الديوان الأسود: سؤال السياسي والعسكري في الجزائر
ضاحية عين النعجة، مبنى قيادة القوات البرية، نهاية عام 1991، بضعة أسابيع قبل موعد الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في 26 ديسمبر/ كانون الأول، اجتماع عالي السرية، ضبّاط سامون ببزاتهم العسكرية وآخرون بأطقم مدنية، والصمت يخيّم على مكان يعمّه التوتر.
كان هذا هو الاجتماع الوحيد لـ«الديوان الأسود»، التنظيم شبه السري داخل قيادة الجيش الجزائري، الذي بلغنا وصفه من طرف بعض من حضره، وقد كان بغرض التحضير لانقلاب التاسع من يناير/ كانون الثاني 1992.
ولكن على عكس ما قد يتصوره من يقرأ وقائع مثل هذا الاجتماع، لم يكن الجيش الشعبي الجزائري مهيمنًا بصورة دائمة على مجريات السياسة الجزائرية. وتمثل الفترة الممتدة بين 1992-1999 مع تفاوت داخلها، الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
في البدء كان السياسي
إذا رجعنا إلى حرب الاستقلال كحدث مؤسس للجزائر الحديثة، فإن قرار بداية الحرب والإعداد لها كان سياسيًا أولًا قبل كل شيء، إذ قررت كوادر الحركة الوطنية من الصف الثاني والثالث، أمام عقم المسار السياسي وتعنت الإدارة الاستعمارية، خوض غمار الحرب الشاملة مع المستعمر.
كانوا حريصين منذ اليوم الأول على توضيح أهداف هذا العمل العسكري، فكان بيان أول نوفمبر الذي حدّد أهداف الحرب، واحتلّ مكانة وثيقة تحظى بإجماع إلى اليوم يفوق أي دستور للبلاد. كما كانوا حريصين على ألا يخرج العمل العسكري عن سيطرة القيادة السياسية فيتحول إلى ما يشبه عصابات قطاع الطرق.
ولتفادي كل هذه الأمور، قاد الساسة بأنفسهم العمل العسكري على طريقة «الجيش الأحمر» إبان الحرب الأهلية الروسية، فكان المحافظون السياسيون في مختلف مستويات النشاط العسكري يراقبون ويشاركون في العمل. ولتأكيد هذا الوضع، جاءت قرارات مؤتمر الصومام[1] بعد سنتين من انطلاق العمل العسكري التي أكّدت القيادة الجماعية للعمل المسلح، وأولوية المدني على العسكري، وأولوية الداخل على الخارج.
رغم شراسة الحرب والتغيير الكبير في القادة بسبب الخسائر البشرية، وتوسع الثورة بسبب الملتحقين بالعمل المسلح، فإن الساسة حافظوا على أولويتهم حتى نهاية الحرب وتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في 19 مارس/ آذار 1962. يمكن القول إن مرحلة حرب الاستقلال (1954-1962) عرفت زوال الحدود بين المدني والعسكري بسبب طبيعة الحرب الثورية.
خريف الخصومة 1962
مع بروز معالم نهاية حرب الاستقلال، عادت حظوظ النفس والمطامع في الحكم وصراع الزعامات والأجيال إلى الواجهة. دبّ الخلاف بين قيادات جبهة التحرير في سجنهم في فرنسا، وقد نما هذا الخلاف إلى علم قيادة أركان جيش الحدود (هواري بومدين) في تونس والمغرب التي كانت تخضع نظريًا للحكومة المؤقتة المنبثقة بدورها عن جبهة التحرير.
دفع صغر سن قيادة جيش الحدود وغياب تاريخ قديم لها في الحركة الوطنية بها إلى البحث عن غطاء أحد الزعماء التاريخيين، فأرسلت هذه المجموعة شابًا في مقتبل العمر لا تعرفه المخابرات الفرنسية لزيارتهم في السجن وعرض إمكانية تبادل الخدمات، فاستجاب لهم أحمد بن بلة، كان هذا الشاب هو عبدالعزيز بوتفليقة.
كانت تلك هي الخطيئة الأصلية لنظام الحكم في الجزائر المستقلة، حيث زحف جيش الحدود عالي التسليح وغير المرهق بسنين الحرب على البلاد من الشرق والغرب. وبعد مناوشات دامية في قسنطينة بين مجاهدي الداخل وجيش الحدود راح ضحيتها مائة شخص، خرجت المظاهرات تطالب بحقن الدماء تحت شعار «سبع سنين بركات» وحجزت بين الفرقاء. ورغم إمكانية مواصلة القتال، آثرت الحكومة المؤقتة الانسحاب من المشهد.
