مشهد صباحي

«معلش يا دكتور اصبر عليا شوية» بادرت السيدة السبعينية الطبيب الشاب الجالس على مكتبه ويبدو عليه بوضوح مزيج من الإرهاق الشديد ونفاذ الصبر الأشد. كانت عيادة الباطنة الصباحية بهذا المشفى الحكومي في تلك الدولة النامية مزدحمة كعادتها حتى تكاد لا تجد موضعاً لقدم في قاعة الانتظار بالخارج، أو حتى سنتيمتراً مكعباً من الهواء النقي لتتنفسه.

وضعت السيدة على المكتب كيساً ضخما -لا نبالغ إن قلنا شوالاً!- وبدأت في نثر محتوياته أمام الطبيب. فوجئ الأخير بسيل من الأشرطة الدوائية الفارغة والممتلئة وشبه الممتلئة، وبعض أمبولات الحقن والسرنجات، وزجاجات من أدوية الشرب، مع الكثير من الروشتات ورسومات القلب، وتقارير موجات صوتية على القلب «ايكو» وعلى البطن والحوض. وأشعات عادية ومقطعية على أماكن مختلفة من الجسم، وثمرات من الطماطم !، وأشياء أخرى لا يعرف كنهها .. حتى أنه لم يكن ليتعجّب كثيراً لو خرج من الكيس حيوان كنجارو، أو صاروخ مضاد للدبابات، أو حتى ابن أخته الشقي !.

«خير يا ست الكل .. أنت قلبتيلي الدنيا خالص. قوليلي بس بتشتكي من إيه ؟!» … قالها بلهجة حاول فيها استجماع أشد درجات صبره.

فوجئ بالسيدة تبكي في حرارة وهي تقول في مرارة واندفاع «أنا تعبت أوي يا دكتور، عندي القلب والسكر والضغط والكبد والتهاب أعصاب، وتعبت من اللفّ على الدكاترة، وكل واحد يشطب على علاج اللي قبله، ويكتبلي غيره. بقيت باخد ولا 20 حباية في اليوم، وما بقيتش عارفة آخد إيه، وما أخدش إيه. وكل شهر بيجروا بيا على المستشفى، مرة غيبوبة سكر، مرة ذبحة في القلب، مرة الضغط في السما، والدكاترة في الطوارئ كل مرة يقولوا إني بلخبط في العلاج. وأنا مش متعلمة، وبنتي الوحيدة طلعان عينها معايا، بس هي ما كملتش تعليمها هي كمان، وبتجري هي وجوزها على 4 عيال و ..»

قاطعها الطبيب في لهجة يحاول مزج برودها ببعض التأثر والحنان «معلش يا حاجة خلاص خلاص، ألف سلامة عليك. ما أنتِ غلطانة برضه يا أمي، مش بكترة الدكاترة هتبقي كويسة. أنتِ معاكي روشتات نص الدكاترة في بلدنا !. أنت تابعي مع دكتور ولا اتنين تكوني واثقة فيهم، أو تابعي معانا. عامة .. هراجعلك العلاج، وألففك على باقي العيادات يطمنوا عليكِ. بس أبوس إيدك يا حاجة صحصحي معايا عايز نخلص بسرعة لإن الدنيا موت بره»

ردت في استسلام وهي تحاول كفكفة دموعها «حاضر يابني، إلهي يخليك ويحفظك لشبابك».


تعدد الأدوية Polypharmacy

هناك اختلاف في تعريف محدد للـ polypharmacy، لكن تنص أشهر التعاريف على أنه الاضطرار لإعطاء المريض 4 أدوية ضرورية فأكثر

يعد الـ polypharmacy من أكثر القضايا المؤرقة للأطباء حول العالم. وكالعادة – في كل شيءٍ تقريباً – يحظى الأمر في البلاد المتقدمة باهتمام أقصى مما لدينا بكثير. ويتم التركيز على التوعية به لكل العاملين والمتعاملين تحت المظلة الطبية.

هناك اختلاف في تعريف محدد للـ polypharmacy، لكن تنص أشهر التعاريف على أنه الاضطرار لإعطاء المريض 4 أدوية ضرورية فأكثر…. طبقاً لهذا التعريف، فإن المشكلة ستضم ملايين المرضى، خاصة من كبار السن المصابين بأمراض مزمنة ( كالسكر، والضغط، والتليف الكبدي، وقصور الشرايين التاجية .. إلخ).

