ما بعد داعش: أي موقع للأكراد في سوريا الجديدة؟
بعد قتالٍ استمر قرابة أربعة أشهر، بين تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي، انتهى الأمر باستسلام آخر من تبقى من عناصر داعش في مدينة الرقة شمال سوريا. وعلى إثر ذلك أعلن تنظيم «بي كا كا PKK» الكردي التركي، وذراعه السوري «بي واي دي PYD» -المليشيات المسلحة التابعة لحزب العمال الكردستاني- سيطرتهم بالكامل على المدينة، ففي يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2017،احتفل التنظيم الذي تدرجه تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمنظمة إرهابية، بانتصاره على داعش ورفعوا في ميادين الرقة صورة كبيرة لعبد الله أوجلان زعيم «بي كا كا».
يستدعي ذلك التساؤل عن مصير الرقة بعد داعش، من سيحكمها؟، وهل سينجح أكراد سوريا في الانفراد بشمال سوريا كما فعل أكراد العراق من قبل؟.
فبانسحاب داعش من مدينة الرقة، أصبحنا بصدد الحديث عن مرحلة ما بعد داعش، ومستقبل الدولة السورية التي تواجه رغبة شرسة من قبل الأكراد فيها للانفصال، مستغلين في ذلك تمكنهم من السيطرة على الرقة شمال سوريا، والدعم الأمريكي لهم.
نحو بلد كونفيدرالي
رغم ذلك التصريح الذي يبدو دبلوماسيًا إلى حد كبير، وتحاول فيه الولايات المتحدة تطمين تركيا التي وعدتها الولايات المتحدة بأن الولايات المتحدة سيكون لها تصرف آخر بمجرد انسحاب داعش من الرقة، وأنها لن تسمح لأكراد سوريا بالسيطرة على المدينة، إلا أن الواقع يشير إلى أن سيناريو تقسيم سوريا مطروح أمام صانع القرار الأمريكي.
ففي دراسة أعدها مايكل أو هانلون، مدير برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكينجز، طرح أو هانلون إ ستراتيجية لتفكيك سوريا إلى مناطق حكم ذاتي تكون نواة لبلد كونفيدرالي، وأشار إلى أن إستراتيجية التفكيك بجعل سوريا دولة كونفيدرالية تتكون من مناطق حكم ذاتي بدلاً من حكومة مركزية قوية هو سيناريو أفضل من الإطاحة كليًا بالنظام السوري والقضاء على نفوذ العلويين في تشكيل أي حكومة مستقبلية، كما أنها البديل عن حرب أهلية قد تستمر لأجل غير مسمى.
يبدو أن هذا السيناريو لم يكن حبيس الأوراق والأبحاث، بل تمكن من تفكير تنظيم «بي كا كا/بي واي دي»، ففي اجتماع عقده اللواء علي مملوك، رئيس مكتب الأمن القومي للنظام السوري، مع مسؤولين بالتنظيم، في المنطقة الواقعة تحت سيطرة النظام بمدينة القامشلي شمال شرق سوريا، اقترح فيه النظام السوري منح التنظيم «الإرهابي» حكمًا ذاتيًا في الرقة شمالي البلاد، وذلك في مقابل انسحاب التنظيم من المناطق ذات الغالبية العربية، إلا أن التنظيم رفض العرض وطالب بـ «منطقة فيدرالية يضمنها الدستور».
ولم تكن تلك المرة الأولى التي يناقش فيها النظام السوري هذه الفكرة، فقد أجرى من قبل مفاوضات مماثلة مع التنظيم تحت رعاية روسية وناقش حينها استعداده لمناقشة قضية الحكم الذاتي.
فعلاقة حزب العمال الكردستاني بالنظام السوري تقوم بالأساس على المصلحة، فوفق تصريح لزعيم حزب العمال الكردستاني في 6 أبريل/نيسان 2011؛ أي بعد أقل من شهر على الثورة السورية، أكد أنه لا مانع لدى المنظمات الكردية من أن تجتمع ببشار الأسد، وأنهم على أتم الاستعداد لدعم الأسد إذا شرع بأي إصلاحات ديموقراطية شريطة أن يكون جزءًا من هذه الإصلاحات الاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية للأكراد، و حقهم في الحكم الذاتي وإدارة شئونهم بأنفسهم والاعتراف بهويتهم.
الجدير بالذكر أن تنظيم «بي واي دي» يتعامل هذه الفترة بشكل يوحي للمراقب للوضع في سوريا أن فكرة الانفصال أمر منتهٍ، ففي أعقاب انسحاب داعش من المدينة شرع مسلحو التنظيم بحفر الخنادق وإقامة السواتر الترابية في المناطق التي تفصلهم عن قوات النظام السوري؛ الأمر الذي اعتبره مراقبون بمثابة «رسم للحدود».
