المشكلة السكانية في مصر: تاريخها وتداعياتها
يشير مفهوم المشكلة السكانية إلى اختلال التوازن بين عدد السكان من ناحية، وحجم الموارد الطبيعية والرأسمالية والمعرفة الفنية من ناحية أخرى[1]، فالسكان كما يُنظر إليهم كقوة إنتاجية ووسيلة لاستغلال الموارد، كذلك هم أيضاً قوة استهلاكية تُمثل ضغطاً على الموارد المتاحة، ومن ثَمَّ يؤدي عدم التوازن بين السكان وحجم الموارد إلى وجود ما يعرف بـ «المشكلة السكانية».
والمشكلة السكانية بالمعنى السابق لا تتمثل في زيادة السكان بالنسبة إلى حجم الموارد «اكتظاظ سكاني»، بل قد تتمثل أيضاً في زيادة الموارد الطبيعية بالنسبة إلى السكان «خفة سكانية»، كما هو الحال في دول الخليج المنتجة للنفط والتي تعاني من نقص في الأيدي العاملة وتعتمد على عنصر العمل الأجنبي[2]، وفي بعض دول أمريكا الجنوبية التي لا تفتقر إلى الموارد بقدر ما تفتقر إلى الأيدي العاملة لاستغلال هذه الموارد[3].
وتعود بوادر الاهتمام بالمشكلة السكانية في مصر إلى عدد من المفكرين والباحثين في فترة الثلاثينيات، إذ تناول «محمد عوض محمد» في كتابه «سكان هذا الكوكب» عام 1936 جزءاً من المشكلة السكانية في مصر[4]، وشهد العام التالي (1937) من صدور كتاب «محمد عوض» نشاطاً هاماً حول المشكلة السكانية وظهرت عدة أعمال في المجال السكاني، بالإضافة إلى صدور أول فتوى للشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية تُجيز استخدام وسائل تنظيم النسل[5].
وقد أثارت فتوى الشيخ جدلاً واسعاً، خصوصاً أن الفتوى قد أجازت إسقاط الماء من الرحم قبل نفخ الروح فيه لعذر (أي بعد 4 شهور من الحمل)، فبدأ الرأي العام يتساءل عن هذه الفتوى، وبدأت الصحف تستطلع آراء أساتذة الطب عن الإجهاض والمسوغات الطبية لمنع الحمل، كما عقدت الجمعية الطبية المصرية عدة محاضرات ضمت عدد من التخصصات لبحث الموضوع، وكان من أبرز المشاركين والمعارضين في اللجنة هما الشيخ عبده عيسى وحسن البنا[6].
المشكلة السكانية في الخطاب السياسي
على الرغم من قدم الاهتمام بالمشكلة السكانية، إلا أنها لم تحظَ باعتراف رسمي من الدولة إلا في أوائل الستينيات، ففيما قبل الستينيات كان عبد الناصر يرفض فكرة تنظيم الأسرة؛ ولذلك لم يتخذ أي تدابير أو سياسات تخص المشكلة السكانية، وقد كان يؤكد دوماً على محور التنمية كحل لرفع مستوى المعيشة والتغلب على مشكلة النمو السكاني[7]، ولعل غياب السياسات السكانية وعدم اعتراف الدولة بوجود المشكلة خلال تلك الفترة يعود إلى تعويل عبد الناصر على المدخل التنموي كحل للمشكلة السكانية وفلسفة الاشتراكية التي لا ترى في الزيادة السكانية مشكلة وحصرها في سوء توزيع الثروة، هذا بالإضافة إلى تأثر عبد الناصر بالوحدة السورية وعقد الآمال على الموارد والإمكانات السورية التي تسمح بتنمية واعدة تقضي على عوارض المشكلة السكانية[8].
وبعد أن انفصلت سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة عام 1961، اهتزت صورة الأمل المعلقة على الوحدة السورية، ومن ثَمَّ تغير مسار الاهتمام بالمشكلة السكانية، حيث ظهر أول اعتراف رسمي بالمشكلة السكانية في إعلان «ميثاق العمل الوطني» عام 1962، أعقبه إنشاء المجلس الأعلى لتنظيم الأسرة عام 1965. وتبنت الدولة خلال تلك الفترة مشروعات تنظيم الأسرة، بعد اعتراض الأزهر على مصطلح «تحديد النسل»[9].
