مواضع العبقرية في ملحمة «سنوحي» المصرية القديمة
الحديث عن الآداب القديمة المُؤسِّسة يقودنا مباشرة إلى توظيف اللاهوت والملحمة وكيفية تنظيم المجتمعات في تلك الفترة. لكنه قليلًا ما يقودنا نحو الدافع الفردي. بل يكتفي بمناقشة الدافع النفسي العام؛ حيث شخصية البطل الملحمي الكلاسيكية، والتي لطالما كانت دوافعها مرتبطة بالإله وما يسوقه القدر- الذي وضعه الإله أيضًا- له.
لتخصيص الأمر على الأدب المصري القديم، ففي كتاب «الآداب القديمة وعلاقتها بتطور المجتمعات»، نجد أن «إحسان سركيس» عنوَّن أحد فصوله بـ«الجماعة والآخرون والفرد في الأدب المصري القديم»، وعليه فإنه -الأدب المصري القديم- لا يكتفي فقط بتناول أدب الجماعة الذي قد يكون بشكل مُرجَّح أسطوريًا مثل استخدام أسطورة إيزيس. بل يشمل أيضًا الأدب الفردي. بل ويركز على أن الدافع هو الأصل في دراسة الآداب القديمة. [1]
وقصة سنوحي تعتبر من ضمن تصنيفات الأدب الفردي عند سركيس. وهذا ما يجعله يتوافق مع «بينز» في اعتبار سنوحي نصًا ذاتي الوعي، لا نصًا سياسيًا كما ذكر «بوسنر». [2] وهذا يقودنا بسلاسة إلى أكثر الأسئلة شيوعًا حين التعامل مع نص سنوحي ألا وهو: لماذا هرب سنوحي؟
كثرت التأويلات في محاولة فهم دافع سنوحي للهرب، وحيث سمح غموض اللغة المُستخدمة بكثرة التأول. وهذا ما يُصعِّب عملية فهم شخصية سنوحي. [3]
الفضاء السياسي (الحكم) في سنوحي
بالنسبة لـ«موشاوسر» فإن فرضيته الأولى لهرب سنوحي تشير إلى أنه استمع عن طريق الخطأ إلى خبر موت الفرعون «أمنمحات الأول» حين أخبر المبعوثون ابن الفرعون «سنوسرت» بذلك. وما كان من سنوحي إلا أن ارتبك هستيريًا وتخلى عن الجيش. [4]
وهذا ما يقودنا إلى محاولة فهم التحول في شخصية سنوحي، من الشجاع والحكيم وخادم الملك إلى شخص خائف بمجرد سماعه خبر وفاة الملك. هذه الفردية والذاتية تتشارك مع التجربة الإنسانية لا فقط مع سنوحي –الشخصية المصرية القديمة- من خلال عملها على أنسنة سنوحي باستخدام مشاعر الخوف والريبة.
ومع تأمل دقة النص في وصف الخوف لدى سنوحي. يثور التساؤل حول سبب خوف سنوحي لهذه الدرجة. هل هو وفاة الفرعون وتداعياته على منصبه أم على البلاد؟ هل كان خوفه من بطش الفرعون الجديد سنوسرت، والذي كان يرافقه في المعركة قبل وصول خبر وفاة الفرعون؟ والذي في نفس المقام قام بمدحه أمام الشيخ البدوي –أثناء رحلته- بكل إخلاص وانتماء! ماذا كان سبب خوف سنوحي الأساسي؟ هذا الخوف والشعور البالغ بإنسانيته بطبيعته يتشارك مع إنسان القرن الواحد والعشرين على اختلاف الفجوة الزمنية الحاصلة. سنوحي على الرغم من غموض اللغة، فإنه لا يترك المجال مفتوحًا للتأويل كثيرًا في هذه النقطة، ويوضِّح أنه هرب نجاةً بحياته.
هذا يتوافق مع احتمالية هربه لأنه فقد حاميه -الفرعون أمنمحات الأول- بالوفاة، وآثر أن يهرب ويبدأ حياة جديدة. لكن هذا أيضًا لا يتفق مع ما يمكن استنباطه من عدم استقرار حالته الذهنية لكونه مرّ بنوبة هلع. لاحقًا يذكر سنوحي حين حديثه مع الشيخ بأنه لا يدرك حقيقةً لِمَّ هرب، وهذا يتنافي تمامًا مع ما ذكره حول النجاة بحياته.
