مغرب ما بعد «20 فبراير»: قصة ربيع لا يهدأ
جاء اليوم الموعود والترقب قد بلغ ذروته، لا أحد يعلم ما ينتظره المغرب خلال الساعات القادمة، الشرطة من جانبها قامت بإنزال أمني كثيف في العاصمة وباقي المدن وحاصرت الميادين الرئيسية منذ بداية الصباح، ما هي إلا ساعات قليلة حتى كان فيضان من البشر يجتاح المدن المغربية، كانت حشود المحتجين قد سيطرت على الشوارع تمامًا في العاصمة الرباط والدار البيضاء وطنجة ومراكش ووجدة ومدن أخرى، فاقت أعدادهم التوقعات وأدركت قوات الأمن ورطتها وقابلية الأمور للتفاقم، فاكتفت بالمشاهدة في أغلب المواقع بينما كانت جموع المتظاهرين تجوب البلاد من شرقها إلى غربها في حرية كاملة. مع قدوم الليل بدأ المتظاهرون بالانصراف ومعهم عهد كامل عاشته المغرب، بعد هذا اليوم لن يعود المغرب أبدًا لما كان عليه، لقد تغير وجه البلاد إلى الأبد.
كان ذلك في الـ 20 من فبراير/شباط لعام 2011 استجابةً لدعوة أطلقها نشطاء مغاربة للتظاهر، متأثرين بحالة المد الثوري التي اجتاحت العالم العربي آنذاك، وكان للمطالبة بدستور جديد وإصلاحات سياسية واجتماعية ومحاكمة الفاسدين. تجددت الاحتجاجات في الأيام التالية في عموم المدن المغربية، وأطلق الناشطون دعوة للاحتشاد من جديد في كل المدن المغربية في يوم 20 مارس/آذار 2011.
الملك يتراجع
قرر حينها الملك المغربي محمد السادس استباق دعوة النشطاء، وبعد 17 يومًا من الاحتجاجات المتقطعة وبالتحديد في يوم 9 مارس/آذار خاطب الشعب متعهدًا بـ «إصلاحات كبرى» ودستورٍ جديد للبلاد يتضمن توسيع سلطات رئيس الوزراء على حساب سلطات الملك، وتشكيل الحكومة من الحزب الفائز بالأغلبية في مجلس النواب، وانتخابًا مباشرًا للمجالس الجهوية (المحلية) وتكريس اللامركزية، والاعتراف بالأمازيغية لغة رسمية في المغرب، والعديد من الإصلاحات السياسية والاجتماعية الأخرى.
كان هذا كافيًا لتلبية مطالب قطاع واسع من المحتجين وإقناعهم بالعودة إلى منازلهم في انتظار ما سيسفر عنه المسار السياسي الجديد، لكن هذا الحراك وإنجازاته كان بمثابة إشارة تلقتها الجماهير بقدرتها على انتزاع حقوقها، ولم تفرِّط فيها، ليصبح تاريخ المغرب لاحقًا عبارة عن سلسلة من الانتفاضات متفاوتة القوة.
الفئوية تنطلق
في الأعوام التالية لعام 2011 تراجعت الاحتجاجات السياسية واشتدت الاحتجاجات الفئوية، والتي شملت معظم القطاعات الإنتاجية والخدمية تقريبًا كالصحة والتعليم والنقل والعدل والتعدين والعاطلين عن العمل وسكان المناطق العشوائية وغيرها، حتى باتت الاحتجاجات الفئوية أشبه بالروتين اليومي في المغرب.
وفي أواخر عام 2015 صرَّح إدريس اليزمي، رئيس «المجلس الوطني لحقوق الإنسان»، أن عدد الاحتجاجات والمظاهرات بين عامي 2014 و2015 بلغ 16 ألف احتجاج بمعدل 31 مظاهرة يوميًّا.
وبالتزامن مع الاحتجاجات الفئوية المستمرة بدأت في أواخر عام 2015 موجة من الاحتجاجات المناطقية في الانطلاق.
ثورة الشموع: طنجة 2015
في مدينة طنجة كان الارتفاع «غير المبرر» لفواتير الكهرباء لشهري يوليو/تموز وأغسطس/آب من العام 2015 سببًا في خروج احتجاجات حاشدة في المدينة ضد شركة «أمانديس»، المسئولة عن تدبير قطاعات الماء والكهرباء والنظافة، وطالب المحتجون برحيلها.