وهي مشكلة يصادفها كل طبيب يومياً عشرات المرات. ولا تكاد الدائرة المحيطة بكل منا تخلو من مريض يشكو من كثرة أدويته مادياً وطبياً ونفسياً.


مشهد مسائي

هرع طبيب الاستقبال وطاقم التمريض نحو «تروللي» الإسعاف الذي دخل للتو إلى غرفة الكشف في هذا المشفى المشهور شديد التجهيز والذي يتبع إحدى الهيئات الحكومية الغنية. على السرير سيدة تبدو في أواخر الخمسين من عمرها، في حالة تشبه الغيبوبة، و يبدو عليها الشحوب الشديد، وعلى فتحتي أنفها أثر بسيط لدم متجلط..

حاولت ابنتها الملتاعة لململة شتات نفسها لتشرح للطبيب «قعدت أخبط على نينة كتير ما فتحتش. قلقت وفتحت بالمفتاح اللي معايا، لقيتها على أرض الصالون نفس المنظر ده وحواليها بركة دم، وما بتردش عليا، فاتصلت بالإسعاف على طول ….»

«النبض 122 … والضغط 70/40 …. والسكر 345 .. والهيموجلوبين العاجل 4.5 يا دكتور » قالتها الممرضة بلهجة شبه آلية.

«معلش بسرعة التاريخ المرضي للحاجة» وجه الطبيب كلامه لابنتها، بينما أمر التمريض ببدء محاليل وريدية عاجلة، وأخذ فصيلة دم الحالة، واستكمال كافة التحاليل العاجلة، وإبلاغ طاقم العناية لتحضير سرير لاستقبال حالة أنيميا شديدة للبحث.

«ماما عندها السكر والضغط من زمان، وعندها قصور في شريان القلب ، وكان عندها عيب خلقي في صمام القلب، ومركبة صمام معدني من أكتر من 15 سنة، ومن ساعتها ماشية على دوا سيولة عشان الصمام ما يتسدش. وكل شوية الدكتور يقولها قللي الجرعة، وشوية يقولها زوديها حسب التحليل اللي بتعمله كل شهر» ….. ثم أردفت قائلة «بس بصراحة يا دكتور، أنا مشغولة بقالي شهرين تلاتة، وما عملناش التحليل. والأسبوع اللي فات، ما قدرتش أروح معاها عند الدكتور. وقالتلي إنه غيرلها أدوية كتير، وكتبلها مضاد حيوي، ولما كلمتها في التليفون من 3 أيام حسيت صوتها مش حلو، وقالت إنها حاسة بدوخة وصداع، ومش مرتاحة، وتقريبا قالتلي حاسة لون البول متغير ، مش فاكرة بصراحة …. يا ريتني رحت أطمن عليها ساعتها .. يا ريتني يا ريتني …..» ثم دخلت في بكاء هستيري، وحاول الطبيب أن يهدئ من روعها.

الآن أصبحت الصورة شبه مكتملة. إنه الماريفان (الاسم التجاري الأشهر لدواء الوارفارين المضاد للتجلط ) الملعون لاشك !. عدة أشهر بدون متابعة لهذا الدواء الزئبقي الذي يتفاعل زيادة ونقصانا مع نصف الأطعمة والأدوية تقريبا !. لابد أن أحد الأدوية الجديدة له خاصة زيادة نشاط الماريفان. فارتفعت سيولة الدم بجنون، ووصل الأمر إلى حدوث نزيف شديد من الأنف أثر على نسبة الهيموجلوبين (متوسطها الطبيعي في السيدات 12 – 13)، وقد يكون هناك نزيف مستمر خفي من الجهاز الهضمي دون أن تدري.

طلب الطبيب من ابنتها أن ترسل من يحضر جميع أوراقها وعلاجاتها. وانهمك في إكمال تبليغ الحالة لزميله في العناية.


