كيف عكس مؤشر «السلام الإيجابي» أوضاع الشرق الأوسط؟
إن مصطلح «السلام الإيجابي» لا يعني مجرد غياب العنف، بل الوصول إلى درجة عالية من الانسجام والتعايش المجتمعي، ليكون أعلى قيم السلام. ومنذ عام 2009، يُصدِر معهد السلام والاقتصاد تقريرًا سنويًا حول «حالة السلام الإيجابي في العالم»، وفيه يتم قياس وتتبع ما وصلت إليه حالة «السلام الإيجابي» في العالم، وذلك بالاستناد إلى نظرية «التغير الاجتماعي» وفهم البيئة الملائمة للتحولات والتطور الإنساني.
آلية قياس السلام الإيجابي
لقياس حالة السلام الإيجابية، يعتمد التقرير على ثماني ركائز أساسية، وهم:
- وجود حكومة تعمل بكفاءة، وقادرة على خدمة مواطنيها وتوليد ثقة متبادلة بينهم، وتمتثل لسيادة القانون.
- بيئة اقتصادية جيّدة، تدعم الاقتصاد الرسمي والقطاع الخاص، وتتيح التنافسية الاقتصادية.
- توزيع عادل للموارد.
- قبول حقوق الآخرين.
- إقامة علاقة جيّدة ومنسجمة مع دول الجوار.
- تدفق حر للمعلومات.
- تدريب وتمكين رأس المال البشري.
- مستويات منخفضة من الفساد.
والسلام الإيجابي كمؤشر يعني حصيلة تفاعل الاتجاهات والمؤسسات والهياكل مع العوامل السابقة، ومدى قدرتها على خلق حالة من السلام المستدام. وقد تم تحويل هذه الركائز السابقة إلى 24 مؤشرًا قابلًا للقياس، يمنح كلًا منها مجموعة من النقاط، وتترتّب الدول بناءً على هذه النقاط.
كيف عكس المؤشر أوضاع المنطقة العربية والشرق الأوسط؟
من بين 9 مناطق يُغطِّيها التقرير، كان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا واحدة من المناطق التي أحدثت تقدمًا خلال العقد الماضي، لكن هذا التقدم كان طفيفًا للغاية، لم يصل حتى إلى نسبة 1%، لتبقى أقل مناطق العالم. حيث سجّل التقرير تدهورًا ملحوظًا بلغت نسبته 3.5% في مستويات الفساد، وتدهور في كفاءة الحكومات بلغ 4.3%، وذلك بفعل النزاعات المسلحة التي اندلعت في المنطقة. وفي المقابل كان هناك تحسن ملحوظ في عامل التدفق الحر للمعلومات بلغت نسبته 14%.
رتّب التقرير دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا- 20 دولة- وفقًا للدرجات والمكانة التي أحرزتها كل دولة في تحقيق السلام الإيجابي في المنطقة من الأعلى إلى الأقل كالتالي: «إسرائيل»، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، قطر، تونس، عمان، البحرين، السعودية، المغرب، الأردن، الجزائر، لبنان، فلسطين، إيران، مصر، ليبيا، العراق، السودان، سوريا، اليمن.
احتلت «إسرائيل» المرتبة الأولي إقليميًا وفقًا للتقرير والمكانة 34 عالميًا، وكانت اليمن الدولة الـ20 إقليمًا، و161 عالميًا، وقد أحرزت كافة دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تقدمًا في معدل السلام الإيجابي، مقارنةً بعام 2009، باستثناء ثلاث دول، شهدت تدهورًا واضحًا، وكانوا ضمن الأكثر تدهورًا عالميًا وهم: ليبيا، وسوريا، واليمن.
يُقارِن التقرير حالة السلام الإيجابي في المنطقة خلال العقد الماضي، وبالتحديد منذ عام 2009، ووفقًا للتقرير فكانت حركة التغيرات في دول المنطقة -مقارنة بباقي دول العالم- كالآتي:
صعدت المملكة العربية السعودية 13 مرتبة، وصعدت الإمارات أربع مرتبات، كما صعدت كل: من عمان وفلسطين 3 مرتبات وصعدت الجزائر مرتبتين.