البداية كانت في السبت 17 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015، حيث خرج أهالي بعض الأحياء للتظاهر احتجاجًا على غلاء الفواتير، وتكررت المظاهرات في السبت التالي، وتمكن آلاف المتظاهرين من اقتحام ساحة الأمم بوسط المدينة بعد مناوشات مع قوات الأمن، بالتزامن مع إطفاء الأنوار في البيوت والمتاجر والمقاهي لمدة ساعتين، وإشعال المتظاهرين الشموع، وهو ما كان سمة مميزة لهذه الانتفاضة.
سعت الحكومة لاحتواء الموقف وشكَّلت لجنة من وزارة الداخلية ومسئولين من الولاية اتفقت مع «أمانديس» على مراجعة أعداد ضخمة من الفواتير التي تسببت في إشعال الأزمة، وتفعيل آليات أكثر دقة لحساب الاستهلاك ورقابة خارجية على التزام شركة «أمانديس» بها، والعديد من التسهيلات الأخرى؛ مع ذلك استمر الحراك الجماهيري، وتجددت المظاهرات للسبت الثالث على التوالي لتشهد ساحة الأمم يومها تجمعًا مهيبًا لآلاف المحتجين، والذي وصفته رويترز في حينه بأكبر احتجاج من نوعه في البلاد منذ المظاهرات المؤيدة للديمقراطية في عام 2011.
في هذا التوقيت بدأت الدعوة لاحتجاجات مشابهة في مدن أخرى تكتسب زخمًا؛ وعندها تدخل الملك المغربي محمد السادس لتطويق الاحتجاجات ومنع تمددها، وأمر رئيس الحكومة ووزير الداخلية بالذهاب إلى طنجة للاستماع إلى شكاوى المواطنين ومعالجة الموقف وإيجاد «الحلول الفعلية لتجاوزه»، ورغم أن تدخل الملك لم يحقق مكاسب إضافية للحراك؛ لكنه تمكَّن من تهدئة غضب المتظاهرين، ربما لما مثله ذلك من رمزية على قدرة المحتجين على إخضاع أعلى سلطة في البلاد لصوتها.
الريف ينتفض: الحسيمة 2016-2017
الريف المغربي هو الآخر خاض واحدة من أهم نضالات الشعب المغربي في الأعوام الأخيرة، بدأت شرارة الأحداث في 28 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2016 عندما قُتل بائع السمك المغربي «محسن فكري» طحنًا بين فكي آلة الطحن في سيارة نفايات أثناء محاولته منع السطات المحلية بمدينة الحسيمة من إتلاف شحنة أسماك خاصة به بعد مصادرتها منه بدعوى مخالفتها، كانت هذه الحادثة المروعة سببًا في اندلاع انتفاضة عارمة في مدينة الحسيمة والريف المغربي حملت مظالم السكان من الإقصاء والتهميش والفقر والبطالة وغياب التنمية وتردي الخدمات.
اندلعت الاحتجاجات في اليوم التالي مباشرةً لمقتل فكري، وفي الأحد الموافق 30 أكتوبر/تشرين الأول أضرب عمَّال ميناء الحسيمة عن العمل حدادًا على مقتله، وشهدت العديد من المدن المغربية مظاهرات منددة بالحادثة، وشيّع الآلاف جنازته في حشدٍ مهيب تخلله هتافات غاضبة، ومساءً انطلقت في مدينة الحسيمة مسيرة احتجاجية ضخمة شارك فيها الآلاف.
استمرت الإضرابات والمظاهرات في الحسيمة والعديد من مدن الشمال الأخرى ومعها المظاهرات التضامنية في العاصمة الرباط والدار البيضاء وغيرها من المدن، للتنديد بالحادثة والمطالبة بالعدالة، وبمرور الوقت أخذت الاحتجاجات العفوية على الحادثة في التحول لحركة جذرية تنادي بإصلاح اقتصادي واجتماعي شامل لأوضاع سكَّان الريف.
بعد أكثر من شهرين على اندلاع الاحتجاجات شهد شهر يناير/كانون الثاني بداية الاشتباكات بين محتجين الحسيمة وقوات الأمن المغربية عندما فضَّ الأمن اعتصامًا للمتظاهرين في الساحة الكبرى بوسط المدينة، وبعدها قررت السلطات التصعيد ضد المظاهرات المستمرة بالمدينة ومنعها بالقوة.
