التصوف القيمة بالعربية والفارسية وترجم بعضها إلى الإنكليزية، وحسبنا أن نقول إنه ترجم المثنوي، ونشر الأصل الفارسي والترجمة. فكان الأصل الذي نشره عمدة قراء المثنوي في أصله الفارسي، والترجمة مرجع قرائه في الإنجليزية. كذلك فعلت السيدة إيفا دوفيتري ميروفيتش في فرنسا، التي تناولها مقالنا السابق.
ولأن بلاد المغرب كما يُقال: أرضٌ تُنبت الأولياء، سيكون مستبعدا أن يهتم أهلها بالتصوف الفارسي، إذ ما لديهم من التراث الروحي يستعصي على الحصر، لذا تأتي محاولتنا هذه لتلقي الضوء على حضور منسي اليوم، ونحن نشهد الاحتفاء بالرومي في مصر عن طريق طبع المثنوي المتجدد، وفي سوريا عن طريق ترجمة أصول كتابات الرومي على يد الأستاذ عيسى علي العاكوب، وغيرها من صور الاهتمام في البلدان الأخرى التي عرضنا لها في سياق آخر.
في عام 1992 نشر محمد ناعم في مجلة «دعوة الحق» المغربية مقالين للتعريف بالرومي واصفًا الكتابة عن الرومي بأنها عملٌ شاقٌّ يتطلب سعة الاطلاع، وعمق الصبر في البحث والتنقيب في مختلف المصادر والمراجع، التي هي في واقع الأمـر قد ظلمته ظلما كبيرا، حيث إنهـا لم تشر إليه إلا من زاوية صغيـرة، أو بإشـارات غامضة ومبهمة، متصرمة الحلقات. مفككة الوقائـع إلى درجة أنهـا لا تستطيع أن تعطيك صورة كاملة وواضحة عن حياة جـلال الدين وفكره، والظروف التاريخية والسياسية والثقافيـة المعاصـرة له، علاوة على ذلك، فمؤلفـاته المنشورة والمنظومـة لم تحظَ بترجمـات عربية جيدة.
ما يذكره محمد ناعم في بداية مقاله يجسد جزءًا من واقع الكتابات في الدرس العربي عن الرومي، لكننا لا نعثر في نصّ (ناعم) على ما يخرجه من جملة الأحكام التي أطلقها على الآخرين، فهو يعتمد في كتابته عن الرومي على مرجع يؤسس عليه بحثه، هو عبارة عن فصل في كتاب رجال الفكر والدعوة، للندوي إذ خصص العالم الهندي مادة في الجزء الثاني من كتابه عن الرومي، يعتمد عليه ناعم في التأريخ لحياة مولانا، كما يعتمد على كتاب قصة الأدب في العالم، وهي مراجع ثانوية للغاية، ورغم ذكره لترجمة الأستاذ محمد عبد السلام كفافي إلا أننا لا نرى أثرًا في مقاله تظهر منه مطالعته لمؤلفات كفافي عن مولانا، فمن المعروف أن كفافي أنجز دراسته الكبيرة عن جلال الدين الرومي وتصوفه وترجم المثنوي ترجمة جزئية قبل أكثر من عشرين عامًا (وقت كتابة ناعم لمقاله)، كذلك يُشار في المقال إلى عزّام ولا يُحال ولو مرة على كتابه (فصول من المثنوي) ويحال على مرجع ثانوي هو قصة الأدب في العالم، وإن ذُكر بعنوان مختلف في مقاله (قصة الأدب الفارسي).
يعتبر المقال الأول الذي نُشر مع بداية عام 1992 في المغرب تلخيصًا لسيرة الرومي كما وردت عند الندوي، لكنه تلخيص يمكن الاعتماد عليه في التعرف على سيرة الرومي بشكل صحيح، فحينما نعود إلى نصّ الندوي نجده يعتمد في التأريخ لحياة الرومي على مصدرين هما من أفضل الدراسات عن الرومي، الأول كتبه العلاّمة الفارسي بديع الزمان فروزانفر. ويذكر الندوي ذلك قائلًا: اعتمدنا في تلخيص ترجمة الرومي وأخباره على كتاب «صاحب المثنوي» للأستاذ المحقق القاضي تلميذ حسين الهندي، وهو خير ما كتب في هذا الموضوع ومن أوثق المصادر، واستفدنا قليلًا من كتاب «زندكاني مولانا جلال الدين» للأستاذ بديع الزمان فروزانفر أحد أساتذة الأدب في جامعة طهران.
