فيلم «Poor Things»: حرية بيلا تهزم قسوة العالم
ما الذي يمكن أن تفعله المرأة إذا واتتها الفرصة لتبدأ حياتها من جديد؟ وهل يمكن أن تتحرر من جميع القيود العقلية والجسمانية وتعيد بناء عالمها كما يحلو لها دون النظر لأية أحكام مسبقة أو اعتبارات اجتماعية تُمزق أوصالها؟
يتجسَّد حلم الحرية في شكل امرأة جميلة تجمع بين العفوية والبراءة والذكاء والفطنة والقوة المولودة من رحم الموت، تثبت بيلا باكستر أن الإنسان قادر على التطور للأفضل وتحدي قدراته. في ملحمة من الكوميديا السوداء توَّجت أحدث أعمال المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس Poor Things أو كائنات مسكينة بأسد فينيسيا الذهبي في الدورة الـ 80 لأحد أقدم مهرجانات السينما في العالم.
تدفع حياة بيلا الأولى – المليئة بالقهر والألم – بها إلى الانتحار، وفي رحمها جنين لم يرَ النور بعد، لكن ميل عالم تشريح وجراح مجنون لتحدي القدرات الإلهية يمنحها فرصة أخرى مع الحياة بشخصية مختلفة لا ترى للأفق حدودًا، تصحبنا معها في رحلة لاستكشاف طبائع البشر وحقيقة العالم بالتوازي مع اكتشافها لقدراتها العقلية والنفسية والجسمانية.
رواية تتجاوز حدود الزمن
استغل لانثيموس رواية الأسكتلندي ألسدير جراي ذات الاسم نفسه «Poor Things»، وتدور أحداثها في لندن خلال العصر الفيكتوري، لطرح قضايا معاصرة عن تحرر المرأة والعلاقة بين الرجل والمرأة، والتي يمكن القول إنها أصبحت تقريبًا قضية كل العصور، فهو صراع أبدي لا ينتهي، مهما تغير الزمن وتظاهر العالم بالتحضر، تظل هناك بعض الأفكار المتأخرة، وقيود اجتماعية يتعلق بها البعض للحد من قدرات المرأة ووضعها في إطار يشعرهم بالأمان.
ظن الجراح الغامض جودوين باكستر (وليام ديفو) أن بيلا (إيما ستون) التي يعتبرها أعظم تجاربه العلمية ستظل حبيسة جدران العالم الذي صنعه لها في بيت العجائب الكبير الكائن خارج حدود لندن مدينة الضباب، ولتأكيد ذلك يقرر تزويجها من مساعده الأمين ماكس مكاندلز (رامي يوسف) وتحرير عقد قانوني يضمن سجنها الأبدي.
براءة بيلا ووحشية مسخ فرانكنشتاين
كان فيكتور فرانكنشتاين في رواية الإنجليزية ماري شيلي يخشى على البشر من المسخ الذي صنعه من أعضاء الجثث، بينما يخشى باكستر على براءة بيلا من قسوة العالم ووحشية البشر التي عانى منها طوال حياته، فهم يعتبروه شخصا غريب الأطوار، ليس فقط بسبب أفكاره الخارجة عن المألوف وإنما أيضًا وجهه المشوه المكون من قطع من الجلد تم تجميعها بتنسيق عجيب، وجسده المعاد بناؤه بفعل تجارب والده العلمية الغريبة.
محاولات باكستر للسيطرة على بيلا لا يحكمها عقل العالِم الحريص على تجربته الثمينة فقط، ولكن تدخلت فيها المشاعر التي تتسبب في تغيير كل شيء، فلم يستطع الوقوف في وجه تطورها وسعيها للمغامرة والاستكشاف، وأطلق لها العِنان رغم الخوف عليها، عندما أدرك في لحظة أن تحفته الفنية تفوقت عليه، كما أبهرت إليزا دوليتل أستاذها هنري هيجنز وغيَّرت فلسفته في الحياة في “بيجماليون” جورج برنارد شو.