مع ذلك فقد كان التدخل الأمني دقيقًا؛ مرتكزًا بشكل أساسي على الإمساك بالشوارع والميادين واستخدام قدر محدود من العنف؛ أكبر من أن يترك الشوارع لسيطرة المحتجين، وأقل من أن يحفز اندلاع احتجاجات في باقي الولايات.
هدأت الاحتجاجات لبعض الوقت بفعل الإجراءات الأمنية؛ لكن سرعان ما عادت من جديد بدءًا من أواخر فبراير/شباط، وفي الأحد 26 مارس/آذار هاجم متظاهرون سكنًا لضباط الأمن بالحجارة وأضرموا النار في سيارات الشرطة بمحيطه، بعد يومين أُقيل والي إقليم الحسيمة.
ومع تواصل الاحتجاجات حاولت الحكومة احتواء الموقف بزيارات متكررة للمسئولين والوفود الوزارية، مؤكدين استمرار تعهدات الحكومة برصد ميزانيات ضخمة للتنمية في الحسيمة.
في 29 مايو/أيار تم توقيف أبرز القادة الميدانيين للاحتجاجات، «ناصر الزفزافي»، وتبع ذلك موجة من الاعتقالات لنشطاء الحراك، وهو ما أطلق موجة جديدة من الاحتجاجات في الريف. وفي 20 يوليو/تموز اندلعت اشتباكات عنيفة بين المحتجين وقوات الأمن بعدما قررت السلطات عدم السماح بمسيرة «مليونية» دعا إليها النشطاء.
الملك يتدخل
تواصلت الاحتجاجات بوتيرة أقل، وفي 13 أكتوبر/تشرين الأول ألقى الملك خطابًا دعا خلاله إلى إعادة النظر في النموذج التنموي، حتى إن اقتضى الأمر طرقًا غير معتادة أو «زلزالًا سياسيًّا». بعدها بأقل من أسبوعين وفيما عُرف لاحقًا بـ «الغضبة الملكية»، أقال الملك المغربي أربعة وزراء من بينهم «محمد حصاد» وزير التعليم الحالي ووزير الداخلية السابق الذي اندلعت في عهده الاحتجاجات، بالإضافة إلى منع وزراء ومسئولين سابقين من تقلُّد مناصب رسمية جديدة بسبب «التقصير في القيام بالمسئولية تجاه مشروع الحسيمة (منارة المتوسط)»، وهو مشروع قومي أطلقه الملك لتنمية الحسيمة قبل اندلاع الاحتجاجات بعام وتعثر تنفيذه.
تُكثر الدولة في المغرب من الحديث عن الإنجازات المتحققة والمنتظرة من مشروع الحسيمة (منارة المتوسط) وتجدد تعهدها كل فترة باستكمال التنمية في الريف؛ بالتوازي مع ذلك يستمر التأهب الأمني في الحسيمة لمنع تكرار الاحتجاجات. بالإضافة لذلك، وفي محاول لتفريغ الاحتقان بين الدولة وأهالي الحسيمة، أصدر الملك أكثر من عفو عن الموقوفين خلال الاحتجاجات، حيث لم يتبقَّ قيد الحبس تقريبًا إلا ناصر الزفزافي وبعض القادة الأساسيين في الحراك، وتخرج المسيرات والفعاليات التضامنية المختلفة كل حين داخل وخارج المغرب للمطالبة بحريتهم، وهو ما يسبب ضغطًا مستمرًا على القصر في المغرب؛ ويجعل العفو عن المتبقين احتمالًا قائمًا باستمرار.
جرادة 2017-2018
ما إن هدأت انتفاضة الحسيمة حتى اندلعت غيرها في مكان آخر من الريف، مدينة جرادة الواقعة في شمال شرق المغرب. وكانت وفاة شقيقين خلال استخراجهم للفحم من أحد المناجم بالمدينة في أواخر ديسمبر/كانون الأول عام 2017 هي الشرارة لاندلاع موجة جديدة من الاحتجاجات المناطقية ضد البطالة والتهميش وسوء الأوضاع المعيشية.