أما المصدر الثاني فهو كتاب مؤلف بالأوردية تُرجم حديثًا إلى اللغة الفارسية، ويحيل الندوي عليه قائلا: أكثر معلومات هذا الفصل مستفادة من كتاب «سوانح مولانا روم» باللغة الأردية للعلامة المرحوم شبلي النعماني. ويكتفي محمد ناعم في المقال الثاني بذكر مؤلفات الرومي النثرية والمنظومة في نسختها الفارسية، ولا يفصّل الحديث إلاّ عن المثنوي فحسب.
في عام 2007 خصّ أحمد موسى وهو من الباحثين المتخصصين في الأدب الفارسي في المغرب مسألة السماع المولوي ببحث قدّمه في أعمال الملتقى الدولي الثاني في موضوع التصوف والسماع الروحي، والذي انعقد برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة-المملكة المغربية، تحت عنوان: [دور الزوايا والطرق الصوفية في التربية الروحية، الزاوية القادرية البودشيشية نموذجًا]، ونشر العمل ضمن سلسلة ندوات ومناظرات، رقم 14، سنة 2013. لم يكن البحث الخاص بالسماع والرقص المولوي هو المادة الوحيدة التي قدّمها موسى في هذا السياق، بل قدّم عرضًا لكتاب إيفا ميروفيتش عن (جلال الدين الرومي والتصوف) معتمدًا على النشرة المعرّبة عن الإنجليزية بقلم عيسى علي العاكوب.
لكننا مع العامين الأخيرين سنشاهد اهتمامًا مختلفًا مع الكاتبة والمترجمة المغربية عائشة موماد، التي قدّمت لنا للمرة الأولى في اللغة العربية ترجمات عن الفرنسية لـ إيفا دوفيتري ميروفيتش وليلي أنفار وأستاذ إلهي ونهال تجدد وغيرهم ممن اهتموا أو استفادوا من دروس الرومي، فنقلت موماد شهادة الشيخ خالد بنتونس شيخ الطريقة العلاوية في حق إيفا دوفيتري ميروفيتش عن الندوة التي أقيمت بقونية للحديث عن إيفا إلى اللغة العربية، وعرّفتنا موماد كيف دخلت إيفا دوفيتري ميروفيتش إلى عالم العشق المولوي، فعبر ترجمتها لكتب محمد إقبال من الفارسية والإنجليزية إلى الفرنسية، «قابلت» مولانا وفُتحت لها وبها أبواب العشق والمعرفة على مصراعيها فأغلب قرائها في الغرب، وخاصة في فرنسا والدول الفرنكوفونية قدمت لهم إيفا مفاتيح عدة لولوج بوابة الإسلام عبر محو الكثير من الأحكام المسبقة وربط الجسور بين الشرق والغرب. وقد كرست إيفا كل حياتها للرومي، لأنها (وجدت أن رسالته تخاطب الوقت الراهن. إنها رسالة حب، ذات بعد أخوي ووحدوي).
لم تكتف عائشة موماد بالتعريف برسالة إيفا، بل ترجمت لنا بعض دراساتها ومقالاتها، وفيما يلي نذكر جزءًا مما طالعناه لها
حضور الرومي في حياتي
كان لقاء إيفا بالرّومي نقطة تحوّل حاسمة قلبت حياتها كما تقول رأسًا على عقب، لذا حاولت أن تنقل رسالته، معتقدةً في تناغمها، أكثر من أي رسالة أخرى، مع كل المساعي والتطلعات. ولا تنسى في مجمل حواراتها أن تعبّر عن سعادتها بترجماتها لأعمال الرومي وما كُتب عنه : «فيه ما فيه»، و «الغزليات» و«الرباعيات» و«المعارف» و«ولد نامة» لسلطان ولد، وأنهي الآن ترجمة «المثنوي».
وقد مكّنتها هذه الترجمات من قياس مدى تأثير هذا الفكر الصوفي في حياتها. حاولت إيفا جاهدة في عرضها الذي نقلته إلى العربية عائشة موماد أن توضّح ما اعتقدته المكوّن الأساسي لرسالة الرومي، وخصّت بذلك العرض الشباب الغربي المتعطش للروحانية.
