تتوقف حركة السيارات فجأة على الطريق السريع بين القاهرة وإحدى محافظات شمال الصعيد. في تلك الأثناء، يتساءل راكب من ركاب إحدى السيارات عن سبب توقف الحركة، فيجيبه أحدهم أن الحركة على الطريق متوقفة مؤقتًا ريثما ينتهي أحد الأشخاص من القرية المتوقفين لديها من الأخذ بالثأر، في إجابة موحية وكأن ما يجري مشهد مألوف لن يستغرق طويلًا ثم تعود الحياة لعاديتها.

بين الموروث الشعبي والأعمال الفنية والأدبية المعاصرة، تعددت التناولات الإبداعية لظاهرة الثأر وجرائم الشرف في المجتمع المصري والعربي، ولعل من أشهرها في هذا الإطار رواية «دعاء الكروان» لطه حسين، ورواية «الطوق والأسورة» ليحيى الطاهر عبد الله، ورواية «خالتي صفية والدير» لبهاء طاهر.[1]

في الدراما الرمضانية لهذا العام جاء مسلسل «طايع» كأحد الأعمال الفنية التي تناولت ظاهرة الثار في صعيد مصر، ذلك المكان الذي لم تنجح الدراما والأدب في سبر أغواره بعد، رغم السيل الجارف من الأعمال التي قدمت في هذا الإطار.

الظاهرة وجذورها وتاريخها وعلاقتها بالمكون القبلي والفرق بينها وبين مفهوم القصاص في الإسلام؛ أسئلة تدور في ذهن ساكنة المدن والحضر لكثرة الحواجز الثقافية والاجتماعية بين الريف والبادية، وبين العواصم والمدن الكبرى في عالمنا العربي، لا تستطيع أن تجيب عنها الأعمال الفنية وحدها، وتحتاج حتى يومنا هذا إلى المزيد من الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية لتسليط الضوء عليها، وفهمها بشكل أفضل.


الثأر في التاريخ والحاضر العربي

يفيض الموروث الشعري العربي بالعديد من سرديات الثأر وقصصه التاريخية الشهيرة، إحدى أهم القصص في هذا السياق هي قصة «حرب البسوس» أشهر الحروب الثارية في العصر الجاهلي، والتي دارت رحاها في شبه الجزيرة العربية في منطقة الحجاز بين قبيلتي بكر وتغلب لمدة أربعين عامًا، عقب مقتل كليب بن ربيعة التغلبي على يد جساس بن مرة الشيباني.[2]

وقد بدأت تلك الحرب الدموية عندما نزلت «البسوس بنت منقذ التميمية» في ضيافة ابن أختها جساس ومعها ناقة عرفت باسم ناقة البسوس تركتها ترعى مع إبل جساس، وحدث أن رعت هذه الناقة في أرض كليب المجاورة لجساس، فلما عرف كليب بذلك أمر بقتلها حتى اختلط لبنها بدمها، وهو ما آثار حزن وحسرة البسوس التي صاحت تستنجد بابن أختها، الذي أعماه الغضب فقتل جاره، لتنطلق سلسلة من حوادث وأعمال القتل والمواجهات الثأرية بين القبيلتين دامت أربعة عقود.

حرب الفجار، داحس والغبراء، يوم بعاث، كلها أيضًا حروب لا تخلو بشكل أو بآخر من الطابع الثأري، الذي غلّف الصراعات القبلية العربية قبل الإسلام، وتسرب في العرف والثقافة القبلية بعد الإسلام لدي القبائل العربية التي نزح بعضها من شبه الجزيرة العربية إلى شمال أفريقيا.[3]

بعد الفتح الإسلامي لمصر، ارتحلت الكثير من القبائل العربية القادمة من اليمن ومن شمال أفريقيا – كقبائل الهوارة – لتعيش في صعيد مصر، ونقلت معها أعرافها وعادتها، وعلى رأسها عادة الأخذ بالثار، التي تحكمها قواعد وتقاليد خاصة، لا يشترط فيها أن يتم أخذ الثار من القاتل نفسه، حيث إذا تعذر ذلك لسبب من الأسباب، يتم أخذ الثأر من أخيه أو ابنه أو ابن عمه على سبيل المثال.