لكن خلال رحلة ذهابه من مصر إلى آسيا وعبوره من النهر وحتى طرق اختبائه وتحركه فقط في الليل، تحفز الإدراك بأن سنوحي كان مدركًا لما يفعله وكيف يمكنه النجاة. لكن هل هذا بفعل غريزة البقاء أم فطنة الترحال؟
ومن ضمن مجريات القصة أن سنوحي أصبح مُختارًا لقبيلة. وهذا يصب في الفضاء لاختلاف طبيعة الحكم. ففي مصر، كان الحكم بيد الفرعون ولم تكن قبائل. لكن في آسيا كان النسيج المجتمعي مختلف تمامًا. فهم كانوا بدوًا ويعيشون في نظام القبيلة ولكل قبيلة مختار. وأنشأ نظامه الكامل في الحكم والأراضي، حتى جاء منْ يُذكِّره بأنه أجنبي غريب عن البلاد وتحداه، وما كان من سنوحي إلا أن قبل التحدي ونازله وتمكن من الفوز في المعركة.
والجدير بالانتباه أنه حينما كان سنوحي يُنازِل المحلي الشجاع كان كل أهل المنطقة يُشجِّعون سنوحي ويتمنون له الفوز. وعليه هل يمكن اعتبار وجود سنوحي (المصري الأجنبي المُختلف عن عُرف البلاد وجغرافيتها) نوع من حضور الاستعمار في تلك المنطقة. وإذا تم ربط هذه الفكرة بحضور المركز والهامش الذي أشار له «لوبرينو» فتزداد قوة حضور هذه الفرضية.
الفضاء المكاني لرحلة الانتقال من مصر إلى آسيا
ثمة تفصيل كامل لرحلة سنوحي من مصر إلى آسيا بدءً من اتجاهه جنوبًا وقطع النهر وحتى وصوله إلى وجهته، حيث كان يتحرك في الليل، فهو تسلّل من الحاجز الذي يقع في سيناء، والذي بُني لحماية مصر من الآسيويين والذي قد يمكن تأويله لشيء أعمق من هذا، بأن مصر هي المركز وما هو خارج هذه الأسوار هو هامش فقط، وهذا ما يتضح لاحقًا من المقارنات بين مصر وآسيا (فلسطين/سوريا).
هذا السرد ما هو إلا محاولة لتوضيح مقارنة سنوحي نفسه ما بين مصر وهذه المناطق، حيث إن مصر يوجد فيها النيل وحتى مع وجود بعض التلال إلا أنها بالنسبة له تختلف عن طبوغرافية الشام. وهذا يقودونا بشكل ما إلى فكرة مصر والخارج، أو بمعنى أدق مصر (المركز) في مواجهة الخارج (الهامش). وما يحفز هذه الفكرة وجود الحاجز الذي ربما يعزل مصر أو حتى يحميها من تمرد السوريين. [5]
ويمكن تسمية الرحلة من مصر (المركز) إلى آسيا (الهامش)، بأنها رحلة لنقل الحضارة إلى الهامش مثلما أفادت تجارب المستشرقين، وما يدعم هذه الفكرة هو اعتزاز سنوحي بنفسه بأنه حتى عندما أكرمه الآسيويون، سلّم بأنهم يعرفون مكانته في مصر.
الفضاء الديني في سنوحي
يتجلى هذا الأمر في علاقة سنوحي مع الإله. وفقًا لطبيعة الحضارة الفرعونية، فالفرعون هو إله. ولكل منطقة عدة آلهة يعبدونها بجانب طاعتهم للفرعون. الجدير بالملاحظة أنه عندما هرب سنوحي كان دائم الحديث أنه لم يهرب بمشيئته، وأنه لا يعرف كيف وصل إلى آسيا. كان ينسب ذلك إلى إرادة الإله وتقديره له.