الدعم الأمريكي للتنظيم
على الرغم من أن الولايات المتحدة ما زالت تدرج تنظيم «بي كا كا/ بي واي دي» في قوائم المنظمات الإرهابية، إلا أن ذلك التنظيم يحظى بدعم أمريكي منذ عام 2014، وبفضل هذا الدعم وغيره من بعض الدول الأخرى بات تنظيم «بي واي دي» يمتلك مخزونًا من الأسلحة يعادل جيشًا صغيرًا، فأغلب الأسلحة والذخائر التي يملكها حصل عليها في إطار المساعدات العسكرية الأمريكية لمحاربة تنظيم داعش، إذ قدمت الولايات المتحدة لـ «بي واي دي»، في أكتوبر/تشرين أول 2015، نحو 50 طنًا من الأسلحة وفق تصريح لوزراة الخارجية الأمريكية.
فأمريكا في حربها على داعش في سوريا أخذت على عاتقها مهمة دعم وحدات حماية الشعب الكردية، وعلى الجانب الآخر أخذت ترسل التطمينات بين الفينة والأخرى لتركيا بأنها لن تسمح لتلك الوحدات بالسيطرة على الرقة وأن القوات العربية فقط هي من سيدخل المدينة مع تعهدها بالتخلي عن إدارة «الرقة» وتسليمها لأهلها بمجرد هزيمة داعش، وأن هذا ما هو إلا تكتيك مؤقت.
ولكن تلك الوعود يبدو أنها واهية ولا نية في تطبيقها، ففي 17 أغسطس/آب أعلنت قوات سوريا الديمقراطية أن القوات الأمريكية ستظل في شمال سوريا لفترة طويلة بعد الانتصار على تنظيم داعش، وبحسب تصريح للمتحدث الرسمي باسم قوات سوريا الديوقراطية طلال سلو، أشار إلى أن الولايات المتحدة لديها إستراتيجية لعشرات السنوات في سوريا، وستكون هناك اتفاقيات عسكرية واقتصادية وسياسية بين الإدارة الأمريكية وبين قيادات في شمال سوريا، وأن الأمريكيين لديهم مصالح إستراتيجية في الرقة بعد نهاية داعش قد تمتد لاتخاذ تلك المدينة قاعدة عسكرية لها.
تركيا لن تسمح بالانفصال
ما زال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أسيرًا لفكرة أن العدو الأول والحقيقي لتركيا هو حزب العمال الكردستاني التركي وحلفاؤه من فصائل المعارضة الكردية في سوريا والعراق وإيران، وأن إضعاف داعش يعني تعزيزًا للمليشيات الكردية «بي واي دي» التي تقاتل في شمال سوريا، الأمر الذي يبرر لماذا كان أردوغان حريصًا على عدم المشاركة في الحرب ضد داعش. ففي أواخر عام 2016؛ أي قبل أكثر من نصف عام على بدء العملية في الرقة، سعت تركيا للمشاركة في العملية جنبًا إلى جنب الجيش السوري الحر، وهو تحالف يشتمل على جماعات معارضة من جميع أنحاء العالم، من أجل منع وحدات حماية الشعب الكردية من ضم المزيد من الأراضي.
ولكن مجريات الأمور لم تسر على النحو الذي أرادته تركيا، فحزب العمال الكردستاني بات مسيطرًا على المدينة بعد هزيمة داعش، وهو ما جعل نائب رئيس الوزراء التركي، «فكري إيشيق»، الأحد 22 أكتوبر/تشرين الأول يحذر من احتمالية اندلاع حرب عرقية في محافظة الرقة السورية، في حال تم تسليم المدينة لتنظيم «بي كا كا- ب ي د»،كما توجه إيشيق إلى دعوة حلفاء تركيا لـ «عدم تسليم الرقة السورية لتنظيم (بي كا كا) الإرهابي»، مؤكدًا «ضرورة تسليم المدينة إلى سكانها الأصليين وهم العرب؛ لأن الرقة مدينة عربية».
فتركيا الآن تسيطر عليها حالة من القلق والتوتر وخاصة مع التصريحات الاستفزازية للتنظيم بعد خروج داعش من المدينة، إذ عبر صالح مسلم، الرئيس المشارك لوحدات حماية الشعب،أنه يتوقع أن تنضم الرقة إلى نظام الحكم اللامركزي الذي يتم إنشاؤه في شمال سوريا، قائلاً في تصريح لرويترز: «نتوقع (هذا) لأن مشروعنا هو لجميع سوريا … والرقة يمكن أن تكون جزءًا منه».
إذا حدث ذلك،قد تلجأ تركيا أولاً إلى استنفاد أدواتها الدبلوماسية في الضغط على الولايات المتحدة من أجل التصدي لانفراد أكراد سوريا بالمدينة، وإن فشلت في ذلك فقد تخوض تركيا في سوريا حربًا تحاول فيها القضاء على حزب العمال الكردستاني، ولكن هذه الحرب – على حد وصف الصحافة الروسية – ستضع تركيا على خط «الفوضى الشاملة»، وقد تنتقل تلك الفوضى إلى الداخل التركي وتضع أردوغان في مأزق أمام الرأي العام والمعارضة التركية.