نظرة عامة على تعاليم مولانا
يُعد هذا العرض أول ما نشرته إيفا دوفيتري ميروفيتش من أبحاثها حول مولانا جلال الدين الرومي عام 1957 بمؤسسة Ernest Renan المتخصصة في تطوير الدراسات حول تاريخ وفلسفة الأديان، وكان من أهم الأعمال التي نشرت بالمؤسسة، دراسات ماسنيون وكوربان وماسي ورودينسون ومحمد مقري. نُشر هذا العرض مجددًا ضمن مجموعة من المقالات الخاصة بالسيدة إيفا تحت عنوان:Universalité de l’Islam بدار النشر الفرنسية Albin Michel عام 2014م بتقديم وتعليق: Jean-Louis Girotto.
تناولت إيفا في هذا العرض الحدث التاريخي الأكثر أهمية في حياة الرومي عام 1244م، وهو لقاؤه بالدرويش الجوّال شمس تبريزي. حيث ألهبته نار العشق الروحي عند رؤيته لشمس. ويشهد الرومي أن حكمته قد طُمست كما تطمس شمس الصباح نور المشكاة. غدت هذه الشخصية الغريبة الصديق والمريد والشيخ لجلال الدين الرومي.
كما تحدثت بإيجاز عن تلك الحلقات التي يرقص فيها الدراويش على نغمات الناي في دوران كدوران الكون وجولة الكواكب المذهلة. فالموسيقى نفسها إحياء للروح، تخلق تلك الحالة التي يلغى فيها الزمن داخل اللحظة المقدسة، تمنحها تناغمًا في طريق الخلود حيث تمكنها من التذكر.
ولم تنس أن تذكّرنا بالبصمة الكونية والتسامح الظاهر في كافة أعمال الرومي: بما أن الله هو الحقيقة الوحيدة وهو الهدف الوحيد للصوفي، في طريق بحثه المتواصل، فالطريق المؤدي إليه لا يكتسب أي أهمية. يقول الرومي: «هناك طرق كثيرة للبحث، لكن موضوع البحث يبقى واحدًا».
المذهب الشعري في الإسلام
تصبح القصيدة في دراسة إيفا عن المذهب الشعري في الإسلام شبيهة بحبات لؤلؤ في خيط عقد، يمثل الخيط آنذاك نغمة روحية تقع تحت هذه اللحظات. كذلك الأمر في لوحة انطباعية، فتلك اللمسات الصغيرة من الدهان، لم تأت إلا دليلًا على وجود الشيء في حياة أخرى. نفس الشيء بالنسبة للموسيقى: تشبه الموسيقى ذات النبرة الحادة Musique Syncopée نبضات القلب، إنها موسيقى إيقاعية، بإيقاعات متفاوتة الطول. الشعرُ كذلك مُفعّل، فهو إذن مصنوع من نبضات الزمن.
مستحضرة في دراستها الجامعة بين الفلسفة بشكل عام والتصوف الإسلامي مصطلح (المقام) عند الصوفية، والذي يتطابق مع (مقام الألحان) في الموسيقى، فهو عبارة عن مرتبة لا تضيع بعد أن يتم الوصول إليها. تكون هذه الرؤية مشروطة بمقاربة معينة للزمن، حيث يؤسس المطلق الزمن ويجلوه ويمنحه استمرارية ظاهرية.
كما نقلت عائشة موماد سابقًا إلى العربية ما يقارب 100 رباعية عن نسخة ترجمة إيفا لرباعيات مولانا بمشاركة جمشيد مرتضوي المنشورة في Albin Michel بفرنسا. ونشرت جزءًا من هذه الترجمات في كتاب (الرومي بين الشرق والغرب)، وتكمل هذه المسيرة اليوم بتقديم أكثر من 300 رباعية في ترجمتها لـ(رباعيات مولانا جلال الدين الرومي) معتمدة على النسخة الفرنسية التي نشرتها مريدة وعاشقة مولانا إيفا ميروفيتش، في كتابها (رباعيات مولانا جلال الدين الرومي) الصادر عن طواسين ودار مداد في بيروت.