التنصيص السياسي: الدين والسياسة في التراث الإسلامي
في الحقيقة لم يشدني كتاب في هذا الباب الفسيح، والمسكوت عنه كذلك مثل هذا الكتاب، بيد أن الكاتب كان مجهولًا بالنسبة لي، نظرًا لأنه ينتمي لإطار فكري خارج دائرة «المألوف» بالنسبة لي كإسلامي، ولأني بحكم إسلاميتي تلك أتبنى شعوريًا فكرة مفادها أن كل ما هو غير مألوف ولا يقر ما اعتقده، ويدور خارج سرب أفكاري «الإسلامية» المتعارف عليها، لا يجوز، وفي أفضل الأحيان لا يحبذ قراءتها أو الاطلاع عليها؛ إلا أن مقدمته الصادمة بالنسبة لي جعلتني أغوص في أعماق الكتاب كظمآن ورد وردًا؛ فلم يزده إلا عطشًا لمزيد من المعرفة وتعقله دون أحكام مسبَّقة.
الكتاب يتناول فكرةً أساسيَّةً تتمثل في علاقة «النص بالتاريخ» و «التاريخ بالنص»، أو جدلية «النص الخالص» و «تنصيص التاريخ» كما أسماها، والتي تُمثل في جوهرها جدليَّة فهم النص على ضوء التاريخ، وقراءة التاريخ باعتباره النص. وهذه النقطة بالتحديد هي التي ولَّدت جدلياتٍ أخرى مثل السلطة في الإسلام، وشكل النظام السياسي الإسلامي في جانبها السياسي، وقضية «الحرية الإنسانية» و «الجبرية» في جانبها الفكري، وغيرها من القضايا التي تمتد في عمق التاريخ الإسلامي.
يعرِض ياسين بالنقد والتحليل «المدرسة السلفية السنية الحديثية» كما أسماها في سياق تاريخي بديع من خلال مضامين نصوص تلك المدرسة منذ الشافعي وحتى الشاطبي لينتهي بتقرير «جمود» تلك السلفية التقليدية، وتعطليها لمساحة العقل في فهم النص مقابل النقل والرواية، دون النظر في صحة المتن مقابل إقرار صحة السند، والأهم من ذلك أن عملية التدوين لم تكن بعيدة عن المعترك السياسي واستبدادية الحكم القائم، وتوظيفه للأحاديث في صراعه على الملك، مثل «جبرية» الأمويين على سبيل المثال.
يستعرض ياسين ذلك بالتفصيل وبسردية منهجية رائعة في الجزء الأول من الكتاب، بعنوان: «قانون النص: قراءة في العقل الفقهي المسلم»، بمقارناتٍ منهجيَّةٍ بين مدارس «السلفية السنية الحديثية» والشيعة والخوارج والمعتزلة، وانتهاءً بمدرسة ابن حزم، التي يرى في منطلقها وقواعدها الأقرب فهمًا وتفسيرًا للإسلام من جهة إقرارها مصادر التشريع في «النص الخالص» المتمثل في القرآن والسنة «المصححة»، وهي منهج آخر غير السنة «الصحيحة» الذي اتبعه علماء السلف في تناول السنة؛ إذ يعني ياسين بالأولى أن يتم إعادة قراءة، ومن ثم كتابة الحديث، وِفق منهج يستند إلى النظر في المتن وفق مقاصد القرآن المتفق على صحته قبل النظر في صحة السند، وهو ما يُقابل بالتأكيد المنهجية السلفية في التحقق من السند بعيدًا عن تعقل المتن، وهو ذُروة ما ذهب إليه بعد إلغاء القياس والإجماع من مصادر التشريع، متفقًا مع المعتزلة وابن حزم، مُستندين للفكرة المركزية التي يتوكأ عليها الكتاب أيضًا التي تقول: ألا تحريم إلا بنص، وأن ما سكت عنه النص يقع في دائرة المباح، أي دائرة الحرية الإنسانية والاجتهاد البشري؛ فأحكام الدين تقع في ثلاث دوائر: إما واجب منصوص على فعله، أو حرام منصوص على تركه، وإما مسكوت عنه مباح للاجتهاد البشري وفق كل زمان وكل مكان.
أصابني ذلك الجزء من الكتاب بحالة من «الصدمة» المعرفية في منهجيته وتراتبيته، والتي كان عقلي يذهب إليها بدون منهجيَّة كتلك المنهجيَّة التي تتبع بها ياسين تكون المدونة الفقهية السلفية منذ أن أرسى الشافعي قواعدها «الفقهية» في «الرسالة»، والأشعري قواعدها «الكلامية» فيما يخص العقيدة، مرورًا بتكريسها على يد ابن حنبل بعد محنة خلق القرآن التي انتهت بمنحة للمدرسة السنية الحديثية – على عين الدولة – منذ المتوكل كي تقود عملية طويلة من إرساء قواعد الفقه الإسلامي وفق منظومة حديثية تقدم النقل – بالنظر إلى السند لا المتن، وما شابه من تحيزات مذهبية ذهبت لإنكار سند أبو حنيفة على سبيل المثال، لأنه كان لا يعترف بأحاديث الآحاد إذا خالفت نصًا متفقًا عليه في القرآن! – على العقل في تعقل وفهم هذا النقل وخاصةً فيما يتعلق بالسنة.
