عالم ما قبل كورونا: كيف نتجنب العودة إليه؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
متى ستعود الأمور إلى طبيعتها؟
سؤال يتردد على ألسنة الجميع، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى الألم والتضحية التي تحمَّلها الكثيرون على مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية. ولكن هل من الواجب أن تعود الأمور إلى طبيعتها فعلًا؟
وماذا لو كان هذا «الوضع الطبيعي» يمثل نموذجًا اقتصاديًّا فاشلًا، تسبَّب في ظهور مستويات غير مقبولة من عدم المساواة، أثَّرت سلبيًّا على النسيج الاجتماعي والأخلاقي لمجتمعنا.
ومثلما تعوَّدنا كلما واجهتنا تحديات قديمة وجديدة، ثمة حفنة من الفلاسفة نلجأ إليهم، عساهم أن يرسموا لنا خارطة طريق لمرحلة ما بعد الوباء، ولعلي قد تمكَّنت من الإحاطة بأفكار بعضهم في كتابي الأخير «الدروس الفلسفية للإغلاق» philosophical lessons of lockdown، وفيما يلي نتناول أفكار سبعة منهم، لعلها تساعدنا على بناء عالم أفضل من خلال معالجة عدم المساواة، وعكس اتجاه الخصخصة، وتعزيز الديمقراطية.
بريان باري
بحسب الإحصائيات حصدت جائحة «كوفيد-19» أرواح حوالي 3.4 مليون شخص في جميع أنحاء العالم. من وجهة «بريان باري» هم أيضًا ضحايا لعدم المساواة، وبعد هذا الوباء، يجب أن تكون الأولوية لبناء مجتمع أكثر عدلًا، حيث المساواة شرط مسبق للحرية.
وفي كتابه الصادر عام 2005 بعنوان «لماذا تعد العدالة الاجتماعية مهمة» Why Social Justice Matters، عام 2005، يعترض «باري» على الطريقة التي يُفهَم بها تكافؤ الفرص اليوم، حيث يُنظر إلى المسئولية الشخصية على أنها أبسط الفضائل الفردية وأساسها. ولكن «باري» يزعم أن الشعار الحديث للمسئولية الشخصية والجدارة هو أسطورة، وأيديولوجية اُستخدمت مرارًا لمعاقبة أفراد المجتمع الأكثر حرمانًا.
وفي عالمنا اليوم يُنظر إلى الناس على أنهم مسئولون عن فقرهم وبؤسهم وافتقارهم إلى الموارد، وفي حال استسلامهم لـ «كوفيد-19»، يُنظر إلى ذلك أيضًا على أنه خطؤهم.
بالنسبة لـ «باري»، لا يمكن أن يكون هناك تكافؤ في الفرص إلا إذا كانت هناك مساواة في الوصول إلى الموارد، وهو ما نحتاج إلى العمل من أجله في عالم ما بعد «كوفيد-19».
توماس سكانلون
خلال الجائحة كشف «كوفيد-19» عن الظلم الهيكلي الذي يقوم عليه مجتمعنا، والذي يتجلى في التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة والاستغلال المستمر. وخلال هذا الوباء ازداد الأثرياء ثراءً وقوةً، بينما استمرت معاناة الفقراء من أوضاع أكثر هشاشة.
إننا نخاطر بتحويل ديمقراطياتنا إلى ديمقراطيات بلوتوقراطية تُحكَم من قبل الأثرياء. هكذا يتحدث «توماس سكانلون»، أحد أكثر الفلاسفة الأخلاقيين الأحياء تأثيرًا عبر صفحات كتابه «لماذا تعد اللامساواة مهمة» Why Does Inequality Matter?، الصادر عام 2017.
جون راولز
إن إعادة بناء المجتمع على أسس أكثر عدلًا سيتطلب إعادة التفكير الجذري في دور الدولة في المجتمع. خلال هذا الوباء تطلع الناس إلى حكوماتهم من أجل الخلاص، وربما منحتنا جائحة «كوفيد-19» الحجة القوية للدعوة إلى الالتفاف حول المؤسسات العامة من جديد.
فلم يحدث من قبل أن حظيت المؤسسات الحكومية الرئيسية التي تُقدِّم الخدمات العلاجية بمثل هذا التقدير حين وضحت الحاجة إليها.
من الآن وصاعدًا يجب تعزيز دور الدولة في تنظيم شئوننا الاجتماعية والسياسية، على ضوء الفلسفة السياسية لـ «جون راولز»، الذي جادل بأن المجتمع العادل يتطلب إعادة توزيع الموارد في جميع أنحاء المجتمع.