عندنا، تتحول المشكلة إلى كارثة

يفاقم المشكلة غياب لتخصص طب العائلات family medicine والذي يتولى التعامل الأولي مع المريض، ويوجهه إلى العيادات والمشافي التخصصية حسب الحالة

وتحمل المشكلة أبعاداً أخطر بكثير في بلادنا ذات المنظومة الصحية اللا منظومة، والتي ترتفع فيها نسب الجهل والأمية والفقر بشكل مؤثر، والتي تفتقر بشدة إلى التوثيق الطبي. ويكون جل التعامل الطبي للمرضى مع كانتونات منفصلة من المشافي الحكومية غير الصالحة في معظمها للاستخدام الآدمي، وآلاف المستوصفات الشعبية التي يمكن أن يوصف بعضها بالتعبير المصري أنها «تحت بير السلم»، والمشافي الخاصة الباهظة والتي للأسف لا يتناسب نفعها مع تكاليفها في أحيان كثر، وعشرات الآلاف من العيادات الخاصة المنتشرة للغاية، والتي تتفاوت كثيراً في كفاءة أطبائها … . في غياب كامل، أو شبه كامل للتنسيق فيما بين كل هذه العناصر.

ويفاقم المشكلة الغياب شبه التام لتخصص طب العائلات family medicine والذي يتولى التعامل الأولي مع المريض، ويقوم بتوجيهه عند الحاجة إلى العيادات والمشافي التخصصية حسب حالته. ويقوم بتنظيم الأمور الطبية للمريض، وتوضيح ما يريد فهمه، والتنسيق بين الجميع.

فتكون النتيجة أن مريضنا يتنقل كما شاء هنا وهناك، فيكشف عند كل أطباء مدينته والمدن المجاورة وبعض أطباء العاصمة !، ويبدل علاجاته عدة مرات، وقد يحاول اصطناع الفهم ( الفهلوة بالتعبير المصري شبه المقدس للأسف ) ويمزج بين العلاجات على هواه !!

ويغذي من هذا الأمر، افتقاد الثقة بين المرضى والأطباء، والذي يزداد سوءاً يومياً، مع تردي الأوضاع العامة خاصة الاقتصادية والصحية، وكثرة تناقل وسائل الإعلام لأخطاء الأطباء ( في سياق يغلب عليه عدم المهنية، ومحاولة عمل فرقعة بأي ثمن ).

وهناك أيضاً لهفة كثير من الأطباء -تحت ضغوط الحياة وغيرها من الأسباب- للدخول بسرعة إلى سوق العمل الطبي قبل الاستعداد الأمثل لهذا.

مما يجعل المريض لا يطمئن لما يكتبه له الطبيب إلا بصعوبة. فيذهب إلى هذا وذاك وتلك. وغالباً لا يطمئن. خاصة عندما يتعامل كثير من الأطباء بمنطق التجار و «الصنايعية» فيذم كل منهم الطبيب السابق، ويغير الروشتة كاملة، حتى لو كتب نفس المواد الفعالة وغير الشركات !، دون ضرورة طبية غالباً ( كاختلاف الفعالية بين الأصلي المستورد، والمحلي مثلاً ). كما أن ازدحام العيادات المشهورة، والرغبة في كسب المزيد، آتيا كثيراً على حساب الوقت الذي يتيحه الطبيب لكل حالة للكشف والشرح وتوضيح العلاج جيداً، وهذا يفاقم عدم الطمأنينة أكثر.

ومن كوارث فوضانا الطبية أيضاً، أن أي إنسان يستطيع أن يذهب إلى الصيدلية وأخذ ما شاء من الأدوية – حتى التي في جدول المخدرات أحيانا – دون روشتة طبيب بسهولة أن يشتري كيلو جبنة من البقالة !، خصوصاً لو كان صديقاً للصيدلاني.


شرٌّ لا بد منه

للأسف، لا تأتي المصائب فرادى. أكثر من نصف المرضى الذين نصادفهم يومياً يعانون من مشاكل صحية متعددة. تحتاج كل منها إلى علاجات تختلف قليلاً أو كثيراً. وبعض الأدوية يتحول إلى سم حقيقي عند أي زيادة غير مقصودة في جرعته ( ينسى المريض مثلا أن دواء «أ» مرة واحدة يومياً، فيأخذه 3 مرات بدلاً من دواء «ب» … إلخ، وتزداد احتمالية حدوث هذا طرديا مع زيادة الأدوية ). كما أن هناك بابا كبيراً في علم الأدوية يتحدث عن التفاعلات بين مختلف الأدوية. بعضها يضعف تأثير البعض، والبعض الآخر يزيد سمية البعض. وللأسف يتحول كل تخصص إلى قوقعة تحيط بأطبائه، فلا يدري كل منهم تأثير أدويته على أدوية التخصص الأخير. ويقع المريض في حيْص بيْص.