شارك في تشييع الأخوين أكثر من عشرة آلاف شخص في مدينة لا يتجاوز عدد سكانها 45 ألف نسمة، تحولت الجنازة إلى مسيرة غاضبة واستمرت الاحتجاجات بعدها لعدة أيام، حاولت الحكومة احتواء الاحتجاجات، وفي 3 يناير/كانون الثاني 2018 زار وفد وزاري مدينة جرادة برئاسة وزير الطاقة والمعادن والتقى أعضاء المجالس المنتخبة وممثلي الأحزاب، وفي اليوم التالي أصدرت الحكومة بيانًا أوضحت فيه أنها تتفاعل «بشكل إيجابي ومسئول» مع مطالب سكان جرادة وتعهدت بالاستجابة لمطالبهم.
استمرت الاحتجاجات، وفي 16 يناير/كانون الثاني أعلنت الحكومة عن خطة طارئة للاستجابة لمطالب سكان جرادة، تشمل مراجعة فواتير الماء والكهرباء، وتوفير فرص عمل جديدة، ومراقبة المناجم، وتعزيز خدمات الصحة. لكن الاحتجاجات استمرت وتضاعف زخمها بعد وفاة شخص ثالث في الأول من فبراير/شباط في أحد المناجم خلال قيامه باستخراج الفحم.
بعد عدة أيام أعلن رئيس الحكومة «سعد الدين العثماني» عدة قرارات وتعهدات لتهدئة الاحتجاجات في جرادة، أهمها سحب تراخيص التنقيب عن المناجم المخالفة، وتقنين استخراج بعض الموارد المهملة، وطرح أراضٍ زراعية للشباب، ورصد ميزانية صحية للأمراض المتعلقة باستخراج الفحم؛ ولكن فشلت تعهدات رئيس الحكومة من جديد في احتواء الاحتجاجات.
بعد أكثر من شهرين على اندلاع الاحتجاجات في جرادة أعلنت وزارية الداخلية المغربية في 13 مارس/آذار منع التظاهر في المدينة، ليشهد اليوم التالي اشتباكات قوية بين قوات الأمن والمحتجين، وبعدها بيومين خرج الآلاف من سكان المدينة في مسيرة حاشدة متحدين قرار حظر التظاهر.
لكن بمرور الوقت تمكنت الحكومة المغربية من فرض الهدوء عبر مقاربتها الخاصة في التعامل مع هذه الأزمات، والمعتمدة على عنصريين أساسيين: أولهما الاعتراف بشرعية الاحتجاجات وإطلاق الوعود للمواطنين، وثانيهما استخدام عنف محدود هدفه الإمساك بالشوارع والميادين وليس إذلال وكسر إرادة المناطق المتمردة كالمعتاد في العالم العربي.
ولاحقًا أصدر الملك المغربي عفوًا عن كل الموقوفين على خلفية الاحتجاجات في مدينة جرادة.
الفئوية تتواصل والحكومة ترضخ
كل الانتفاضات السابقة كانت تحدث بالتزامن مع استمرار الاحتجاجات الفئوية وأخرى مناطقية أخف حدة، وفي 2019 وتحت ضغط الاحتجاجات الفئوية المتواصل لسنوات، وقَّعت الحكومة المغربية في شهر أبريل/نيسان اتفاقًا مع عدد من أبرز القوى النقابية المغربية، يقضي برفع الأجور وامتيازات أخرى للعاملين في القطاعين العام والخاص، على أمل أن يقود هذا إلى تخفيف حدة الاحتجاجات الفئوية في البلاد.
يبدو الشعب المغربي الآن في ثورة هادئة مستمرة، وجماهيره ناضجة ويقظة، تهب سريعًا للدفاع عن مكتسباتها وتعميقها، سواء كان ذلك بشكل مهني أو مناطقي أو قومي، وتمارس وتحمي حقها في الاحتجاج السلمي منذ تمكنوا من انتزاعه.
لكن من ناحية أخرى لم تتمكن الإصلاحات السياسية التي جاء بها الدستور الجديد من تحقيق طموحات الشعب، ويرجع ذلك إلى أحد أزمات الديمقراطية بشكل عام، وهي عدم قدرتها على الإتيان السريع بالتنمية، بالإضافة إلى أن المستفيد من إصلاحات الدستور الجديد كانت أحزاب المعارضة التقليدية، بينما الحركات الجديدة التي قادت الاحتجاجات السابقة ما تزال عاجزة عن تشكيل تنظيمات سياسية جامعة وقادرة على منافسة الأحزاب التقليدية، أو بلورة مشاريع تنموية تستوعب طموحات الشعب، وهذا ما يحتاج النشطاء الديمقراطيون للعمل على حله، ليتمكنوا من تجاوز انحسار الإصلاح الديمقراطي بالمغرب.