لم تكن قيادة الأركان تستطيع فرض إرادتها لولا سمعة وتاريخ زعامة أحمد بن بلة الذي كان يتمتع بعلاقات في العالم العربي وخارجه، مما سهّل الاعتراف بحكمه.
نهاية الثورة وبداية الدولة
في أكتوبر/ تشرين الأول 1962، وفي العاصمة الليبية تفاديًا لأي عمل إرهابي من الممكن أن يقوم به فلول المعمّرين (المستوطنون الفرنسيون الذين جاءوا مع الاستعمار)، انعقد مؤتمر لحزب «جبهة التحرير» بمشاركة كل أطياف الحزب بما فيهم من كان في الحكومة المؤقتة لاختيار النهج السياسي الذي ستختاره البلاد. ولأن بن بلة فرض في تلك الصائفة أمرًا واقعًا، فإن خطه السياسي هو الذي فاز. ستصبح الجزائر دولة ديمقراطية ذات طابع اشتراكي وفق مبادئ الإسلام، يحكمها حزب واحد يمثل مختلف التيارات داخل البلد، وعلى طريقة الدول الشيوعية فإن رئيس البلاد هو الأمين العام للحزب.
هذه الصيغة التي تعطي للحزب مكانة مركزية داخل الدولة، علاوة على الوضع الكارثي الذي كانت عليه البلاد بعد الحرب، جعل أولويات النظام تتجه إلى الإنفاق على التعليم والصحة والزراعة أكثر من الإنفاق العسكري.
كثيرًا ما يعتبر المتابعون انقلاب هواري بومدين، وزير الدفاع، على الرئيس أحمد بن بلة، حلقة من حلقات الحكم العسكري في الجزائر. لكن في الواقع، كان الانقلاب سياسيًا قبل أن يكون عسكريًا، لأن الذي قام به ليس وزير الدفاع وحده، بل كل الحزب الحاكم الذي أصبح يتذمر من النزعة الفردانية في الحكم لابن بلة. كما يمكن أن نقول إن بومدين هو رجل سياسي قادته ظروف حرب الاستقلال إلى تولي مهام عسكرية.
ولأن بومدين قام بانقلابه وهو وزير للدفاع، فإنه سيسن السنة العجيبة في العرف الجزائري، وهي أن رئيس الجمهورية يحتفظ لنفسه بمنصب وزير الدفاع زيادة على كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة. ولفرض رقابة إضافية على الجيش، سيؤسس بومدين «الأمن العسكري»[3] الذي يتبعه هو شخصيًا، وعلى رأس مهامه مراقبة الجيش.
تحت تأثير حليفه عبدالحفيظ بوصوف، المهندس الحقيقي للنظام الجزائري، ستأخذ وزارة الداخلية الجزائرية الشكل الذي نعرفه اليوم. فقد أبعدها بومدين تمامًا عن نفوذ الجيش، فالولاة ومنتدبوهم، وحتى عمد المدن وكبار الموظفين في الإدارة المركزية، ينتمون للسلك المدني، وقد وضعت معاهد خاصة لتكوينهم. لذلك، فإنك لن تجد في الجزائر المستقلة محافظًا أو وزيرًا ذا خلفية عسكرية.
ولفرض سيطرة إضافية على الجيش، قام بومدين بالإبقاء على الضباط المنشقين من الجيش الفرنسي في فترات متأخرة من حرب الاستقلال 59-60، مما طرح كثيرًا من التساؤلات حول نياتهم الحقيقية في الانضمام للحركة الوطنية. أثار هذا استياءً كبيرًا داخل الجيش من العناصر التي خاضت حرب الاستقلال من بدايتها (المجاهدون)؛ لكن تبرير بومدين كان أن البلد بحاجة لكل الكفاءات، وأن هؤلاء الضباط عندهم مستوى تعليمي مرتفع [3]، بينما لم تكن معظم العناصر الأخرى قد تعلمت شيئًا سوى القراءة والكتابة.
هذه الحساسية بين «المجاهدين» والضباط المنشقين ستشكّل خط الصدع الذي سيرسم خارطة الانتماءات داخل الجيش. صحيح أنه محصور في فئة عمرية معينة؛ لكن هذه الفئة (الضباط المنشقّون) هي التي ستتبوأ أعلى المواقع داخل الجيش قريبًا.
