هاجس السلطة والتهديد بحرب أوروبية
يقرأ طلاب المدارس الثانوية في إيطاليا في مناهجهم عندما يدرسون تأسيس الدولة الإيطالية كدولة موحدة أن كاميلو بينسو، كونت كافور، رئيس وزراء مملكة ساردينيا (وبيدمونت) التقى نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا. سرًا في يوليو/تموز 1858 في أحد أحياء بلومبيير لمناقشة خطة بيدمونت العسكرية الجديدة التي تهدف إلى توحيد شبه الجزيرة وطرد النمساويين منها. أثناء الاجتماع، اتفق الرجلان على أن فرنسا، حال شن النمساويون هجومًا على بيدمونت، سوف تتدخل عسكريًا لدعم الإيطاليين في مقابل حصولها على مناطق نيس وسافوي. عبر الأشهر التالية، أثارت مملكة سردينيا اعتداء نمساويًا بعد أن حشدت قواتها على الحدود مع لومباردي-البندقية، المناطق التي كانت تحتلها الإمبراطورية النمساوية، وحشد النفير العام المتطوعين من كل أرجاء إيطاليا للقتال ضد النمساويين. وبعد بعثات دبلوماسية غير ناجحة، أطلق النمساويون إنذارًا نهائيًا بنزع السلاح، رفضه عاهل مملكة سردينيا، فيتوريو إيمانويل الثاني. أعلنت النمسا الحرب وتدخلت فرنسا في الصراع إلى جانب الإيطاليين.
لا أدري من ذا الذي تحدث إليه بوتين سرًا على غرار كافور عندما قرر نشر قوات هائلة وتنفيد مناورات عسكرية متصلة على الحدود الأوكرانية، لكن ما يفعله يبدو كأنه عاصفة مخططة بعناية. الاختلاف هو أن كافور أراد أن ينشئ دولة حرة غير محتلة للإيطاليين في شبه جزيرتهم، بينما يريد بوتين أن يحتل بلدًا تحرك نحو الاستقلال والديمقراطية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
علي الرغم من أن التحذيرات بحرب وشيكة أصبحت تتردد أكثر فأكثر في الوقت الذي لم يجرِ فيه بعد أي خفض للتصعيد، كانت بعض الصحف الإيطالية في الأيام الماضية تسخر من التحذيرات من غزو روسي مخطط، ووُصف الأميركيون بأنهم «مهجوسون بفكرة الحرب»، بينما تم تصوير الناتو كتحالف ضعيف ولا يعتمد عليه بين دول رأسمالية، ووصفت الدولة الأوكرانية كآلة فاسدة مواطنوها متروكون للعوز. ربما يكون هنالك بعض الصدق في ذلك[1]، لكن مستوى المعلومات المشوهة والتقارير المجزأة ينمو كما لم يحدث من قبل، حتى في أوروبا الغربية، ما يشتت الانتباه العام عما يحدث بالفعل على الأرض الآن.
من وجهة نظري، ما يحدث الآن صار ممكنًا أيضًا لأننا تركنا روسيا تقضي على التطلعات السورية نحو الحرية والديمقراطية، وتعيد تثبيت نظام الأسد بعد أن تحولت الثورة من احتحاج شعبي سلمي إلى حرب أهلية. اختبرت روسيا قدراتها على كبح التطلعات الديمقراطية في جاراتها اللصيقة في أوروبا، وقدرت إلى أي مدى سوف يتخلى المعسكر الديمقراطي عن مسئولياته في الدفاع عن القضية الديمقراطية. لقد كان استثمارًا رابحًا تمامًا بالنسبة لروسيا. كان أصدقائي السوريون على حق عندما كانوا يقولون لي قبل نحو ست سنوات: «بلدانكم تعتقد أن الديمقراطية لها فقط وليست لنا، ولقد تركونا نموت تحت قصف الديكتاتور». أحدهم قال لي: «طال الوقت أو قصر، فإن ذلك سيرتد في صدر العالم»، وها نحن نرى ذلك اليوم.