وهذا يُرجِّح اعتبار قصة سنوحي على أنها ملحمة؛ حيث إن سنوحي كان مُسيَّرًا من قبل الإله ولم يختر بنفسه خروجه من مصر. كما أن رحلته كبطل ملحمي فردي يعكس موقف ذاتي، ولكنه يُعبر عن الجماعة وموقفها، فهو ذات معبرة عن المجموع. [6] وفي هذا التعبير يظهر حبهم للإله وفي نفس الوقت خوفهم منه، أي يتعلق بعمق النسيج الديني في المجتمع المصري القديم. والذي يتعلق بكثير من الأمور الغيبية.
وبعد فوز سنوحي على منازله، اعتبر سنوحي أن الإله قد غفر له. فطوال وجود سنوحي في آسيا لم يتم ذكر الإله أبدًا. كأن سنوحي حين وصل آسيا وضع مصريته جانبًا -لم يتخل عنها لكن لم يُظهِرها- وتعامل بما يتفق مع فضاء البلاد. بخاصة أنه كان مُختارًا لقبيلة. والجدير بالذكر أنه حين عاد سنوحي إلى مصر بعدما استدعاه الفرعون تم تعريفه بـ«سنوحي الأسيوي».
خطاب الفرعون إلى سنوحي مليء بالآلهة الفرعونية وهذا ما يوضِّح الإيمان الديني المتعدد في اللاهوت لدى الحضارة الفرعونية. كما أن ذكر الإلهة «سخمت» في بدء حوار سنوحي مع الشيخ دليلًا على تكثيف استخدام الآلهة في الثقافة الفرعونية. لكن تعتبر هذه المرة الأخيرة التي ذكر سنوحي فيها أيًا من الآلهة حتى فوزه على منازله وقام يدعو للآلهة بأن يعود لمصر.
لكبر سنوحي بالسن، بدأت تظهر عنده مخاوف الموت والدفن. حيث إنه يؤمن بحياة ما بعد الموت كغيره من الفراعنة. وكان عليه أن يُدفَن في مصر على طريقة الفراعنة، لا أن يُدفَن في مكان آخر ليضمن الخلود.
الخاتمة
قصة سنوحي لا تقتصر على كونها قصة مصرية قديمة، بل هي تعتبر ملحمة وأدبًا مؤسسيًا أقدم من ملاحم الإغريق وحتى «جلجامش». هذه القصة تحمل طابعًا إنسانيًا، وكما ذكر «سركيس» هي من الأدب الفردي الذي يحمل الذات ومن ثَمَّ يعبر عن الجماعة.
تعبير سنوحي عن الجماعة خلال رحلته لا يتوقف فقط مع وصوله عند قصر الفرعون وبناء قبر له وتكريمه، بل هناك أبعاد إنسانية وجودية ودلالات تنوع الهوية ما بين المصري والآسيوي في حالة سنوحي، وفي حالة إنسان القرن الواحد والعشرين (الذي يترحّل في أكثر مكان مكان) والذي يحمل تضاربات الهوية الشخصية والثقافية. أي أنها ما زالت قادرة على تفسير ملامح الوجودي الإنساني حتى هذه اللحظة، وبالتالي هي بلا شك ملحمة، كما أن فضاءاتها متنوعة وثرية، وبالتالي لا تكفي قراءة واحدة للعمل لإجمال كافة الفضاءات، لأن بكل قراءة تكتشف فضاءات جديدة.
- إحسان سركيس، الآداب القديمة وعلاقتها بتطور المجتمعات بابل -مصرالفرعونية- الإغريق، (بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 1988، ط1) ص 98.
- Georges Posener, Littérature et politique dans l’Egypte de la XII Dynastie, (Paris, Champion, 1956), p 87.
- Hans Goedicke, Three passages in the story of Sinuhe, journal of the American Research Center in Egypt, 1986, Vol. 23, P169.
- Scoot Morschauser, what made Sinuhe Run: Sinuhe’s Reasoned Flight, Journal of the American Center in Egypt, Vol. 37(2000) p. 187.
- Antonio Loprieno, Toward a geography of Egyptian literature, Oriental Institute of University of Lisbon, p 46.
- مرجع سابق، إحسان سركيس، ص 105.