أزمة خلافة بومدين واجتماع الكلية الحربية
بعد وفاة بومدين إثر مرض أصابه دون تعيين خليفة له، اجتمع الحزب الحاكم في مؤتمر كبير لاختيار رئيس للبلاد تتم تزكيته في استفتاء شعبي بعدها. بعد أيام من المداولات والمشاورات، ظهر على السطح اسمان يحظيان بدعم كبير: عبد العزيز بوتفليقة، وزير الخارجية (مصنف كليبرالي)، ومحمد الصالح يحياوي، القيادي في الحزب الحاكم (مصنف كاشتراكي).
أمام تقدم بوتفليقة في عدد الأصوات، قرّر قادة الجيش الذين كان عندهم عدد من الممثلين داخل المؤتمر على طريقة الأحزاب الحاكمة في الكتلة الشرقية آنذاك، عقد اجتماع في الكلية الحربية (مجاهدون ومنشقون) لتحديد موقف موحد من مسألة الخلافة. لا نعرف كثيرًا عن مجريات هذا الاجتماع والحوارات التي دارت فيه، لكن المجتمعين رأوا في بوتفليقة خطرًا بسبب علاقاته القوية مع الدول الغربية، وفي يحياوي خطر مماثل بسبب ميوله الاشتراكية الدوغمائية، فجاءوا بمرشح جديد، هو الشاذلي بن جديد، الذي كان ضابطًا من «المجاهدين» يعمل قائد الناحية العسكرية الثانية، وقد كان الأكبر سنًا بينهم، وتمّ تقديمه كشخص وسطي يمكن أن يرضي الجميع.
بدعم من قاصدي مرباح، قائد «المجمع الاستخباري» والمعارض الشرس لبوتفليقة، لاقى الشاذلي بن جديد، الرجل الخلوق، قبولًا كبيرًا في أروقة المؤتمر كنوع من الحل الوسط الذي سيحفظ للجزائر مكانتها، ويلقى القبول الشعبي الذي يسمح له بالحكم. في الخلفية، كان يتصور الداعمون لهذا الخيار أن الشاذلي، الرجل الطيب، سيسهل التحكم فيه والحكم من خلاله.
في الحصيلة، لم يفرض الجيش الشاذلي بن جديد بقدر ما فرض من العداء والاستقطاب داخل أجهزة الحزب، وهو العداء الذي كان وراءه شخص عبدالعزيز بوتفليقة.
صعود نجم ضباط الجيش الفرنسي
كما الرئيس المصري محمد أنور السادات، كان الشاذلي بن جديد حريصًا على التمايز عن مراكز القوى التي ورثها عن سلفه. فبمجرد أن تم انتخابه، بدأ الشاذلي في إبعاد الوجوه البارزة للفترة البومدينية، فبدأ بمنافسيه في «المؤتمر». بالنسبة ليحياوي، فقد اكتفى بن جديد بتجريده من مناصبه داخل الحزب، لكن في ما يخص بوتفليقة، فقد شنّت الصحافة الرسمية حملة شعواء عليه واصفة إياه بالعربيد الفاسد، كما فتح «المجلس الأعلى للمحاسبة» ملف فساد ضد تسييره وزارة الخارجية. كان المقصود أن يتخلى بوتفليقة عن أي طموح مستقبلي في لعب دور ما في العهد الجديد. فهم الرجل الرسالة، وبدأ رحلة تيه ستدوم عشرين سنة قادته إلى سويسرا ثم إلى بلاطات الدول الخليجية.
على المستوى الجماهيري والجمعوي، تم إفساح المجال جزئيًا للحركة الإسلامية في الجامعات لاحتواء المد اليساري فيها. صحيح أن ابن جديد سرعان ما انقلب على الإسلاميين بعد أحداث 1982 (نداء من علماء دين جزائريين للرئيس بتطبيق الشريعة)، لكنه كان قد وضع أسس تواجد مستمر للحركة الاسلامية في المجال العام.