كيارا كورديللي
على مدى السنوات الأربعين الماضية شهدنا سباقًا محمومًا نحو تسليم الوظائف المهمة للدولة إلى القطاع الخاص، مع ما يترتب على ذلك من عواقب مدمرة. وقد حان الوقت لعكس هذا الاتجاه.
ففي الديمقراطيات الليبرالية في مختلف أنحاء العالم تعدى القطاع الخاص على القطاع العام، الأمر الذي قوَّض أسس الديمقراطية، لدرجة أن الشركات الخاصة تقوم اليوم بالوظائف التي كانت تقوم بها المؤسسات العامة طوال تاريخها.
الأمر لا يقتصر على تسليم وزراء الحكومة عقودًا لشركات خاصة تربطهم بها صلات شخصية (في المملكة المتحدة، يخضع خُمس العقود الحكومية التي أجريت إبان الجائحة للتحقيق بسبب شبهة الفساد، وفقًا لمجموعة حملة الشفافية الدولية في المملكة المتحدة). وهناك أيضًا حقيقة أن القطاع العام ومؤسساته قد تمت خصخصتها بشكل متزايد.
وكما تُبرِز «كيارا كورديلي» في كتابها The Privatised State «الدولة المُخصخَصة» (2020)، فإن العديد من الوظائف الحكومية اليوم، من إدارة السجون ومكاتب الرعاية الاجتماعية إلى الحرب والتنظيم المالي، يُعهَد بها إلى كيانات خاصة. وحتى التعليم والرعاية الصحية يُمولان جزئيًّا من خلال الأعمال الخيرية الخاصة بدلًا من الضرائب. وفي عالم ما بعد «كوفيد-19» ينبغي أن تكون هناك أولوية للقيود الدستورية المفروضة على الخصخصة.
مارتن أونيل وشيبلي أور
ويمكن، بل ينبغي، تصحيح التوزيع غير العادل للدخل، أو تراكم الثروة غير المتكافئ بشكل خطير، عن طريق الضرائب.
إن عدم المساواة هو أحد الأسباب التي جعلت «كوفيد-19» مُدمِّرًا للغاية في الهند وأجزاء أخرى من العالم. ولا تزال الضرائب واحدة من أكثر الأدوات فاعلية لعكس هذا الأذى الاجتماعي المتنامي، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
لا يمكن إنكار الدور المحوري للضرائب في النظام السياسي الحديث، كما يُذكِّرنا «مارتن أونيل» و«شيبلي أور» في مجلدهما «الضرائب: وجهات النظر الفلسفية» Taxation: Philosophical Perspectives، الصادر عام 2018.
ماريا باغراميان
طوال هذا الوباء كان الخبراء العلميون في طليعة معركتنا ضد «كوفيد-19»، وأصبحت أهمية البحث العلمي المُنقِذ للحياة واضحة للجميع. وفي المستقبل سنحتاج إلى مزيد من الخبراء.
كما تعلَّمنا التمييز بين الحقيقة، و«ما بعد الحقيقة» (أي اختفاء المعايير الموضوعية المشتركة للحقيقة)، ومدى الخطورة التي يمكن أن تكون عليها هذه الأخيرة في أوقات الأزمات: فقط اسأل مئات الآلاف من الأشخاص الذين لقوا حتفهم من «كوفيد-19» في الولايات المتحدة والبرازيل والهند والمملكة المتحدة، فقط لأن حكوماتهم لم تأخذ مشورة الخبراء على محمل الجد.
خلال الجائحة لم يتفق الخبراء على أي من الإجراءات التي تم اتخاذها، بدايةً من الإغلاق إلى ارتداء القناع وحتى إجراءات حظر السفر، من هنا تبدو أهمية الإنصات إلى الخبراء ذوي البصيرة في هذا الشأن، كما هي «ماريا باغراميان»، الفيلسوفة في كلية دبلن الجامعية، والتي تقود مشروع PERITIA، والذي يُحقِّق في مدى ثقة الجمهور في الخبراء، وكتبت على نطاق واسع ومُقنِع حول مسائل التداخل بين النسبوية والثقة والخبراء.
قد لا يكون من الحكمة في شيء الانغماس في ذكريات الحنين حول «الأيام الخوالي» قبل «كوفيد-19». فهناك العديد من الدروس التي يجب أن نتعلمها من الأزمة الحالية، وليس هناك ما هو أسوأ من أن نصم الآذان عن الفلاسفة الذين تخيَّلوا عوالم أفضل وأكثر عدلًا وصحةً منذ فترة طويلة، حتى قبل بدء الوباء.