وكانت التحولات التي حدثت في السبعينيات، والانفتاح الاقتصادي والتعددية الحزبية، تبشر برخاء اقتصادي لم يكن ممكناً معه الحديث عن الزيادة السكانية وتأثيرها على الجوانب الاقتصادي[10]، وهو ما انعكس على موقف الرئيس السادات من المشكلة السكانية، إذ تجاهلت الدولة في تلك الفترة التصدي للنمو السكاني، وسعت في حل المشكلة من خلال التعويل على محور التنمية وتشييد المدن الجديدة وتخفيف الضغط عن القاهرة، وكان الرئيس السادات ينوي جعل «مدينة السادات» عاصمة إدارية جديدة[11].
ورغم خلو خطاب السادات من التعرض لمشكلة التزايد السكاني، إلا اهتمام الحكومة والخطط الخمسية بمشكلة النمو السكاني، كان تعبيراً ضمنياً عن الاعتراف بوجود المشكلة[12]. وبتولي الرئيس حسني مبارك رئاسة الجمهورية، عاد الاهتمام مجدداً بمدخل تنظيم الأسرة كحل للمشكلة السكانية، حيث لم تخلُ معظم خطبه من إشارة إلى قضية السكان باعتبارها القضية الأم والتحدي الأكبر لمسيرة العمل الوطني.
تداعيات المشكلة السكانية
للمشكلة السكانية تداعياتها وعلاقتها التبادلية مع عدد من المشكلات، كالفقر والبطالة وتدني مستوى الخدمات، فضلاً عن انعكاساتها السلبية على التجارة الخارجية وموازنة الدولة ومعدلات الادخار والاستثمار.
فقد أدت الزيادة السكانية في مصر إلى زيادة وارداتها من القمح[13]، فقد بلغت ورادات القمح في عام 2002 نحو 3 مليارات جنيه، ووصلت إلى أكثر من 12.2 مليار عام 2010، بمعدل زيادة 75.4%، وهو ما يمثل 8.29% من نسبة العجز في الميزان التجاري خلال نفس الفترة[14]، هذا رغم اتساع مساحة الأراضي المنزرعة بالقمح وزيادة حصيلة القمح المنتج، حيث بلغت الأراضي المنزرعة بالقمح في عام 2002 نحو 2450 ألف فدان، ووصلت إلى 3066 ألف فدان في عام 2010، بمتوسط زيادة في الإنتاج 69 ألف طن سنوياً خلال نفس الفترة[15] وهي زيادة ضئيلة مقارنة بزيادة السكان.
وقد بلغ عدد الطلبة في مراحل التعليم قبل الجامعي نحو 8.9 مليون طالب عام 2002/2003، ووصل عددهم في عام 2010/2011 إلى أكثر من 16.8 مليون طالب، بمعدل زيادة 47.18%، مما تطلب زيادة عدد المدارس لاستيعاب هذه الزيادة من 32.9 ألف مدرسة إلى 40.3 ألف مدرسة خلال نفس الفترة، الأمر الذي انعكس على حجم الإنفاق على التعليم قبل الجامعي، حيث بلغ نحو 14.6 مليار جنيه عام 2002/2003، ووصل إلى 40.9 مليار عام 2010/2011، بمعدل زيادة 64.28%.
وتؤدي الزيادة السكانية إلى ارتفاع معدلات الإعالة، ومن ثَمَّ انخفاض معدل الادخار والاستثمار، وقد بلغ معدل الادخار في مصر في عام 2015 إلى 5.9% ولم يزد خلال الفترة 2010/2014 عن 11.3%، وهي معدلات ضئيلة نسبياً عند مقارنتها بدول أخرى مثل البرازيل الذي يصل بها معدل الادخار إلى 30%[16].
المشكلة السكانية وعلاقتها بتطور فنون الإنتاج
يعتمد أي نظام اقتصادي على أربعة عوامل يتم التأليف بينهم من أجل خلق ما يحتاجه المجتمع من منتجات، وهي: العمل، والموارد الطبيعية، ورأس المال، والتنظيم. وطوال الشطر الأكبر من تاريخ البشرية كان عنصر العمل يؤدي دوراً بارزاً في خلق السلع والخدمات التي يحتاجها المجتمع، وقد كرَّس الاعتماد المتزايد طوال تلك الفترة على عنصر العمل في عملية الإنتاج -تشكل قيم تحبذ الإنجاب والكثرة العددية، خاصة في ظل ظروف تكفلت فيها الحروب والفقر وانتشار الأوبئة بخفض معدلات المواليد، ومن ثَمَّ في انخفاض عرض قوة العمل.