خلال هذه الحقبة، شغل العربي بلخير[4] منصب رئيس «مجلس الأمن القومي»، ثم مدير ديوان الرئيس. استطاع هذا الضابط السابق في الجيش الفرنسي أن يستقطب حوله مجموعة من زملائه من الضباط السابقين في الجيش الفرنسي كذلك، في تنظيم غير رسمي، ينضم إليه أفراد أحيانًا ويختلف معهم آخرون على حسب التحالفات والظروف. اصطلح على تسمية ذلك التنظيم بـ«الديوان الأسود» أو «العلبة السوداء»، وقد كان ذلك التنظيم في البداية جزءًا من مهام الإبقاء على الجيش داخل السيطرة.
واصل الشاذلي على خطا بومدين في تقريب الضباط السابقين في الجيش الفرنسي، ممتدحًا حرفيتهم، وستعرف فترة حكمه أزمات كبيرة بين كبار قادة الجيش من «المجاهدين» و«المنشقين». ستصبح كل موجة ترقيات وتحويلات داخل الجيش موعدًا ليقيس كل فريق قوته داخل المؤسسة العسكرية. بلغت المنافسة ذروتها بين الفريقين سنة 1990، حين طرح كل من الجنرال اليمين زروال (مجاهد) والجنرال خالد نزار (منشق) خطتين مختلفتين لتحديث الجيش، وفي القلب منه القوات البرية. اختار الشاذلي خطة نزار، فقدم زروال استقالته.
خلاصة الأمر أن جيشًا منشغلًا بنفسه كالجيش الجزائري من المؤكد أنه سيبتعد عن السياسة!
ربيع جزائري يتربص به الجيش
لكن أحداثًا لم تكن في الحسبان ستعيد الجيش إلى مسرح السياسة في مرحلة ستكون الأكثر دموية في تاريخ الجزائر الحديث. فعلى وقع أزمة اقتصادية خانقة ونظام سياسي جامد، اندلعت «أحداث أكتوبر 1988»، وهي أحداث شغب وتظاهرات عمّت المدن الكبرى، حيث جرى إحراق مقرات الحزب الحاكم وكل ما يمثل سلطة الدولة، كما هاجمت الجماهير منازل الوزراء والولاة ونهبتها.
عجزت قوات الأمن من شرطة ودرك عن احتواء الوضع. بدا وكأن النظام على وشك الانهيار، وأنه لا بد من استدعاء الجيش لاستعادة الأمن وحفظ النظام. الجيش الشعبي الجزائري، سليل «جيش التحرير»، سيطلق النار على متظاهرين عزّل ويقتل العشرات، كما أن أجهزة المخابرات، مقتنعةً بنظرية المؤامرة، ستعتقل الآلاف في أعقاب الأحداث وتُعرّضهم لتعذيب وحشي. كان أغلبهم من الشباب العشريني الذي ليس لديه أي انتماء سياسي.
داخل الحزب الحاكم، كان هناك تياران متصارعان: التيار المحافظ الذي يرى ضرورة الحفاظ على الجانب الثوري المغلق للنظام، وأن هذه الأحداث تحمل بصمات الأيادي الأجنبية، والتيار الإصلاحي في المقابل، الذي كان يرى أن قبضة الحزب على الدولة والشعب صارت خانقة، وأن الاحتجاجات كانت تعبيرًا طبيعيًا عن رفض الشارع للوضع القائم.
شهر واحد بعد قمع الاحتجاجات، انضم الشاذلي إلى جانب الإصلاحيين. تم تبني حزمة إصلاحات لن تعرف البلاد مثلها، كان أبرزها: فك الارتباط بين الدولة والحزب، حرية تشكيل الأحزاب والجمعيات والنقابات، حرية تأسيس الصحف والنشر، سحب الأمن السياسي من مختلف مؤسسات القطاع العام كالإذاعة والتلفزيون.
الجيش بدوره كان منقسمًا تجاه هذه الأحداث لكن بشكل مغاير. هذه المرة، لم يعارض «المجاهدون» كلهم الإصلاحات، كما لم يؤيدها كل «الضباط المنشقين». لكن في خضم هذه الأحداث، كان لـ«الديوان الأسود» موقف براغماتي، فلم تكن تهمه الإصلاحات بقدر ما كان يهمه الدفع برجاله في المناصب الحساسة للجيش. كانت حساباتهم بسيطة؛ إذا لم تنجح الإصلاحات سنلجأ للخطة «ب»: الانقلاب على الرئيس ابن جديد [5].
