المدربون البرتغاليون: أن يقودك الفقر إلى القمة
لا تُعد البرتغال دولة مميزة اقتصادياً على المستوى الأوروبي، بل تعاني من معدلات فقر عالية، والفقر يعني أن تتعامل مع الكرة وغيرها من الرياضات على أنها مجرد وسائل للترفيه لا أكثر، ويكون الشغل الشاغل للشعب هو توفير مقومات الحياة الرئيسية. وهو ما لا يحدث في البرتغال.
رغم صعوبات الحياة، فإن كرة القدم تُشكل ضلعًا رئيسيًا في حياة المواطن البرتغالي، فكما يُقال إن الشعب البرتغالي يتنفس كرة القدم، فثلاث من الصحف اليومية الست الأكثر مبيعًا في البرتغال هي صحف رياضية تُهيِمن عليها كرة القدم.
وقد بزغ في السنوات الأخيرة نجم المدربين البرتغال على الساحة الأوروبية والعالمية، فلم يعد الأمر مُقتصرًا على نجاحات فردية لأشخاص بعينهم، بل أصبح هناك عدد كبير من هؤلاء المدربين على رأس الفرق الأولى في الدوريات الخمس الكبرى، إضافة إلى مدرب المنتخب البرتغالي «فرناندو سانتوس» الحاصل على كأس أمم أوروبا 2016، ودوري الأمم الأوروبية 2019.
ثقافة شعب
اعتبر عالم النفس الهولندي «غيرت هوفستد» أن ميل الثقافة إلى أن تكون إما فردية أو جماعية كان أحد الأبعاد الستة المهمة في شرح سلوك وتفكير شعبها، ما يعني أن هوية الشعب حتمًا ستؤثر على كيفية تناول هذا الشعب للأمور، وكيفية التعامل معها. هنا قد نكون أمسكنا بطرف الخيط… الهوية.
فالهوية تؤثر على طريقة تناولك لكل شيء، بما في ذلك كرة القدم. ولكن هل الهوية وحدها تكفي لتُقرِّبك من الدول التي اهتمت بكرة القدم من منظور أكاديمي بحت؟
يقول المدرب البرتغالي واللاعب السابق «جوزيه جوميز» في الحوار الذي أجراه لصحيفة «الإندبندنت»:
يتحدث جوميز عن أن الممارسة والتعلم عن طريق التجربة والخطأ قد يكون سلاح الدول الفقيرة التي لا تمتلك رفاهية إنفاق الأموال على الدراسة الأكاديمية، فالممارسة تؤدي إلى ما يُسمى التفكير (البراغماتي) أو العملي، وهو تفكير يتولّد نتيجة الحاجة الملحة لإيجاد بدائل، وهو ما يلتقي بشكل أو آخر مع ثقافة الشعب ووضعه الاقتصادي.
يُشير جوميز إلى أن التكيف هو أحد العوامل الرئيسية التي تُساعد البرتغاليين على النجاح في الخارج ليس على مستوى كرة القدم فقط بل في معظم المجالات، وهو ما يؤكده أيضًا «خوسيه بيريرا»، رئيس الاتحاد الوطني البرتغالي لمدربي كرة القدم. ويُرجِع بيريرا السبب إلى أن 20% من مواطني البرتغال يعيشون في الخارج بحثًا عن فرصه أفضل في الحياة، وذلك التاريخ الطويل من الهجرة يساعد اللاعبين والمدربين البرتغال على النجاح أينما وُجدوا.
ولكن هل تكفي الهوية وحدها للنجاح؟
جوزيه مورينيو: قائد جيش المتميزين
في بداية التسعينيات أخذ «فيتور فرايد» -وهو محاضر برتغالي رياضي في جامعة بورتو لكرة القدم– على عاتقه مسئولية تطوير نظريات التدريب في كرة القدم، وله إسهامات عديده أثرت في الأجيال اللاحقة للمدربين البرتغال الذين تتلمذوا إما على يديه أو على نظرياته، ولعل البداية كانت في عام 2003 على يد أحد تلاميذه «جوزيه مورينيو».
فقد قالوا قديمًا إن بداية الغيث قطرة، ولعل مورينو هو تلك القطرة التي انهمر بعدها غيث المدربين البرتغال، الرجل الخارق الذي حلَّق بأحلام البرتغاليين عاليًا، وصار مرجعًا لهم فيما بعد، لمَ لا وهو الرجل الذي ترك أثرًا في كل مكان حط الرحال فيه، بل نستطيع أن نقول إنه خلق شكلًا جديدًا من أشكال اللعب سيصير علامه مميزه لمعظم مدربي البرتغال اللاحقين.
فقد أعاد مورينيو نادي بورتو للقمة بعد ما تُوِّج معه ببطولة الدوري الأوروبي عام 2003، ثم تحقيق الإنجاز الأغلى والأعظم بالتتويج بدوري أبطال أوروبا بعد أكثر من 17 عامًا من غياب النادي والأندية البرتغالية عن منصات التتويج بدوري الأبطال.
