جاء العرض العسكري الذي نظمه الحشد الشعبي في العراق، بمناسبة سبع سنوات على تأسيسه، بمثابة محاولة من الميليشيات المرتبطة بإيران لاستعراض قوتها في مواجهة حكومة بغداد التي يقودها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، إذ ظهرت في العرض أسلحة لم يتضمنها استعراض القوات المسلحة قبل بضعة أشهر.

تم تنظيم العرض الذي شارك فيه أكثر من 20 ألف مقاتل، بحسب وسائل إعلام الحشد، بعد تأجيله مرات عديدة نتيجة خلافات حول طبيعته وأسلحته، إذ شكلت مشاركة الطائرات المسيرة نقطة خلافية كبيرة، ومع ذلك تم استخدامها في حضور رئيس الوزراء الذي حضر بصفته القائد العام للقوات المسلحة، وحاولت هيئة الحشد الشعبي استدراك الموقف عبر إصدار بيان رسمي ينفي وجود تلك الطائرات معتبرة أن «زج مثل هذه المعلومات المضللة هدفه خلط الأوراق وضرب وحدة صف القوات المسلحة».

وفي كلمة له في المناسبة، وجّه رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، كلمة للحشد بصيغة تلقينية ذكّرهم فيها بأنهم يعملون تحت راية العراق، وأن من الواجب عليهم حماية أرضه وشعبه.

دولة داخل الدولة

وتضم هيئة الحشد الشعبي فصائل مسلحة معظمها شيعية تُعد رسميًا ضمن القوات المسلحة العراقية ويتلقى عناصرها رواتبهم من بغداد، لكنهم يتلقون التوجيهات من إيران، ويقومون بعمليات عسكرية خارج وداخل البلاد دون الرجوع إلى الحكومة المركزية، بل ودون علمها أيضًا.

يحاول رئيس الوزراء المؤقت تحجيم نفوذ تلك الجماعات، لكن محاولاته تنتهي دون جدوى بسبب قوة الحشد العسكرية وعلاقاته الوثيقة مع أجهزة الدولة ودعمه من جانب أحزاب وكتل برلمانية مؤثرة. الحشد دولة داخل الدولة على غرار الحرس الثوري في إيران، فهو يمثل قوة موازية للجيش، ويملك معسكرات وسجونًا مستقلة، ولا يحد مسرح عمله حدودًا واضحة، فهو يقاتل في سوريا منذ سنوات لدعم نظام الأسد حليف إيران.

تشكّل هذه القوات رأس حربة النفوذ الإيراني في العراق، فهي أداة طهران للرد على واشنطن عندما تفرض عليها عقوبات أو تتخذ ضدها أي إجراء، وتصبح القواعد العسكرية والبعثات الدبلوماسية الأمريكية في العراق أهدافًا لهجمات الحشد مما يضع الحكومة في مواقف لا تحسد عليها حين تصبح طرفًا في مواجهة لم تُستشر في أمرها. هذا ما وقع مؤخرًا حين قصفت الطائرات الأمريكية مواقع للميليشيات في سوريا والعراق وأوقعت عددًا من القتلى والجرحى في ثاني هجوم من نوعه يأمر به الرئيس الأمريكي جو بايدن ضد الميليشيات المدعومة من إيران منذ توليه السلطة قبل خمسة أشهر. القصف الأمريكي جاء ردًا على هجمات الطائرات بدون طيار من قبل الميليشيات ضد الأفراد والمنشآت الأمريكية في العراق.

وقع سيناريو شبيه بذلك في أواخر 2019 حين استهدفت الميليشيات قواعد تضم أمريكيين، وردت الولايات المتحدة بقصف الحشد، فتمت مهاجمة السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء مما استدعى الرد باغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ونائب قائد الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في 3 يناير/كانون الثاني 2020.

أما الحكومة العراقية فيقتصر دورها في هذه المواقف على إصدار بيانات إدانة لكل من هجمات الحشد على القواعد العسكرية وإدانة الغارات الأمريكية.

