التربية الإيجابية في السيرة النبوية
انتشر في الآونة الأخيرة مصطلح يتعلق بالتربية يسمى «التربية الإيجابية Positive discipline»، وقد لاقى هذا المصطلح رواجًا واسعًا واستنفارًا كبيرًا من الآباء والأمهات لتعلمه، بل نيل شهادة معتمدة فيه من المؤسسة الأمريكية المنوط بها تقديم التدريب عليه والمسماة باسمه.
يرجع ذلك النموذج التربوي للطبيب النفسي «ألفريد أدلر» الذي قدمه في الولايات المتحدة الأمريكية في بدايات تسعينيات القرن الماضي، وبنهاية التسعينيات أطلقت «جين نيلسن» و«لين لوت» كتابهما الشهير في التربية الإيجابية بعد أن حصلتا على تدريبهما في هذا المجال، وأسستا مؤسستهما التدريبية الخاصة.
والمتمعن في ذلك العلم يجد أن الرسول معلم البشرية -صلى الله عليه وسلم- قد أرسى هذه القواعد منذ أكثر من 1400 عام، ولم يقف عند حدود التبليغ، بل باشر بنفسه رسم معالم التربية الشاملة، وكان في ذلك قائدًا وقدوةً.
في هذا المقال سنتطرق إلى معايير التربية الإيجابية وبعض أدواتها التي وجدناها في السيرة النبوية الشريفة.
الرسول مُربٍ إيجابي
حسب ترتيبها، هناك خمسة معايير للتربية الإيجابية الفعالة:
1. مساعدة الأطفال على الشعور بالانتماء والأهمية
بنظرة سريعة على السيرة النبوية نتذكر ذلك الموقف الشهير، حيث روى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتي بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره. فقال: «يا غلام أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟ قال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحدًا يا رسول الله، فأعطاه إياه».
يحيلنا تصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الغلام لمراعاته ضمانًا للتوافق النفسي والاجتماعي للطفل. يتعلق الأمر بحاجته للشعور بأنه محبوب ومرغوب فيه من لدن كل من يتعاملون معه، وأن له قيمة ينبغي أن تُحترم وحضورًا يجب أن يُصان، وتغذية الحاجة إلى التقبل والاحترام تُجنب الطفل كل ميل إلى السلبية والانطواء وكراهية الآخر، مما يعزز ثقته بذاته، ويضمن انخراطه على نحو إيجابي في النسيج المجتمعي.
راجع أيضاً: أداة listen
2. الاحترام المتبادل والتشجيع بحزم ولطف في الوقت نفسه
ذُكر في كتاب (التهذيب الإيجابي من الألف إلى الياء):
وحين ننظر في السيرة النبوية نجد في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
أولًا: نجد هنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحث على عدم إهمال أي تصرف شاذ بحجة أنه صادر عن طفل غير مدرك لتبعات سلوكه، أو أن المخالفة يسيرة مادام مرتكبها صغيرًا لا يعقل.
نرى هنا أن الحنان الأبوي لا يتعارض مع حمل الطفل على التمسك بالحدود والمبادئ المقررة، فالتنشئة السليمة تستلزم قدرًا من الحزم الذي يصون أفعال الصغير عن العبث، غير أن هناك فرقًا واضحًا بين تنشئة الطفل على الطاعة وتعويده الاحتكام إلى منهاج شخصي للأخلاق يستمد منه قراراته ومواقفه، ويستضيء به في تفاعله مع محيطه الاجتماعي.
تأمل كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينتزع التمرة من فم حفيده فحسب، بل أحاله على الدستور الأخلاقي الذي يحكم (آل محمد)! مؤكد إذن أن الطفل هنا سيُظهر استجابة واعية لما يتطلبه شرف الانتساب من عدم إخلال بالتوجيهات الأخلاقية، وهو ما يُشعر الطفل أيضًا بنقطة الأهمية والانتماء التي ذكرناها آنفًا.
راجع: أداة التساهل والصرامة Kindness and firmness
3. أن يكون التهذيب فعّالًا على المدى الطويل ويأخذ في اعتباره تفكير الطفل وشعوره وطريقة تعلمه
حرص الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- أثناء تعامله اللطيف مع الأطفال على احترامه لنفوسهم وذواتهم، وعلى توصيل أفضل المفاهيم إليهم بأبسط الوسائل وأقومها، فيحكي لنا أحد الأطفال هذا الموقف له مع النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو عبد الله بن عامر، فيقول: «دعتني أمي ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا، فقالت: هَا تعالَ أعطيك، فقال، صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمرًا. فقال لها: “أما إنك لو لم تعطه شيئًا لكُتبت عليك كذبة”.
فهو يحذرها من أن تكذب على الصبي أو تستهين بمشاعره، ولو أن تقول له تعالَ أعطيك شيئًا، ثم لا تفعل.
4. تعليم المهارات الاجتماعية والحياتية المهمة؛ مثل احترام الآخرين والتعاطف معهم وحل المشكلات والتعاون.. وغيرها
يتجلى ذلك في مواقف مثل الغلام في مجلس الأشياخ الذي ذكرناه سابقًا، ومثل الموقف الشهير التالي:
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخل علينا ولي أخ صغير يُكنى أبا عُمير، وكان له نغر يلعب به، فمات فدخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فرآه حزينًا، فقال: ما شأنه؟ قالوا: مات نغره، فقال: يا أبا عمير ما فعل النغير.
فعلى الرغم من صغر سن الطفل -3 سنوات تقريبًا- فإنه اقتطع من وقته ليتواصل ويتعاطف معه عند وفاة حيوانه الأليف.