منحت هذه التجربة السريالية بيلا الفرصة لتعيش الحياة بجسد امرأة ثلاثينية، ولكن بعقل طفلة بريئة ما زالت في مرحلة النمو، ومنحنا لانثيموس ببصمته السينمائية الفرصة لتتبع مراحل هذا النمو حتى مرحلة النضج التدريجي، فنرى العالم من وجهة نظرها في البداية بالأبيض والأسود داخل البيت الكبير، حصن الأمان الذي تتجول فيه بخطوات قدم مرتبكة وأذرع تتطاير مع الرياح، فهي ما زالت تتعلم طرق المشي والنطق وتناول الطعام، ويرافقها حيواناتها الأليفة غير العادية نتاج تجارب باكستر الأخرى، معزة برأس أوزة ودجاجة برأس خنزير.
عالم سحري في رحلة خيالية على طريق النضج
وصول بيلا لمرحلة المراهقة زاد من شغفها للتعرف على العالم الخارجي وخوض المغامرة، وهنا تتغير الصورة إلى لوحة خيالية ساحرة مليئة بالألوان الزاهية رسمها لانثيموس ببراعة، وصنع لبيلا عالمها الخاص، ليس فقط داخل المنزل، وإنما أيضًا على مدى رحلتها، التي تزور فيها مدنًا وعوالم مختلفة من لندن إلى لشبونة ثم الإسكندرية وأخيرًا باريس، ففي كل مدينة منها تتسع مداركها وتتبدل حالتها، إلى أن تصل لمرحلة النضج الكامل وتتحول إلى شخصية ذكية مبهرة.
تمرد بيلا على القيود التي يحاول الرجال في حياتها فرضها عليها، لا يساهم في تطورها وبناء شخصيتها فقط، بقدر ما يكون سببًا في تبدل أحوالهم جميعًا بداية من باكستر الجراح متبلد المشاعر الذي يتحول إلى أب حنون، ووقوع ماكس الطالب المجتهد الساذج في الحب وتقبله لكل تبعاته بنبل ورقي وتسامح، على العكس من موقف دنكن ويديربيرن (مارك رافالو) المحامي المنحل الذي اعتبر هوسه ببيلا سبب دماره ويسعى للانتقام منها.
استغل دنكن زير النساء اكتشاف بيلا المراهقة لهرمون السعادة المرتبط بالرعشة الجنسية، واعتبرها فرصته للفوز بعلاقة شبقة مع امرأة جميلة متعطشة للجنس، لكن تعامله معها على أنها رهينة لرغباته دفعها بعيدًا، فهو غير قادر على التطور ولم يعِ أنه جزء من رحلتها في استكشاف الحياة والبشر ليس أكثر، وانتهى دوره بمجرد إدراكها لمدى ضآلة فكره وحسه الإنساني، واستعاضت عنه بشخصيات مثقفة فتحت أعينها على قسوة العالم المخفية تحت روعة الألوان وزخرف الحياة المرفهة، ومن هنا تبدأ مرحلة مختلفة من السعي للمعرفة تصل بها إلى النضج العقلي والجسدي.
التمرد على الأحكام المجتمعية بحثًا عن الحرية
تختار بيلا بيت الدعارة الباريسي والعلاقات الجنسية مع الأغراب كوسيلة للغوص في سلوكيات البشر والتعرف على الاختلافات بينهم، وكذلك جني المال الذي يساعدها على دراسة الطب والفلسفة بالجامعة، في تحدٍّ ورفض واضح لما يسمى بأعراف المجتمع المهذب وتصنيفات المجتمع البريطاني الراقي الذي من المفترض أنها تنتمي إليه.
واستطاع لانثيموس استعراض هذه المرحلة من رحلة بيلا في إطار يتأرجح بين الكوميديا الساخرة والفلسفة العميقة للحياة طغت على الإفراط في مشاهد العري والجنس التي وصفها البعض بأنها الأكثر قدرًا من أية مشاهد ظهرت في فيلم سينمائي سابق، إلا أنها تمثل ضرورة في تطور شخصية بيلا وتغير نظرتها للعالم، لذا تكون ألوان الصورة في هذه المرحلة أكثر واقعية وتميل إلى الغوامق ودرجات البني والأسود والرمادي.
ساهم العديد من العناصر السينمائية في رسم الصورة المدهشة لعالم بيلا الأسطوري الخيالي، فبالإضافة إلى الألوان لعب الديكور دورًا كبيرًا في تشكيل رحلتها، وتطلَّب الأمر بناء ديكورات كاملة داخل استوديوهات لندن لتصوير مشاهد كل مدينة في محطات رحلتها.