في خضم موجة الربيع التي عرفها البلد، نجح «الديوان الأسود» في إنجاز خطوة غير مسبوقة في الجزائر المستقلة، وهي إخضاع «المجمع الاستخباري» للجيش في خريف 1990. أصبحت الآن كل أدوات الانقلاب العسكري بين أيديهم. بقي البحث عن حجة مقنعة.
الانقلاب والعشرية السوداء
بعد سيطرته على «المجمع الاستخباري»، اتبع الديوان سياسة مفاقمة الأزمات في البلد للزيادة من التوتر تحضيرًا للانقلاب، فتم فض الاعتصام السلمي لـ«الجبهة الاسلامية للإنقاذ» صيف 1991 بشكل دموي خلّف عشرات القتلى والمصابين، وسبّب الإطاحة بحكومة الإصلاحي مولود حمروش.
في ديسمبر/ كانون الأول 1991، جرت الدورة الأولى للانتخابات النيابية في الجزائر في فترة التعددية الحزبية. فازت «الجبهة الاسلامية للإنقاذ» بـ 75% من المقاعد. أصبح لدى الديوان حجة قوية للإطاحة بالرئيس الذي سيتم إجباره على تقديم استقالته في 9 يناير/ كانون الثاني 1992 لوقف المسار الانتخابي. وفق التقليد الجزائري العتيد، تم اللجوء إلى شخصيات تاريخية لتعطي غطاء سياسيًا لهذا الحدث الذي سيدخل البلاد في دوامة الحرب الأهلية. غطاء سياسي مع استيعاب أكبر قدر من الطيف السياسي، بمن فيهم الإسلاميون المختلفون مع جبهة الإنقاذ.
أعاد هذا الحدث فرز الصفوف داخل الجيش الجزائري بين مؤيد ومعارض. أصبح الحديث يدور عن «الضباط الينايريين» ومعارضيهم. قد يستغرب بعض القرّاء إذا قلنا إن عنف الانقلابيين كان موجهًا ضد معارضيهم داخل الجيش أولًا، وداخل مؤسسات الدولة عمومًا، حيث قاموا بحملات إقصاء واسعة بين إحالة على التقاعد وتهميش داخل مبنى وزارة الدفاع، ووصل الأمر إلى درجة التصفية الجسدية لبعض قادة الجيش.
الطريقة التي قاد الانقلابيون بها الحرب على «الإرهاب» كانت مبنية على تأمين مواقعهم داخل الدولة من أي انقلاب مضاد، ثم قتال الجماعات المسلحة.
المدني يصارع لاسترجاع أولويته
بعد الانقلاب على الشاذلي، أسس الانقلابيون «المجلس الأعلى للدولة» كمجلس رئاسي يضم عددًا من الشخصيات المدنية والعسكرية، ترأسه في بداية الأمر محمد بوضياف، الزعيم الوطني مهندس انطلاقة «حرب الاستقلال» الذي كان قد قضى السنين الثلاثين الماضية من حياته في المنفى. رغم ابتعاده عن المشهد الجزائري طيلة هذه الفترة، إلا أنه لم يرضَ من اليوم الأول لمقدمه أن يكون ألعوبة بين أيدي الجنرالات.
كانت فكرة بوضياف أنه برصيده التاريخي يستطيع أن يفتح طريقًا ثالثًا بين الجيش والإسلاميين. لم تدم تجربة بوضياف في الحكم أكثر من ستة أشهر، حيث تم اغتياله أمام عدسات الكاميرات بينما كان يلقي خطابًا في مدينة عنابة [6].
بعد مقتل بوضياف، تناقص المرشحون المحتملون، ودخلت البلاد مرحلة انتقالية دامت سنتين حاول الديوان خلالهما الحفاظ على واجهة مدنية تتهاوى يومًا بعد يوم. تمت الدعوة لندوة وطنية على طريقة مؤتمرات الحزب الحاكم القديمة، لكن هذه المرة بمشاركة كل الأحزاب. عاود اسم بوتفليقة الظهور إلى السطح مجددًا، لكنه رفض العرض المقدم له من طرف «الينايريين» بعد أن استشار غريمه السابق محمد الصالح يحياوي، فلجأت الجماعة إلى «مجاهد» آخر تم إبعاده من الجيش سابقًا، هو الجنرال اليمين زروال، فتم انتخابه رئيسًا سنة 1995. قبِل زروال العرض، لكنه استدعى إلى جانبه رفيق دربه محمد بتشين الذي عمل كقائد سابق لـ«المجمع الاستخباري» قبل أن يطيح به الديوان الأسود للسيطرة على المخابرات. عمل بتشين مديرًا لديوان زروال، ومستشارًا أمنيًا له، وقد كان عدوًا لدودًا لخالد نزار.