الآلية تعمل جيدًا. دعوني أذكركم بالتالي. في 14 مارس/آذار 2016، بعد ستة أشهر من الغارات الجوية المكثفة على المناطق السورية المتمردة بدعوى «استهداف الإرهابيين»، أعلن بوتين أن الجيش الروسي سوف ينسحب من سوريا. خرج الإعلان للعلن، وتم تداول صور الطائرات المقاتلة وهي تحلق عائدة إلى موطنها. ثم حدث العكس: كثفت روسيا تدخلها العسكري الذي بلغ ذروته مع حصار حلب وقصفها واستعادتها، وانتهى إلى إعادة انتشار مخطط لقوات روسية أساسية على الأرض ما زالت هناك حتى اليوم، بعد أن أخضعت البلد بأكمله بالحديد والنار باسم إعادة تثبيت شرعية الطاغية المجرم في دمشق.
في أوكرانيا، نرى لعبة متشابهة تقوم على تزييف ممنهج للحقائق وتشويه للواقع وفرض رؤى إمبريالية على عقول المواطنين الروسي وإخوانهم في العالم.
أولئك الذين يهونون من خطورة اللحظة، أو يقللون من خطر غزو روسي، ربما لا يدركون بالفعل ما هو على المحك الآن. إنه الدفاع عن مبدأ اختيار الديمقراطية والحق في تقرير المصير لكافة الأمم. إنه ليس مجرد السيطرة على بعض المناطق الأوكرانية، بل تحطيم قوة الجذب التي تحظى بها الديمقراطية لدى كافة الأمم التي ترزح تحت وطأة حكم السلطويين والديكتاتوريين. ربما ليست المسألة بالنسبة لروسيا أيضًا هي محاولة الشعور بالأمان تجاه التهديد العسكري الذي يمثله الغرب، أو ليس ذلك بمجرده هو المسألة[2]. إنها في المقابل منع أوكرانيا من الالتحاق المحتمل بأسرة الاتحاد الأوروبي وبمجتمع الدول الديمقراطية الأوروبية.
العام الماضي، كتب الرئيس الروسي مذكرة يطرح فيها أن الروس والأوكرانيين هم أمة واحدة، لكن الأوكرانيين رفضوا وجهة النظر تلك معتبرينها مقولة إمبريالية. أدعو القراء لأن يطلعوا على الإسهام الذي قدمته إيفانا كليمبوش-تسينتسادزي وأولكساندر ميريشكو، وكلتاهما ضمن وجوه سياسية محترمة في أوكرانيا المعاصرة، ونشرتاه في الصحافة الألمانية، مؤخرا. كتب بوتين في تلك المذكرة: «إنني على ثقة في أن السيادة الحقيقية لأوكرانيا ممكنة فحسب عبر شراكتها مع روسيا، لأننا شعب واحد». كلمات جورج كينان، المؤرخ الأمريكي الذي عمل دبلوماسيًا خلال الحرب الباردة، قد تكون كاشفة لما تعنيه تلك المقولة: «العين المتعصبة والغيورة للكرملين ليست بإمكانها أن تميز أساسًا إلا بين تابعين وأعداء، وإذا أراد جيران روسيا ألا يكونوا واحدًا من الاثنين، فإن عليهم فورًا أن يعتبروا أنفسهم الآخر». إننا نرى في الواقع قلبًا كاملاً لمبدأ تقرير المصير الذي حدد الحق القانوني للشعب في أن يقرر مصيره ضمن النظام العالمي، والذي كرسته عديد المعاهدات الدولية التي من بينها ميثاق الأمم المتحدة عام 1945 واتفاقية الحقوق السياسية والمدنية عام 1966.