وفي الفترة الأخيرة، كانت الميليشيات على وشك الدخول في صدام مسلح مع الجيش على خلفية اعتقال قاسم مصلح، قائد عمليات ميليشيات الحشد في محافظة الأنبار، بموجب قانون مكافحة الإرهاب، لاتهامه بالتورط في قتل المتظاهرين الرافضين للتدخل الإيراني، بعد يوم واحد من احتجاجات غاضبة في العاصمة ومدن الجنوب لمطالبة الحكومة بالكشف عن قتلة المحتجين. لكن المنطقة الخضراء في بغداد التي تضم السفارات ومقرات الحكومة شهدت تدفق مسلحين مجهولين سيطروا على أحد مداخل المنطقة ومنعوا الناس من دخولها، واستعرضوا أسلحتهم لبعض الوقت في رسالة تهديد واضحة لرئيس الوزراء، وتدخل زعماء شيعة لدى الحكومة حتى تم إطلاق سراح مصلح بدعوى «عدم كفاية الأدلة» لإدانته.

هذا هو نفس ما حدث في يونيو/حزيران 2020 عندما داهمت قوات الأمن مقرًا لكتائب حزب الله العراقي، واعتقلت عددًا من أعضائه لاتهامهم باستهداف المنطقة الخضراء ومطار بغداد الدولي، ليتم بعدها إطلاق سراحهم، وانتشرت صورهم وهم يدوسون صور الكاظمي ويحرقونها مع العلم الإسرائيلي. ووقع موقف مشابه في ديسمبر/كانون الأول 2020 بسبب القبض على عنصر من عصائب أهل الحق، وحينها توعدت كتائب حزب الله العراقي رئيسَ الوزراء بـ«قطع أذنيه» إن لم يتوقف عن استهداف «المقاومة».

غالبًا، ينفي الحشد مسؤوليته عن أي أعمال عنف، ويستعين بلافتات وهمية للتستر وراءها تفاديًا للمساءلة، فبعد أي هجمات على القواعد العسكرية الأجنبية أو الجهات السياسية المعارضة لإيران، تخرج بيانات منسوبة لميليشيا لم يُسمع عنها من قبل على غرار «ثأر الله» أو «ربع الله» أو «جبهة أبو جداحة» لتعلن مسؤوليتها.

جيش من «الفضائيين»

تتحصل فصائل الحشد على مبالغ طائلة من الخزينة الحكومية، ويُتهم قادتها بأنهم يتسلمون رواتب لعناصر لا وجود لهم على أرض الواقع أو من يُطلق عليهم في العراق «الفضائيين»، ويقال إن المسجلين رسميًا لدى الدولة أغلبهم من هؤلاء «الفضائيين»، لكن لم يُفتح تحقيق رسمي حتى اليوم في هذه الفضيحة رغم طلب الحكومة رسميًا، بل مرّر البرلمان العراقي، في نهاية مارس/آذار الماضي، بندًا ضمن موازنة العام 2021، يُلزم الحكومة بقبول 30 ألف عنصر جديد ضمن صفوف هذه الميليشيات ليصل تعدادها بعد تلك الزيادة إلى أكثر من 160 ألف عنصر، براتب يبلغ مليونًا و100 ألف دينار أي ما يقارب 800 دولار لكل فرد منهم شهريًا.

تشكلت قوات الحشد الشعبي عام 2014، واستمدت شرعيتها من دعوة المرجع الشيعي العراقي علي السيستاني الذي يحمل لقب «آية الله العظمى»، للمواطنين بالتطوع لقتال تنظيم داعش الذي كان قد بسط سيطرته على ثلث البلاد، فيما عُرف بفتوى «الجهاد الكفائي».