حاول زروال طيلة فترته موازنة النهج الاستئصالي للجنرالات، بفتح قنوات حوار مع الإسلاميين داخل السجون وفي الجبال، فكان أول من سن «قانون الرحمة» للعفو عن المسلحين الذين يضعون السلاح، كما ذهب بنفسه إلى السجن للتفاوض مع الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج، أُطلق سراح الأول وكثيرٌ من القيادات الوسيطة في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» كبادرة لحسن النية. كما قام زروال بغلق المعتقلات الصحراوية والإفراج عن المتواجدين فيها.
هذا الانفتاح تجاه الحل التفاوضي هو الذي كلّف زروال غاليًا، حيث سمحت بعض القيادات في الجيش والمخابرات بحصول مجازر خريف 1997 [7] الرهيبة بالقرب من العاصمة وفي ولاية غيليزان، لتدمير المسعى التفاوضي عن آخره. عرّضت هذه المجازر البلاد للمساءلة الدولية، فجاءت لجنة تحقيق دولية. أعلن زروال استقالته من الرئاسة خريف 1998، وأعلن عن تنظيم رئاسيات مسبقة لن يشارك فيها.
مجددًا طرقت الطغمة الحاكمة باب عبدالعزيز بوتفليقة تترجاه لتحمل مسؤولية البلاد المنهكة بالديون والحرب، والنظام في شبه حظر دولي في التعامل معه. في نفس الوقت، بدأت الانقسامات تدب داخل «الينايريين»: نزار، أكبرهم سنًا، أقعده مرض السكري وأصبح خارج المشهد. محمد العماري في قيادة الأركان لم يعد يحظى بإجماع القادة الميدانيين الذين كان عليهم دفع ثمن الحرب يوميًا من رجالهم. عمليًا، صار بعض الجنرالات يتثاقلون جدًا في تنفيذ الأوامر، وأحيانًا يدخلون في هدنة ضمنية مع الجماعات المحيطة بهم.
وداخل «المجمع الاستخباري»، بدأت تظهر خلافات حقيقية بين رئيسه محمد مدين (الجنرال توفيق) وإسماعيل العماري، وهو أحد نوابه الذي شرع في عقد هدنات محدودة مع عدد من التنظيمات المسلحة. محمد تواتي الذي كان رفاقه يسمونه «المخ»، أمسى نظراؤه في المخابرات الفرنسية يتوارون عنه بعد كل المجازر التي حدثت في البلاد. صار حتمًا لازمًا فتح صفحة جديدة لإنقاذ النظام.
«جماعة وجدة» تعود لتصدر المشهد
في بيت متواضع في مدينة وجدة الحدودية بين المغرب والجزائر يسكن مجموعة من الشباب العشريني الجزائري أغلبهم ولد في الأراضي المغربية، ولهذا السبب تم اختيارهم. إنهم خارج سجلات المخابرات الفرنسية، أكملوا تعليمهم الثانوي وانخرطوا في الحركة الوطنية [8]: عبد العزيز بوتفليقة، شكيب خليل، نور الدين زرهوني، قاصدي مرباح، دحو ولد قابلية وآخرون.
تحت رعاية عبدالحفيظ بوصوف ومسعود زغار وهواري بومدين، سينشئون القاعدة الغربية لجيش التحرير. بعد الاستقلال، سيشغل بوتفليقة منصب وزير الخارجية، بينما سيكون قاصدي مرباح من بين مؤسسي «المجمع الاستخباري»، بينما شكيب خليل سيكمل تعليمه الجامعي في الولايات المتحدة ليصبح أحد أهم خبراء النفظ في البلد، بينما سيشق زرهوني وولد قابلية طريقهما داخل جهاز المخابرات لغاية رتبة عقيد.
استغل بوتفليقة فترة تهميشه في الداخل لتنمية علاقاته الخارجية التي كانت في الأصل واسعة، وذلك عن طريق العمل مستشارًا في كل من السعودية و الإمارات. كان بوتفليقة رغم غيابه عن المشهد الجزائري طيلة عشرين سنة، لاعبًا على مستوى الدولى لا يمكن تهميشه كما حدث مع الذين من قبله. في الأشهر التي سبقت عودته للجزائر، كلّف شقيقه السعيد بوتفليقة، بعقد اتصالات مع مختلف قطاعات الجيش التي سئمت حربًا طال أمدها. طاف السعيد بعدد من القواعد العسكرية ليتأكد بنفسه من ولائها وليشرح وجهة نظر المرشح الجديد.