يسود نظام الثأر في المجتمعات الانقسامية أي تلك المجتمعات التى يقوم تنظيمها الاجتماعى على رابطة الدم، ورابطة المكان، وعدم وضوح التفاضل الاجتماعى والاقتصادى بين الجماعات المكونة لذلك المجتمع، وينقسم المجتمع الانقسامى بحسب عالم الاجتماع الألماني «فرديناند تونيز – F.tonnies» في العادة إلى عدد من الوحدات القرابية المتماسكة، حيث يقوم النسق القرابى على نظام العائلة أو البدنات أو البيوت الكبيرة؛ أي جميع الأفراد الذين يردون نسبهم إلى جد واحد في خط الذكور.[4]

وتنقسم البدنة الكبيرة إلى عدة بدنات صغيرة، وكل بدنة صغيرة إلى عدة عائلات، وكل عائلة إلى عدة أسر ويقوي هذا التكتل القرابي الضبط الداخلي في كل جماعة قرابية، مما يكفل عدم خروج أي فرد على تقاليد الأخذ بالثأر السائدة في البدنة التي ينتمي إليها. وإذا أخل الفرد بالتزاماته نحو الجماعة القرابية التي ينتمي إليها، فسوف يتعرض للعقاب الذي يصل إلى حد الإبعاد من العائلة كلية.

والعربي هنا في قضايا مثل الثأر والشرف – بحسب عالم الاجتماع الأمريكي من أصل نمساوي «بيتر بيرجر»- شديد التقدير لذاته إلى حد المبالغة، إلا أنه مع ذلك شديد الانصياع لقبيلته ولمعاييرها الجماعية، حيث إن القوى التي تشكل قانون ونظام الثأر في المجتمعات البدائية هي خضوع أفراد المجتمع للتقاليد والعادات بطريقة لا إرادية تشبه حالة من العبودية، يحركها الخوف من نبذ الجماعة العائلية له.[5]


الفقر والعزلة والندرة

يشير «أحمد أبو زيد» في دراسته «الثأر: دراسة أنثروبولوجية بإحدى قرى الصعيد»، التي تعد أول دراسة عربية عن ظاهرة الثأر، إلى أن صغر حجم الحيازات الزراعية في صعيد مصر وارتباطه بانخفاض المستوى الاقتصادي العام، يعني بالنهاية عدم وجود تفاوت اجتماعي شديد بين السكان.[6]

لا يتيح هذا التقارب في المستوى الاجتماعي بحسب أبو زيد فرصة لقيام علاقات السيطرة والخضوع بين تلك الجماعات القرابية بعضها البعض، ولهذا يسود الشعور العام لدى كل عائلة وعشيرة بأنهم متساوون في مكانتهم الاجتماعية بقدر ما لديهم من رجال. ويعني هذا أن وقوع أي حالات قتل يترتب عليها بالتالي شعور بالانتقاص والخلل في التوازن بين تلك الجماعات القرابية وبعضها البعض ويهدد مكانتها ورجولة أبنائه.

وبما أن التكتل السكاني للجماعات القرابية لا يقابله تكتل في الملكيات الزراعية في مكان واحد، يؤدي تبعثر الحيازات الصغيرة في أكثر من مكان إلى جعل المنطقة الزراعية الواحدة منقسمة إلى حقول صغيرة يملكها أفراد من عائلات مختلفة، ويترتب على ذلك نشوب نزاعات مستمرة على الري والتعدي على حدود الملكية ومساحات الجسور المحدودة عند جني المحاصيل، ينجم عنها حالات قتل وخصومات ثأرية مزمنة.

أخيرًا، تظل أيضًا العزلة الثقافية التي تشهدها الهوامش والأقاليم النائية عن المراكز الحضرية الرئيسية في عالمنا العربي كصعيد مصر، عامل هام في تفاقم ظاهرة الثأر، والتي تحولت إلى نظام اجتماعي يتحرك في المساحات المتنامية التي تتركها الدولة المركزية، وهي تعاني يوماً بعد يوم من ضعف قبضتها على الأطراف الرخوة البعيدة عن سلطتها.

المراجع
  1. عيد عبد الحليم، الثأر: ظاهرة ثقافية أم لقطات عابرة؟، مجلة أدب ونقد، القاهرة، عدد 206، أكتوبر ، 2002
  2. سعيد المصري، الثأر في المجتمع العربي، مجلة العربي، الكويت، العدد 659، أكتوبر، 2013
  3. المصدر السابق.
  4. السيد عوض، جرائم الثأر فى صعيد مصر: دراسة سوسيوأنثروبولوجية :بحث مقدم إلى المؤتمر السنوى السادس بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، أبريل، 2004
  5. المصدر السابق.
  6. أحمد أبو زيد، الثأر: دراسة أنثروبولوجية بإحدى قرى الصعيد، منشورات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، القاهرة: دار المعارف، 1965.