5. دعوة الأطفال لاستكشاف مدى قدراتهم
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يشجع على الاستخدام البناء للمهارات الشخصية ويدعم الاستقلالية، فعنه حدثنا خلاد، ثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر، أن امرأة قالت: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئًا تقعد عليه، فإن لي غلامًا نجارًا؟ قال: «إن شئت»، فعملت المنبر. حدثنا قتيبة، ثنا عبد العزيز، حدثني أبو حازم، عن سهل، قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى امرأة: «مري غلامك النجار يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن».
نجد هنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يستصغر الغلام ويوجهه لمهام تافهة، بل وثق في قدراته ووكل إليه مهامًا جادة، واعتمد عليه في صنع المجلس.
راجع أيضًا: أدوات show faith, Jobs
أدوات التربية الإيجابية
والمتعلم في مجال التربية الإيجابية يعرف أن تلك المعايير الخمسة ينبثق عنها ما يسمى بـ «أدوات التربية الإيجابية»، وهي مجموعة من التوجيهات المختصرة التي تساعد المربي على التعامل مع الطفل في المواقف المختلفة، أذكر لكم الآن أمثلة منها وإسقاطها على مواقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- التربوية.
1. حس الفكاهة sense of humor
حيث يستخدم المربي حس الفكاهة لحث الطفل على الطاعة:
رفض أنس –ظاهريًا- تنفيذ أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فماذا كان تصرف النبي، عليه الصلاة والسلام؟ أنه خرج وراءه، (تركه بدايةً؛ ما رد عليه ولا هدده) لكنه تابعه وخرج وراءه فرآه واقفًا مع الغلمان، وكأنه الآن سيلهو عن الشيء المطلوب، فأمسك الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنسًا من قفاه من خلفه، وهذا الإمساك إمساك ملاطفة وليس إمساكًا خنقًا لقول أنس: «فنظرت إليه وهو يضحك»، وهذا دليل على أنه كان يلاطف ولم يكن يعبس في وجهه.
ولننظر إلى صيغة الخطاب في كلام الرسول -صلى الله عليه و سلم- وتلطفه بالنداء، في قوله لأنس: يا أنيس، تلطفًا وحنانًا وأبوة.
2. الثناء والتقدير Compliments and appreciation
فكما تلفت أنظارنا أخطاء الطفل، يجب أيضًا أن نلتفت لمحاسنه، نشكره عليها ونثني عليه، ويتجلى هذا في مواقف نبوية مثل:
قال ابن عباس: ضَمَّني رسول الله وقال: اللهم علمه الكتاب، وقال ابن عباس: وضعت للنبي وضوءًا قال: من وضع هذا؟ فأخبر؛ فقال: اللهم فقهه في الدين. ولما خدم أنس رسول الله دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته».
3. تعليم الطفل ماذا يفعل Teach child what to do
بمعنى أنه حين يخطئ الطفل لا ننهاه عن الخطأ وحسب، بل نعلمه الأمر الصائب الذي يجب أن يفعله.
ويتجلى هذا في الموقف النبوي الشهير في قول عمر بن أبي سلمة: «كنت غلامًا في حِجْر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت يدي تطيش في الصحفة»؛ فعلَّمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رفق ولين كيف يأكل، فقال له: «يا غلام سم الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك»، فهو لم يقل مثلًا: «لا تطش في الصحفة»، بل علمه ما يجب عليه فعله.
4. سيطر على أفعالك control your behavior
وتخبر هذه الأداة أنه كيف نتوقع من الأطفال أن يسيطروا على أفعالهم ما لم نستطع نحن الكبار السيطرة على أفعالنا، ونقصد بذلك الأفعال التي تؤذي الطفل مثل الضرب والتعنيف، وغيرها من ردود الأفعال الغاضبة.
فعن أبي كريب، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط بيده، ولا امرأةً، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل.
5. الإقرار بالحب message of love
حيث يخبرك كتاب التهذيب الإيجابي: «إن التأكد من وصول حبك إلى أطفالك هو أعظم ما تقدمه لأطفالك. إنهم يشكلون آراءهم من خلال إدراكهم لما تشعر به تجاههم، فعندما يشعرون أنك تحبهم وتحافظ على خصوصيتهم يتكوَّن بداخلهم رغبة قوية في تطوير قدراتهم»، وفي المقابل نجد قول البراء، رضي الله عنه: رأيت النبي والحسن بن علي على عاتقه يقول: اللهم إني أُحِبُّه فأَحِبَّه.
وليس هذا هو الموقف الوحيد الذي يُظهر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- حبه أو يُصرح به، بل هناك الكثير.
بالنظر لما ذكرته في هذا المقال نجد أن نموذج التربية الإيجابية ليس اكتشافًا غربيًا حصرًا، فنحن نمتلك ذلك النموذج بالفعل في ديننا، وأحق به، ربما ينقصنا التفصيل والسرد والتدريب العملي الذي وجدناه في الكتب والدورات الغربية، لكن الأمر المهم هو هدفنا من تعلم هذا العلم وتطبيقه، فإذا كان اقتداءً بالرسول -صلى الله عليه وسلم- أو فقط تقليدًا للغرب إيمانًا بهم، يمكن أن تكون النتيجة واحدة، لكن تربية الأبناء بالنسبة لنا نحن المسلمين ليست عملًا دنيويًا صرفًا، بل هي تقرب لله عز وجل وابتغاء مرضاته، وبالتالي فالنية التي نتخذها في ذلك سيُعوّل عليها الكثير.