اكتئاب ما بعد الولادة: عندما تتحوَّل فرحة العُمر إلى كابوس
صرَّحت بتلك الفقرة إحدى الأمهات الجُدد اللائي التقينا بهن وعبَّرن عما مررن به من متاعب في فترة ما بعد الولادة، فيما يعرف حاليًّا بمصطلح «اكتئاب ما بعد الولادة».
رحلة الحمل والولادة لا أحد ينكر كونها نعمة من الله، كغيرها من الأشياء الجميلة في الحياة يصاحبها صعوبات ومجهود، ولكنها تتوج بأجمل هدية في النهاية، تجعل كل سيدة تعيش حلمًا جميلًا لكن سرعان يصطدم الحلم بأرض الواقع مع أول ألم تشعر به الأم بعد زوال البنج وسماع صوت الطفل في آن واحد.
فبين المباركات والفرحة بالمولود ممن حول الأم تشعر بآلام جسدية نتيجة الولادة وضغوط نفسية بسبب الظروف الجديدة كليًّا التي تمر بها الأم وتجعلها تشعر بالتخبط لبعض الوقت.
وبحسب تقارير منظمة الصحة العالمية تعاني نحو 10% من النساء حول العالم من الاكتئاب أثناء فترة الحمل، وترتفع النسبة إلى 13 % بعد الولادة، وفي الدول النامية ترتفع النسب إلى 16 % خلال فترة الحمل وتصل إلى 20 % بعد الولادة.
صراخ منتصف الليل
بهذه الكلمات بدأت سارة مجاهد حديثها لـ «إضاءات» عن تجربة ولادتها الأولى، قالت سارة (30 عامًا)، أم لطفل لم يتجاوز العامين، إنها حملت بدافع الخوف وليس الاستعدادية، خوف من المجتمع وأنه إذا أجَّلت قرار الحمل أكثر من 3 سنوات ربما لن تتمكن من الحمل أبدًا فيما بعد، كما كان يخبرها مَن حولها، بالإضافة إلى رغبتهم في أن يفرحوا بأولادهما، والنتيجة «حمل في وقت خطأ لم أكن مستعدة له»، على حد تعبيرها.
لفتت سارة النظر إلى أنها حملت في طفلها في وقت كانت للتو مقلعة عن عقاقير خاصة ببعض الأمراض العصبية والنفسية، ما كان يزيد قلقها بحسب ما أخبرتها طبيبتها المعالجة بخطورة هذا الأمر، وهو ما جعلها تصف تجربة حملها بأنها «خوف من كل حاجة».
قالت سارة: «حملي كان صعب وجالي فيه نزيف شديد، واتمنعت من الشغل اللي كنت وصلت فيه لحلم حياتي بعد عناء، كنت وحيدة وخايفة وبصحى يوميًّا بليل أعيط وأصرخ وابني وقتها كان 3 شهور».
أما عن أكثر ما كانت تحتاج إليه في هذه الفترة قالت سارة إنها كانت في حاجة إلى أناس متفائلين حولها لا أشخاص يُشعرونها بالذنب دائمًا، وأيضًا أفراد يتقلبون تقلباتها المزاجية بسبب اضطرارها للإقلاع عن المهدئات التي اعتادت تناولها خوفًا من أن تؤثر على الرضاعة.
ختمت سارة حديثها معنا قائلة: «لحد ما ظهرت فكرة الحضانة وإني أقدر أرتاح وأنام .. بجد هنام؟! ونمت خمس ساعات متواصل لأول مرة من سنة و7 شهور .. وأخيرًا لو رجع بيَّ الزمن هخلف تاني وفي نفس الوقت بس هحتاج وقتها دورات تأهيل نفسي».
الوداع للراحة
نور حمدي، أم في أوائل الثلاثينيات أم لطفلين، قالت عن تجربتها الأولى: «كنت خايفة من البيبي وخايفة من المستقبل، وإن حياتي خلصت ومش هترجع زي الأول ولا هشوف طعم الراحة تاني».
واعتبرت نور أن تجربة الأمومة الثانية كانت مختلفة كثيرًا رغم أنها أيضًا عانت من نوبات الخنقة والبكاء من وقت لآخر بسبب الاضطرابات الهرمونية، لكن في النهاية كانت فرحتها بالطفل بالقوة الكافية لتجعلها قادرة على قهر الألم الجسدي والنفسي.
بينما تطرقت هدير هشام إلى تجربة مختلفة بسبب تأخر حملها عدة سنوات وإتمامه بصعوبة، فكانت تتوقع ألا تمر بأي مشاعر سلبية، لكنها فوجئت بعكس ذلك، تقول: «على الرغم من إني من المفترض أكون طايرة من الفرحة، إلا أنه ما حدث العكس، كنت حزينة والألم طاغي على فرحتي وكان هذا الشعور يضايقني كثيرًا، كيف لا أفرح بشيء انتظرته سنوات عديدة مررت فيها بآلام كثيرة من أجل تحقيق هذا الحلم؟!».
وتابعت: «كان عندى أعراض انسحاب كورتيزون بسبب إيقافه بشكل مفاجئ، وجرحي فتح ومكنتش عارفة أرضع، وكنت موجوعة، ومش بيجي في بالى غير كلمة هو إيه اللي عملته في نفسي ده، هي دي الأمومة اللى كنت هموت عليها؟».
لا وقت للاكتئاب
إذا لم تجد الأم بعد الولادة الدعم المتوقع أو المساعدة الكافية فإن هذا يزيد من متاعب حملها ويجعلها لا تستطيع تجاوز تلك الفترة الصعبة إلا بخسائر مضاعفة.