هبطت كل من الكويت وتونس ومصر مرتبة واحدة، وهبطت قطر خمس مرتبات، وهبطت اليمن 7 مرتبات، وهبطت المغرب ثماني مرتبات، وهبطت الأردن سبع عشرة مرتبة، وهبطت لبنان 12 مرتبة، وهبطت العراق مرتبة، وهبطت سوريا 40 مرتبة، وهبطت ليبيا 55 مرتبة.
أمًا بخصوص دول الجوار العربي؛ فقد صعدت إيران ثماني مرتبات، وهبطت تركيا 34 مرتبة، وصعدت إسرائيل مرتبتين.
وهناك 3 دول في الشرق الأوسط تدهورت بشكل دراماتيكي، من ضمن 5 دول عالميًا؛ أولها كانت سوريا، والتي سجلت أكبر تدهور في السلام الإيجابي من أي دولة في المؤشر، وتراجعت 41 مرتبة في تصنيف المؤشر لتصبح الآن سابع أدنى دولة سلام إيجابي في العالم، ويعود هذا التدهور لحالة الحرب التي تعيشها منذ عام 2011. وكان مؤشر العلاقات مع دول الجوار في الحالة السورية متدهورًا أكثر من أي عامل آخر، حيث تراجع بنسبة 25.9% خلال العقد الأخير، ليعكس حجم تعقيدات الفاعلين في الصراع، وتحسّنت سوريا في بعض المؤشرات، خاصة على مستوى الوصول إلى المعلومات وحريات الصحافة، لكن كليهما ما زال منخفضًا ولا يرقى للمستوى المطلوب.
أمّا ليبيا فهي ثاني دولة من حيث حجم التدهور بعد سوريا، حيث تدهورت درجات جميع الركائز، فيما عدا التدفق الحر للمعلومات، وهو الأمر الذي تحسّن بسبب تطور مؤشرات استخدام الإنترنت. بينما كان المؤشر الخاص بكفاءة الأداء الحكومة هو الأكثر تدهورًا، وذلك بنسبة 31.4% منذ عام 2009. وعلى الرغم من التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين المقاتلين استمر التدهور وعدم الاستقرار المزمن بجانب صعوبة تحسين الحوكمة وتعزيز المرونة الاجتماعية.
الدولة الثالثة التي شهدت تدهورًا دراماتيكيًا في المؤشر هي اليمن، حيث تراجع تصنيفها لتصل إلى المرتبة 161 من بين 163 دولة، إذ وقع تدهور بكل أركان السلام الإيجابي في البلاد خلال العقد الماضي، وذلك بسبب الحرب الأهلية الطويلة.
وبناءً على ما سبق، يمكن القول إن طول أمد النزاع في الدول الثلاث السابقة، عامل رئيسي في وضع هذه الدول ضمن الأكثر تدهورًا عالميًا، خصوصًا أن التقرير يقيس تطور المؤشر من عام 2009 وحتى عام 2020، أي أن حوالي 80% من هذه الفترة كانت فترة صراع. أمّا التحسن في عامل التدفق الحر للمعلومات في كل من سوريا وليبيا، يمكن القول إنه جاء نتيجة تطور السياق العالمي، وتطور الأدوات المستخدمة في التواصل، وليس بفعل مجهود بذلته تلك الدول لرفع مستوى الوصول الحر للمعلومات.
ملاحظات حول تدهور السلام الإيجابي ومستقبله
بالرغم من أن التقرير يُقدِّم الصورة الشاملة لحالة السلام الإيجابي في العالم، ويُقصِر التفصيل على الدول التي شهدت تغيرات راديكالية (إيجابًا وسلبًا)، لكن تبقى النتائج والتصنيفات الواردة في التقرير ذات دلالة، ومنها يمكن تقديم عدد من الملاحظات بخصوص تغيير ترتيب الدول في المؤشر، سواء بالصعود أو الهبوط، ومستقبله في بعض الدول وأبرزها ما يلي:
- كانت بعض دول الربيع العربي ضمن الدول التي شهدت تغيرًا سلبيًا، وتحديدًا تلك التي عجزت عن اتمام التحول الديمقراطي، وهم: سوريا واليمن وليبيا، وذلك بعكس الدول التي بدأت المراحل ذاتها لكنها سارت في مسار التحول الديمقراطي ومنها (مصر وتونس)، اللاتان احتفظتا بوضع مشابه لما كانتا عليه في عام 2009.