كما لعبت الملابس دورًا كبيرًا في تتبع مراحل تطور شخصيتها تدريجيًّا، فهي في البداية أقرب لملابس طفلة تحبو، ثوب النوم الأبيض الفضفاض القصير مع سروال غريب، ثم ترتدي ملابس نسائية أكثر خلال مغامرتها مع دنكن حول العالم، لكنها لا تستخدم أبدًا الكورسيه أو المشد الذي اعتادت نساء العصر الفيكتوري على ارتدائه، وتبدو ملابسها أكثر تحررًا ولا تخجل من جسدها أو تسعى لإخفائه، وقد تتخلى أحيانًا عن قطعة ملابس أو أخرى دون أدنى اهتمام بآراء الآخرين، وتتحرر أكثر من طبقات الملابس في بيت الدعارة، بالتوازي مع زيارات الجامعة اليومية التي تلتزم فيها بزي رسمي أسود، إلى أن تعود في النهاية إلى منزل باكستر بملابس امرأة أكثر نضجًا ورقيًا.
تفقد الكثير من الروايات جانبًا كبيرًا من الخيال الذي يوفره النص الأدبي، عندما تتحول إلى رؤية بصرية في عمل سينمائي أو تليفزيوني، لكن يورجوس لانثيموس بمساعدة شريكه كاتب السيناريو توني ماكنمارا تمكنا من ابتكار عالم خلاب من الواقعية السحرية، مزجا فيه بين سوداوية الواقع والخيال الأسطوري ومتعة السخرية من الحياة، وتجاوزا الجوانب السياسية التي تطرقت إليها الرواية، للتركيز على الجانب الإنساني وشخصية بيلا الرائعة، والتي ربما لا تشبه أية شخصية في فيلم أو رواية أخرى.
إيما ستون ومارك رافالو نحو الصفوف الأولى في ترشيحات الأوسكار
تمكنت إيما ستون من تجسيد شخصية بيلا على الشاشة ببراعة وملكت تفاصيل الشخصية وتطوراتها المختلفة في واحد من أفضل أدوارها السينمائية حتى الآن، والذي ربما يصل بها إلى منصة الأوسكار هذا العام، وساعدها في تحقيق هذه الحالة من التشبع الكامل بالشخصية متابعتها لمراحل تطوير الفيلم منذ البداية ومشاركتها في الإنتاج أيضًا، حيث عرض عليها لانثيموس فكرة المشروع لأول مرة أثناء تصوير فيلم “The Favourite” الذي شاركت في بطولته عام 2018، وبدأ العمل على كتابة السيناريو مع مكنمارا بعد انتهاء التصوير، بالإضافة إلى أنه العمل الرابع لإيما مع لانثيموس، وبالتالي أصبح بينهما درجة عالية من التفاهم ظهر تأثيرها في الناتج النهائي للفيلم.
كما يضع دنكن ويديربيرن مارك رافالو في مصاف المتنافسين على الجوائز، فهذا المحامي الماكر الفاسد أبرز قدرات رافالو التمثيلية وأظهره بشكل مختلف تمامًا، تشعر معه أنك ترى ممثلًا آخر غير الذي ظهر في أفلام السوبر هيروز مع مارفل وسلسلة «Avengers»، فهو يقدم نموذجًا مغايرًا لشرير الفيلم، ينتقل فيه من كونه الأُلْعُبَان الواثق من نفسه إلى شخص مهزوم مهووس يتعلق بامرأة تحتقره.
لم يبتعد لانثيموس كثيرًا في «Poor Things» عن الكوميديا السوداء المسيطرة على أغلب أفلامه السابقة، مثل «The Lobster»، أو «The Favourite» لكن جرعة المتعة والإبهار البصري هنا فاقت كل ما سبق، وكأنه وصل بهذا الفيلم إلى مرحلة النضج السينمائي التي كللت أعماله وأكدت بصمته الإخراجية المتميزة بعناصرها المختلفة، من شخصيات غريبة الأطوار وتصرفات طفولية ورقصات عجيبة ومواقف عبثية وحركات عنف مفاجئة وصور ولقطات تشبه لوحات سريالية خيالية، ولقطات عين السمكة الكاريكاتيرية وكذلك لقطات ثقب الباب التي يشعر معها المشاهد أنه يتلصص على الشخصيات، والأكيد هو أن حصوله على الأسد الذهبي لمهرجان فينيسيا لن يكون المحطة الأخيرة لهذا الفيلم، وإنما هي محطة أولى للعديد والعديد من الجوائز الأخرى.