ومع تطور التكنولوجيا وتطور العلوم تزايد اعتماد الإنسان على التقنيات الحديثة، فانخفضت معدلات الوفيات جرَّاء التقدم الهائل الذي حدث في أساليب الرعاية الصحية، وحدث تحولاً جذرياً في فنون الإنتاج نتيجة التطور التقني، وحلت الآلات محل جهود الإنسان[17]، وصار النظام الاقتصادي يعتمد في العملية الإنتاجية على كثافة عنصر رأس المال مقابل إنقاص عنصر العمل.
ونتج عن التحول السريع في البلدان المتخلفة من نمط إنتاجي قديم (يعتمد بشكل رئيسي على عنصر العمل في تلبية احتياجاته) إلى نمط حديث (يعتمد على التقنيات والآلات الحديثة)- إلى تعايش القيم القديمة المشجعة للكثرة العددية وزيادة الإنجاب مع النمط الإنتاجي الجديد الذي لا يستوعب تلك الزيادة الهائلة التي كان يستوعبها النمط القديم.
وقد أدى عدم توازن الانتقال من النمط القديم إلى النمط الحديث داخل أقاليم الدولة الواحدة إلى استمرار تعايش النمطين بها، وهو ما يتجلى بوضوح في وصول معدلات الإنجاب إلى أعلى معدلاتها في المناطق الريفية، التي لا تزال ترزح تحت وطأة النمط القديم، وانخفاضها بشكل ملحوظ في الحضر والأماكن التي استقر بها النمط الحديث.
ولا شك أن استمرار الشروط المنتجة لمعدلات الإنجاب المرتفعة في الريف مع تدني مستوى الخدمات وانخفاض مستوى المعيشة به مقارنة بالحضر، قد دفع سكان الريف للهجرة إلى المناطق الحضرية بحثاً عن نصيب أوفر حظاً وعيشة أكثر رفاهاً بها، الأمر الذي نتج عنه تكدس المدن الكبرى بالسكان والضغط على الخدمات المتاحة وتفاقم البطالة وأزمة السكن والمواصلات وانخفاض مستوى المعيشة والرعاية الصحية بها، فضلاً عن تأثر الإنتاج الزراعي بتلك الهجرة وتكبد الدولة تكاليف وأعباء مواجهة تداعيات ذلك، وهي كلها مظاهر تُكسِب المشكلة السكانية معناها ومضمونها.
- سامي السيد فتحي، مبادئ الاقتصاد، م.ن، د.ت، ص 260.
- رمزي زكي، المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، الكويت، 1984م، ص 218.
- سامي السيد فتحي، مبادئ الاقتصاد، مرجع سابق، ص 266.
- المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، الفكر السكاني في مصر تاريخه وتطوره، القاهرة، 1990م، ص 8.
- المرجع السابق، ص 9.
- المرجع السابق، نفس الصفحة.
- تقييم السياسات السكانية، ص 23.
- نفس المرجع، نفس الصفحة.
- مصطفى جاويش، قضية السكان في مصر منحة أم محنة؟، المعهد المصري للدراسات، القاهرة، 2017، ص 17.
- المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، تقويم السياسة السكانية في مصر، م1، القاهرة، 1996، ص 47.
- مصطفى جاويش، قضية السكان في مصر محنة أم منحة؟، مرجع سابق، ص 18.
- المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، تقويم السياسة السكانية في مصر، مرجع سابق، ص 81.
- عبد الوهاب محمد عبد الوهاب، الجوانب التنظيمية لتجارة السلع الزراعية في ظل تحرير التجارة الدولية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2013، ص 280.
- الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، مصر في أرقام، أعداد متفرقة.
- الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، الكتاب الإحصائي السنوي، أعداد متفرقة.
- عثمان أحمد عثمان، اقتصاديات مصر، دار النهضة العربية، القاهرة، 2018، ص 113.
- يسري محمد أبو العلا، علم الاقتصاد، دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت، ص 106.