وكذلك للأسف، فغالبية مرضى الأدوية المتعددة، هم من كبار السن، وبعضهم يعاني من أمراض الشيخوخة كالخرف dementia، والتي تجعل من الصعب أو المستحيل أن يتولى المريض بنفسه مسئولية أخد علاجاته في مواعيدها. ونسبة كبيرة من هؤلاء أميون، وبعضهم يعيش وحيداً لا يجد من يهتم به، ويطمئن على علاجه.

للأسف، الأزمة – كغيرها – تتصل بالتردي العام المسيطر على كل شيءٍ لدينا. لذا سأركز على حلول فردية تخفف منها ما استطعنا. وأرى القاعدة الأولى لحل المشكلة، هو اعتبار تعدد الأدوية محظوراً لا يباح إلا بضرورة تقدر بقدرها.


محاولة للحل

أغلب مرضى الأدوية المتعددة، من كبار السن وبعضهم يعاني من أمراض الشيخوخة كالخرف والتي تجعل من الصعب أن يتولى المريض بنفسه مسئولية أخد الدواء في مواعيده

مما رأيت وأرى يومياً من حجم هذه المشكلة، سأُجمل ما أريد في نقاط سريعة، وأغلبها رسائل لي ولزملائي الأطباء:

  • أولا: التشديد على المريض أن يتابع حالته مع مختص واحد في كل تخصص قدر المستطاع. لأن التنقل بين واحد وآخر يفاقم الأمر.
  • ثانيا: الصبر في شرح الجرعات والأدوية وأهميتها بلغة سهلة قدر الإمكان. خاصة الأدوية الخطيرة. والتأكد من استيعاب المريض أو قريبه اللصيق له.
  • ثالثا: لتكن الأولوية للعلاجات التي أثبتت الدراسات أنها تؤثر على حياة المريض ومرات احتياجه للطواريء الطبية. تجويد الروشتة بإتحاف المريض بكل الأدوية المتاحة للحالة ينتهي غالباً أن يختار المريض مع الوقت أقلها أهمية – أو أرخصها – ويترك الباقي.
  • رابعا: محاولة كتابة العلاج بخط واضح، وحبذا لو باللغة العربية. مع كتابة المواعيد بوضوح. وحبذا إن أمكن جمعها في موعدين أو ثلاثة يومياً. هناك بعض المرضى يقيس كفاءة الطبيب وأقدميته، بمدى سوء خطه … دعك منهم 🙂
  • خامسا: إن ظهر لك خطأ في روشتة علاج زميل. أوضح الخطأ للمريض وصححه بلهجة واثقة، دون القسوة في التعقيب على خطئه. فمن منا لا يُخطئ. كما أن هذه العادة المقيتة من أهم ما فاقم أزمة الثقة مع المرضى.
  • سادسا: التركيز على الأدوية متعددة النفع. مثلاً مجموعة الـ ACEIs والتي تضم الكابتوبريل وأخواته. هي مجموعة دوائية هامة جداً لكل من الضغط وفشل عضلة القلب وقصور القلب و للحفاظ على الكلى من داء السكري. غالباً ما يكون المريض مصاباً بكل أو بعض هذه الحالات في ذات الوقت. ولذا يمكن ضرب أكثر من عصفور بنفس الحجر.
  • سابعا: المراجعة الدورية للجرعات والتفاعلات بين مختلف الأدوية. وهذا أكثر سهولة الآن مع وجود الهواتف الذكية المتصلة بالإنترنت على مدار الساعة. والمواقع الطبية التي تقدم هذه الخدمة لا حصر لها.
  • ثامنا: التخلص من العادات السيئة عندنا، مثل افتراض أن كتابة علاجات أكثر وأغلى تزيد من هيبة الطبيب لدى المريض !. أو أن إطالة الكلام والشرح للمريض بأتي بنتائج عكسية ويزيد عدم فهمه. فقط الأمر يحتاج لاختيار الكلام الموجز دون إخلال، والمناسب لكل مريض.
  • تاسعا: التنبيه الحازم على أقرب أقارب المريض كبير السن ألا يتركوه يعيش وحيداً، وأن يراجعوا جرعات علاج. تجنباً لما يحدث يومياً مما لا يُحمد عقباه.
  • عاشرا: ما لا يُدرَك كله، لا يُترَك جُلُّه. ولا حتى بعضه.
المراجع
  1. Preventing Polypharmacy in Older Adults
  2. Clinical Consequences of Polypharmacy in Elderly
  3. Polypharmacy: Keeping the elderly safe
  4. Polypharmacy