أما في الجزء الثاني من الكتاب الذي انقسم إلي فصلين: الأول بعنوان «في القرآن: قراءة في التأويل السياسي للنص»، والثاني «في السنة: بين سلطة النص ونص السلطة»، اللذان يرتكزان على فكرة عبقرية لياسين باستشهادات غزيرة تدور حول فكرة «التنصيص السياسي للنصوص» أيّ تطويع أو تأويل، بل وفي بعض الأحيان تحريف بالحذف أو الإضافة، للنصوص الخالصة تطويعًا/تأويلًا سياسيًا، بضغوطٍ مباشرة في كثير من الأحيان، وغير مباشرة في أحايين قليلة، من السلطة السياسية، سواء من قبل الدولة الأموية لما أصلوا «الجبرية» كمرجعية عقدية/شرعية لحكمهم الجبري، أو من قبل الدولة العباسية في نصوص «قرشية الخلافة»، ومن ثمّ «أحقية بني هاشم»، حاذية حذو الشيعة، بوجه سني.
يذهب ياسين بنهاية ذلك العرض التاريخي المنهجي لنتيجة صادمة لكثيرين ممن تعودوا على القراءة الطوباوية للتاريخ السياسي الإسلامي وأكثر طوباوية للتاريخ الفقهي الإسلامي الذي نتج عنه كل المنظومة الفقهيَّة الإسلامية من أصول فقه وأصول حديث بوجه خاص.
إن هذه المنظومة لم تنتج بمعزل عن سياقها التاريخي، وبالأخص السياق السياسي والسلطة السياسية والتي أثرت بها أكثر مما تأثرت، إذ كانت النظريات السياسية على سبيل المثال، لاحقة للنظام السياسي ذاته غير منشئة له، كولاية المتغلب على سبيل المثال، وبأن عملية «التنصيص السياسي للنصوص» هي التي أودت بالنهاية لكل هذا الرصيد الفقهي من تأصيلات للاستبداد السياسي المتمظهر في السلفية المعاصرة بشكل خاص، وتيه الحركات الإسلامية بشكل عام حين تصر على اجترار شكل سياسي تاريخي للدولة الإسلامية أو «الخلافة» كبنية مصمتة، والذي كان وليدًا للحظته التاريخيَّة أكثر من كونه وليد «نصوص خالصة» بل إن النصوص التي تم إلصاقها به عن طريق علميات التأويل السياسي تنافي «النص الخالص» قرآنًا وسنةً، عقلًا ونقلًا، في أغلب فترات ذلك الحكم «الإسلامي»، بيد أن الإسلام وضع «النظرية السياسية الإسلامية» من حيث الشكل السياسي والإلزامية موضع المباح حين سكت عنها.
تتقاطع أفكار ياسين في مداها السياسي لا الفكري الخالص، مع أفكار إسلاميين محسوبين على تلك المدرسة السلفية الحديثية كحاكم المطيري الذي ذهب في كتابه «الحرية أو الطوفان»، ومرجعه الأكبر كتاب «تحرير الإنسان وتجريد الطغيان»، إلى القول بـ «تأويل» النصوص الشرعية وليِّ عنقها لتبرير النظام السياسي القائم في التاريخ الإسلامي عن طريق سردية أقل عمقًا وجرأةً بالتأكيد من سرديَّة ياسين، نظرًا لأن المطيري يتحدث من داخل نفس الدائرة الفقهية/الفكرية.
لكن المطيري بالنهاية أقر بـ «عملية التأويل» التي ما هي إلا تجلٍ لعملية أوسع بيَّنها ياسين تحت اسم «التنصيص السياسي للنص» مع تفاوت عمق واتساع دائرة النقد لاعتبارات فكرية وأيدلوجية كما قلنا. وعلى الهامش أيضًا وقريبًا من المقاربة، من الممكن أن تكون «الحالة الفكرية المغاربية» بشكل عام، والتونسية بشكل خاص، أكثر اقترابًا من طرح ياسين على أيدي منظريها المعاصرين كالغنوشي ومورو، وكذلك الريسوني من المغرب، خاصة طرحه في كتابه «مقاصد المقاصد» الذي ذهب فيه إلى ما هو أبعد من ذلك.
ختامًا، وبعيدًا عن شطط ياسين، واعتزاليته الجديدة، وعقلانيته المتجاوزة في بعض الأحايين إلا أن مجمل ما طرحه في هذا الكتاب بالتحديد يلمس جرحًا غائرًا في جسد الفكر الإسلامي، وبالقرب من قلبه تمامًا، يهرب الجميع من مواجهته بحُججٍ كثيرة؛ لكنه في الحقيقة إن لم نقف معها طويلًا ونناقشها في إطار من النص والعقل معًا سوف يظل الفقه الإسلامي في الجانب الفقهي/الفكري، والنظام السياسي الإسلامي في الجانب السياسي كنتيجة للأول في ركود وجمود لا محل له من الإعراب في حركة التاريخ. وما وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن كإسلاميين، إلا لأننا لم نمتلك يومًا الجرأة على مواجهة التراث الفقهي والتاريخ السياسي الإسلاميين دون تبرير وتسويغ لا لزوم لهما في كون التاريخ الإسلامي هو تجربة إنسانية بالأساس وليس هو الإسلام بالضرورة نصًا أو تشريعًا.