قالت إيمان عبد الرحمن، 40 عامًا، أم لثلاثة من الأولاد، أكبرهم تعدى الـ 14 عامًا، إنها لم تكن تعرف شيئًا عن مصطلح «اكتئاب ما بعد الولادة»، لكنها مرَّت بجميع أعراضه من حالات البكاء المستمر بدون أسباب إلى عدم القُدرة على التعامل مع الطفل وتدهور حالتها النفسية.
اقرأ أيضًا: إليكِ أهم 6 قرارات تتخذينها في الحمل
كشفت إيمان أن أكثر ما زاد حالتها النفسية سوءًا هو عدم تفهم زوجها للأمر واتهامها طوال الوقت بأنها لا تشعر بالنعمة التي رزقها الله بها مرددًا لها عبارات من قبيل «انتي غيرك مش لاقي .. احمدي ربنا».
وأشارت إيمان إلى ما كانت تحتاج إليه هذه الفترة: «كنت محتاجة بس حد يفهم جوزي حالتي وإن كلامه ده بيزيد شعوري بالضيق، بس الرجالة عمومًا مش بيقتنعوا بالتعب النفسي فبقترح إن يا ريت ده يحصل من دكاترة النساء خلال فترة متابعة الحمل».
أما شيماء محمد، أم لطفلين أكبرهما 3 سنوات وطفلة لم تكمل عامها الأول بعد، فقد مرت بتجربة مختلفة وهي أن الاهتمام بها ظهر في حالة الولادة الأولى فقط، أما عندما وضعت طفلتها الثانية فلم يدعمها أحد بدعوى أنها «بقت خبرة خلاص»، على حد وصفها.
تقول شيماء: «في المرة التانية بقى كان كله يدوب بيسأل من بعيد، ويقولي خلاص انتي خلاص مش محتاجة حاجة، مين قالهم إني مش محتاجة؟».
وأضافت أنها بعد الولادة الثانية بات يتعامل معها الجميع على أنها لا يحق لها الشكوى، موضحة: «بعد المرة الثانية كنت كل ما اشتكي لوالدتي تقولي ده انتي معاكي عيلين بس، أمال أنا اللي خلفت 6 عملت إيه».
وختمت: «في الوقت ده مابتبقيش محتاجة تسمعي الكلام ده بتبقي محتاجة حد بس يسمعك ويقولك معلش فترة وهتعدي وما يقللش من مشاعرك».
أما إسراء خفاجي، 29 سنة، أم جديدة لطفل 5 شهور، فحكت عن تجربة اكتئاب أشد عانت منها إلى درجة رفض الوضع ورفض الطفل، موضحة: «مفكرتش أأذيه بس كنت كرهاه أو كارهة فكرة إنه يبقى ابني، تمنيت إما أنا أختفي أو هو يختفي».
لجأت إسراء إلى طبيب نفسي وخضعت لعلاج مكثف، خطوة لم يعترض عليها زوجها لكنه أخفاها عن أهله لأنهم لن يستوعبوها.
قالت دكتورة نهال زين، أخصائية الطب النفسي لـ «إضاءات»، إن كثيرًا من النساء تعرضن لاضطرابات نفسية عديدة فيما بعد الولادة أبرزها وأشهرها اكتئاب ما بعد الولادة، لكنه ليس الاضطراب الوحيد بل هناك أنواع أخرى من الاضطرابات يمكن أن تعاني منها السيدات خلال هذه الفترة.
وأوضحت أن أهمية التوعية الدائمة بتلك الاضطرابات تكمن في كونها ليست نادرة، بل تشير الإحصائيات إلى تعرض نحو 15% من السيدات إلى اكتئاب ما بعد الولادة، وواحدة من كل 1000 سيدة من الممكن أن تتعرض للأعراض الذهانية مثل الضلالات والهلاوس.
وشرحت الأخصائية النفسية أسباب وقوع تلك الاضطرابات قائلة: «نتيجة الحدث نفسه وما يطويه من تجارب تمر بها السيدة لأول مرة، بالإضافة للتغيرات الفسيولوجية المفاجئة في الهرمونات».
ونصحت دكتورة نهال المحيطين بكل سيدة تمر بهذه المرحلة بالدعم الكامل وتفهُّم كافة التغيرات والتقلبات المزاجية التي تمر بها ومحاولة احتوائها، بل توجيهها لتلقي العلاج على الفور إذا لوحظ أي من هذه الاضطرابات لأكثر من أسبوعين، وتشجيعها على طلب المساعدة من أقرب طبيب نفسي، لأن إهمال الأمر قد يؤدي لإيذاء الطفل سواء بشكل مباشر أو غير مباشر نتيجة لإهماله وعدم تلقيه الرعاية الكافية من الأم نظرًا لحالتها النفسية التي لا تسمح لها بذلك.
وفي حديثها لـ «إضاءات» أشارت دكتورة نهال إلى أن الأطفال الذين تعرضت أمهاتهم لأي من هذه الاضطرابات بعد الولادة ولم يتلقين العلاج المناسب يكونون عُرضة لتعطل الوظائف المعرفية الخاصة بهم مع انخفاض في معدلات الذكاء عن أقرانهم، بالإضافة إلى نوبات الغضب الشديدة والعنف التي يعانون منها في مراحل طفولتهم الأولى، مع مشكلات في الانتباه والتركيز مع بلوغ سن المدرسة.
اقرأ أيضًا: دليل الحامل: كيف يتحول حملك الشاق لتجربة سعيدة؟