عندما كنت طالبًا، خلبت لبي كتابات إلياس كانيتي الذي نشر عام 1960 كتابه الحشود والسلطة بعد نحو 30 عاما من البحث. كان كانيتي منشغلًا تمامًا بمحاولة فهم السحر الذي يمكن للسلطة أن تمارسه على الجماهير الشعبية، وكيف تعمل تلك الجماهير، وهاجس التحكم لدى أصحاب السلطة. يطرح كانيتي أن الحركات الأقدم والأهم في التطور البشري كانت «الإمساك» (Grasping) و«الدمج» (Incorporation). لقد ظهرت الأشياء نفسها أصلًا كإشارات يدوية، أي أن الكلمات والأشياء كانت انبعاثات وتوابع من محاولة التمثيل بالأيدي. «الإمساك»، «السيطرة»، إغواءات لا يمكن مقاومتها لأولئك الذين يعتقدون أنهم يعرفون إرادة الجماهير. يربط كانيتي مفهوم السلطة ليس فقط بالقوة بل أيضًا بالنجاة: الحاكم هو الرجل الذي يرى أن التهديدات تكمن خلف كل زاوية، ويحاول أن يحتفظ بموقعه في المقابل بأي وسيلة بما في ذلك القوة، فتقوى سلطته عبر الوقت ويصير قادرًا على أن يحتفظ بتحكمه فيما حوله. ماذا لو طبقنا تلك الصورة على شخص مثل رئيس بلد هائل مثل روسيا؟ ألن تعني له أنه ينبغي ألا يكون قابلًا للهزيمة، أو أنه قد يرى نفسه محاطًا بمهمة كونية؟
إذا نظرنا إلى حفل افتتاح الألعاب الأوليمبية في بكين مؤخرًا، سيظهر كأنه كذلك. كان افتتاح الألعاب الشتوية مثيرًا بحق، وأثارت ذهول الجميع بمداها وجمالها. لقد كانت احتفاء بالاقتدار الصيني بالتأكيد، لكنها كانت أكثر من ذلك أيضًا. لقد كانت إعلانًا عن عصر جديد قوامه الشرق في مواجهة الغرب، مبشرًا بتقدم محموم لنظام عالمي جديد. كان بوتين «ضيف الشرف» وخلفه طابور من الديكتاتوريين الصغار والمتوسطين الذين التحقوا بالحدث وقدموا احترامهم للقائد الصيني. النظام البديل الذي اعتلى مسرح المشهد الحالي سوف يعتاش على انهيار الأنظمة الديمقراطية. سوف يكون عالم الاستقرار والنجاعة، القيم الذكورية، الأبطال المخلصين، وصفر حرية، حيث يبرر العنف تمامًا كوسيلة في سبيل تلك المهمة: في سوريا، هونج كونج، بيلاروسيا، وبين الإيغور وحتى مواطني الشعوب غير المنحازة.
أعلن خطاب مشترك لشي جينبينج وبوتين نشر في افتتاح دورة الألعاب: «كل أمة يمكنها أن تختار بين أشكال وطرق تطبيق الديمقراطية بما يلائم كل دولة بعينها على أحسن نحو وفقًا لنظامها السياسي والاجتماعي،خلفيتها التاريخية وتقاليدها وسماتها الثقافية الفريدة. إنه أمر يتعلق بشعب البلد فحسب، أن يقرر أن تكون دولته ديمقراطية أو لا»، وأضافوا: «الصين وروسيا تعتقدان أن الدعوة للديمقراطية وحقوق الإنسان يجب ألا تستخدم كوسيلة للضغط على البلدان الأخرى. إنهما يعارضان سوء استخدام القيم الديمقراطية والتدخل في الشئون الداخلية للدول ذات السيادة بدعوى حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما تعارضان أي محاولة لإشعال الانقسامات والمواجهات في العالم».
بإمكاننا أن نلاحظ بجانب بوتين في افتتاح الألعاب الأوليمبية رؤساء نحو عشرين دولة من بينها مصر والسعودية وقطر والإمارات والأرجنتين والإكوادور وكازاخستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان وباكستان وصربيا. علاوة على ذلك، هناك حقيقة أن المرء قد يجده غرائبيا أن دول الخليج أتت تحتفل برياضات الثلج والجليد، وبجانبهم عدد من قادة الدول أتوا للتفاوض على قروض وديون. لا يمكنني إلا أن ألاحظ أن بعض هؤلاء «الديمقراطيين الكبار» هم خير من يمثل العصر الجديد القادم.
- نشرت المجلة الألمانية دير شبيجل حديثا وثيقة دبلوماسية تعود للعام 1991 تشير إلى وعد من الناتو بألا يتوسع وراء نهر إلبا.
- إذا كان من حق أحد أن يطالب بالشعور بالأمان تجاه التهديدات العسكرية فإنه أوروبا الغربية لا روسيا. تملك روسيا رؤوسا نووية أكثر من العالم بأسره مجتمعا: 6255 من 13080 رأس ننوي حول العالم (الولايات المتحدة 5550، فرنسا 290، بريطانيا 225، الصين 350، البيانات تعود إلى يناير 2021).