وشكلت هذه الظروف فرصة غير مسبوقة لطهران لتقنين ومأسسة تدخلاتها العسكرية في العراق. فمنذ الغزو الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣، استطاع النظام الإيراني السيطرة على العراق والتغلغل في مؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية وتشكيل ما عُرف بـ«فرق الموت» التي ارتكبت مجازر طائفية بلغت ذروتها في عام 2006. لكن بتشكيل قوات الحشد الشعبي، أمكن إعطاء صفة رسمية لهذه الجماعات وتمويلها بشكل قانوني من الموازنة العامة للعراق.

شاركت تلك القوات في القضاء على تنظيم الدولة (داعش) وتحرير المدن السنية، لكن ذلك كان يعني تدميرها وارتكاب مجازر مروعة بحق السكان في غمرة الحرب. وتعرض المحظوظون من سكان المدن السنية للتهجير ضمن مخطط للتغيير الديموغرافي جعل أعدادًا هائلة من الطائفة السنية مشردين في المخيمات يعيشون لاجئين داخل وطنهم بعد تعرض آلاف البيوت للهدم بحجة محاربة داعش. ولم يسمح لآلاف العائلات بالعودة إلى مدنهم وقراهم عقب استعادتها مثل منطقة جرف الصخر التي اتخذتها الميليشيات مقرًا لها بحق الفتح بعد طرد العشائر المقيمة بها.

وبالرغم من تعهد الحكومة منذ عهد رئيس الوزراء حيدر العبادي منذ أكثر من ست سنوات بمحاسبة المتورطين في المذابح والسلب والنهب، لكن هذا الوعد لم يجد سبيله للتنفيذ حتى اليوم رغم توثيق كثير من تلك الانتهاكات التي وصلت إلى حد حرق الناس أحياء والتمثيل بالجثث، إلا أن ما حدث هو ضم هذه الفصائل رسميًا للقوات الحكومية.

الفصائل الولائية

وتضم هيئة الحشد الشعبي 83 فصيلاً، بينها أكثر من 40 فصيلاً «ولائيًا» أي ولاؤهم لطهران وتابعون لفيلق القدس، الذراع الخارجي للحرس الثوري الإيراني، مثل «عصائب أهل الحق»، و«سيد الشهداء» و«كتائب حزب الله»، و«النجباء»، وغيرها.

كما تضم الهيئة ما يعرف بـ «حشد العتبات» أو «حشد المرجعية»، وهي أربعة فصائل: فرقة «الإمام علي القتالية»، وفرقة «العباس القتالية»، ولواء «علي الأكبر»، ولواء «أنصار المرجعية». ويتميز حشد المرجعية عن الفصائل الولائية بأنه ينسق مع الحكومة ولا يتبع فيلق القدس، كما أن نطاق عمله يتركز على المدن المقدسة لدى الشيعة ككربلاء والنجف، بعكس الآخرين الذين يعملون داخل المناطق العربية السنية.

وقد انسحبت فصائل العتبات من هيئة الحشد الشعبي مما أضر بالشرعية الدينية للجماعات الولائية، وهو ما حاولت الأخيرة تلافيه وإرجاع تلك الفصائل، لكن الهوة بين الطرفين زادت بمرور الوقت حتى أن حشد المرجعية لم يشارك في العرض العسكري الأخير نكاية بالميليشيات التي تحاول فرض نفسها كسلطة فوق السلطة.

ولا يبدو في الأفق من سبيل واضح أمام الحكومة لعلاج هذه الحالة المستعصية، فمن جهة سيكون خيار تسريح قوات الحشد الشعبي محفوفًا بالمخاطر حيث ستتحول إلى العمل السري وما يترتب على ذلك من تبعات، ومن جهة أخرى ستكون محاولة إخضاعها للقانون والمحاسبة إيذانًا باشتعال مواجهة عسكرية واسعة لن تكون إيران بمعزل عنها بأي شكل من الأشكال، كما أن بقاء الوضع الحالي أمر لا يُحتمل استمراره فهو يهدد بانهيار الدولة ذاتها.