- في عام 2009، عام الأساس في هذا التقرير، كانت بعض الدول العربية كانت تعاني في الأساس من أوضاع غير مستقرة، وبالتالي لم يحدث فيها هبوط كبير في ترتيبها حاليًا، لأنها كانت بالأساس في مرتبة منخفضة من السلام الإيجابي آنذاك، ومن هذه الدول العراق، والتي كانت تعاني– في عام 2009- من تبعات الغزو الأمريكي، لذا بقيت العراق في ذيل القائمة كما كانت، بعيدة عن السلام الإيجابي، ولم يحدث تراجع دراماتيكي في الترتيب.
- تعتبر دول مجلس التعاون الخليجي الأسرع مُضيًا نحو السلام الإيجابي، فمن بين دول المنطقة العربية صعدت السعودية 13 مرتبة، لتُحقِّق القفزات الأوسع من بين دول المنطقة، ويُرجَّح أن ذلك بسبب النهج الانفتاحي الذي تبته السعودية في الأعوام الأخيرة. أمّا الإمارات، فيُرجَّح أن عملية التطبيع الأخيرة التي قامت بها، رفعت من نقاط علاقاتها مع دول الجوار، بالنسبة لواضعي التقرير.
- كان ملف العلاقات مع دول الجوار الأكثر حضورًا في أسباب تدهور مؤشر السلام الإيجابي في الدول، فحين ذكر التقرير بشكل صريح أن هذا كان سبب تراجع سوريا درجات عديدة، يمكن ترجيح أنها السبب ذاته لتراجع تركيا وقطر، فنصف المدة التي خضعت للقياس كانت هناك مقاطعة بين قطر ودول الخليج ومصر، وبين تركيا وعدد من دول الجوار.
- بحكم التطور التكنولوجي المُتسارع الذي يشهده العالم، كان التدفق الحر للمعلومات أكثر قدرة على اختراق العالم والوصول إلى كافة الدول، حتى تلك التي عانت من صراعات طويلة، فكان «التدفق الحر للمعلومات» هو العامل الأكثر تطورًا من بين العوامل الثمانية.
- كان للبعد الاقتصادي تأثير واضح على نتائج المؤشر، إذ ارتبط تباطؤ وتيرة التحسين في عام 2020 بوباء كورونا وما ترتّب عليه من ركود عالمي. وكذلك تدهور مؤشر السلام الإيجابي في عام 2015 بسبب الأزمات الاقتصادية التي نشأت في الأسواق الناشئة وأزمات الهجرة في الولايات المتحدة وأوروبا، وما ترتّب عليها من تفاقم الاستقطاب الاجتماعي والسياسي.
- من بين 34 دولة عالميًا حققت تراجعًا في السلام إيجابي في عام 2020. رجّح المؤشر أن معظم هذه ستواجه مستويات أعلى من العنف خلال العقد المقبل، ومن هذه الدول: الأردن وقطر.
إجمالًا، فالشرق الأوسط كان من المناطق التي حقّقت تقدم في السلام الإيجابي، لكنه تقدم طفيف، وكانت دول الخليج من أكثر دول إحرازًا للتقدم في المنطقة، في حين تراجعت دول شمال إفريقيا، كما كان مسار ثورات الربيع العربي أكثر تأثيرًا في اتجاه التطور والتدهور، فالدول التي نجحت في المضي قدمًا نحو عملية الانتقال الديمقراطي استطاعت الحفاظ على مرتبات قريبة مما كانت عليه عام 2009، في حين تدهورت تلك الدول التي فشلت في تبني نهج ديمقراطي. كما أن طبيعة العلاقات في المنطقة، والتي شكّلتها أيضًا ثورات الربيع العربي، كانت ذات تأثير كبير على عامل العلاقات مع دول الجوار.
يمكن القول إن مؤشر «السلام الإيجابي» أداة يمكن استخدامها للتنبؤ والاستعداد للتصاعد المحتمل في العنف أو الاستقرار في المنطقة.