ثم بدأ حقبة جديدة في الدوري الإنجليزي مع تشيلسي الذي أعاده لمنصات التتويج ببطولتين متتاليتين من الدوري الإنجليزي بعد انقطاع 50 عامًا، ليعود ويحقق بطولة دوري أخرى في ولايته الثانية لتشيلسي، تخلّلهم نجاح منقطع النظير في إيطاليا مع إنتر ميلان الذي تُوِّج معه بالثلاثية التاريخية الأولى للنادي ولأندية إيطاليا ككل، وتجربة شبه ناجحة مع ريال مدريد أسهمت في بناء جيل تاريخي للميرنجي سيسيطر على أوروبا فيما بعد.
انهمار الغيث
تلى نجاح مورينيو بزوغ نجم بعض المدربين البرتغال مثل «أندريه فيلاش-بواش» الذي تمكّن مع بورتو من تحقيق لقبي الدوري والكأس والدوري الأوروبي، وتمكّن من تحقيق إنجاز كبير وهو الفوز بالدوري من دون خسارة وبثلاثة تعادلات فقط.
كما يلمع نجم «نونو إسبيريتو سانتو» منذُ عدة سنوات في الدوري الإنجليزي الممتاز، وعلى الرغم من خوض نونو العديد من التجارب مع فرق مهمه كـ«فالنسيا» الإسباني، فإن تجربته الحالية مع فريق وليفرهامبتون الإنجليزي شهدت على براعته ودخوله ضمن مصاف الكبار.
تم تعيين نونو من قبل إدارة ولفرهامبتون «الصينية» محل «بول لامبرت»، الذي احتل المركز الخامس عشر في دوري الدرجة الأولى، ونجح حارس مورينيو السابق مع بورتو بطل أوروبا 2004، في إعادة ولفرهامبتون للبريميرليج والفوز بلقب التشامبيونتشيب في موسمه الأول. ثم التأهل لبطولة الدوري الأوروبي الموسم التالي.
كما امتدت نجاحات المدربين البرتغال إلى خارج أوروبا، ولعل أبرز هذه الإنجازات هي حصد المدرب «خورخي جيسوس» لكأس الليبرتادورس مع فريق فلامنجو البرازيلي، وكان جيسوس قد قاد فلامنجو للفوز بلقب الدوري البرازيلي في الموسم الماضي (2019-2020)، قبل أن يعود لتدريب فريقه السابق بنفيكا.
وإذا ذُكر المدربون البرتغاليون خارج أوروبا فلا بد من ذكر المدرب الأشهر في تاريخ النادي الأهلي المصري مانويل جوزيه، الذي يُعد أبرز مدرب برتغالي جاء إلى مصر، حيث تولى تدريب فريق الأهلي القاهري على مدار ثلاث فترات مختلفة (2001-2002) ثم (2003-2009) وأخيرًا (2011-2012)، فقد قاد الثعلب البرتغالي الفريق المصري إلى رفع درع الدوري المحلية 6 مرات والحصول على لقب دوري أبطال أفريقيا 4 مرات.
ووصلت نجاحات المدربين البرتغال إلى ذروتها عندما نجح المدرب البرتغالي فرناندو سانتوس في تحقيق لقب كأس أمم أوروبا عام 2016 مع منتخب البرتغال، وهي أول بطولة قاريه يحصدها المنتخب البرتغالي في تاريخه، كما حصد بطولة دوري الأمم الأوروبية في نسختها الأولى عام 2019. ويسعى جاهدًا للحفاظ على لقب اليورو في بطولة أمم أوروبا 2021، ولمَّ لا يُتوَّج بكأس العالم 2022؟
على الطريق الصحيح
أدى طلب اكتشاف أسرار التدريب في البرتغال إلى قيام جامعة لشبونة بإطلاق برنامج ماجستير باللغة الإنجليزية في «تدريب كرة القدم عالي الأداء». ساعد مورينيو في تصميم المناهج الدراسية، والذي قال خلال عرض تقديمي للدورة:
إذًا المفتاح هو فهم ثقافتك، كيف ترى العالم، وكيف تفهمه؟ لأن ذلك يؤثر على نظرتنا لكرة القدم ونهجنا في التدريب؟ وكيف نُحسِّن معرفة هذه العوامل؟
بعد ذلك، يمكننا البدء في تطبيق الدروس التي تعلمناها من الآخرين، وكيف يمكن تطبيق ذلك على ثقافة كرة القدم الخاصة بنا.
البرتغاليون أدركوا ذلك، ونجحوا في الرد على هذه الأسئلة، ومن ثَمَّ أصبحوا على الطريق الصحيح، رغم ضعف الإمكانيات مقارنةً بغيرهم.