مباشرة بعد انتخابه، قال بوتفليقة صراحة: «لن أكون ثلاثة أرباع رئيس» معتمدًا على غطائه الدولي. بدأ بتفكيك «الديوان الأسود» متبعًا مبدأ «اجعل أصدقاءك قريبين منك وأعداءك أقرب». تم تعيين العربي بلخير ومحمد تواتي في الديوان الرئاسي، كما عين يزيد زرهوني المقرّب منه على رأس وزارة الداخلية، في حين قام بتعزيز دورها على طريقة بوصوف. بنى بوتفليقة كذلك جهازًا مخابراتيًا موازيًا داخل المخابرات يتبعه شخصيًا. شكّل قدماء وزارات التسليح قطبًا داخل الجهاز ينازع قيادة محمد مدين (توفيق).
محمد مدين (الجنرال توفيق)، رئيس المخابرات الجزائرية
كان أحمد قايد صالح من فريق «المجاهدين» داخل الجيش وقائد ميداني جاب البلاد طولًا وعرضًا، أكبر حليف للرئيس داخل الجيش. بعد معارضة محمد العماري، قائد أركان الجيش، لترشح بوتفليقة لعهدة ثانية في 2004، حل محله قايد صالح.
في الجانب القانوني، أدخل الرئيس إصلاحات على القانون الانتخابي تمنع المجندين من الانتخاب داخل الثكنات، حيث تلزمهم إما بالانتخاب في مكاتب الانتخاب المدنية القريبة من الثكنات، أو توكيل أقربائهم للانتخاب بدلًا عنهم في مقر سكناهم. كانت أصوات المجندين إحدى أدوات الجيش في التأثير في اللعبة الانتخابية.
نهاية «المجمع الاستخباري»
بعد أن كسب ولاء الجيش وحيّده تمامًا عن التدخل الشؤون السياسية، التفت الرئيس للمجمع الاستخباري (مديرية الأمن والاستعلام)، الأخطبوط العملاق ذو التفرعات المدنية والعسكرية والمالية. بداية 2013، انتهزت الجماعات المسلحة الفوضى التي أعقبت سقوط النظام الليبي لشن هجومها على منشأة نفطية كبرى في الجنوب الشرقي للبلاد بغرض أخذ رهائن غربيين من العاملين في المنشأة. تدخلت قوات النخبة في جهاز المخابرات في عين المكان بقوة وعنف كبيرين بغرض منع أن يأخذ الإرهابيون معهم أي رهائن، مما أدى إلى سقوط عدد كبير من الفنيين الغربيين واليابانيين بين قتيل وجريح، ما أثار حفيظة الدول الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا، حيث كانت شركة «بريتيش بتروليوم» تدير الموقع.
اغتنم الرئيس الذي كانت صحته بدأت تتهاوى الفرصة لتقويض سلطة «المجمع الاستخباري». في اجتماع لكبار قادة الجيش والمخابرات تم تسريب مضمونه، حمّل قايد صالح المسئولية كاملة لجهاز المخابرات الذي فشل في التنبؤ بالهجوم لأنه – حرفيًا – كان مشغولًا بالدسائس السياسية عن مهامه القانونية. تم سحب «مديرية أمن الجيش» (المخابرات الحربية) من المجمع وإلحاقها بقيادة الأركان. تطور الأمر إلى اعتقال الجنرال حسان، قائد الهجوم على تقنتورين (موقع المنشأة النفطية)، والمسؤول عن اختراق الجماعات المسلحة في فترة الحرب الأهلية، وتمّت إدانته والحكم عليه بالسجن لعشر سنوات.
بعدها تم سحب «مديرية الإعلام» المكلّفة بالتحكم في الصحافة، من الجهاز، ثم تم نزع صفة الضبطية القضائية عن عناصر الجهاز، ليختتم الأمر بحل الجهاز كلية وتسريح عناصره كلية وإعفاء قائد الجهاز من مهامه، تحت قصف إعلامي كثيف وإثارة للقضايا المسكوت عنها طيل فترة الحرب الأهلية.
هل نحن أمام سيناريو مصري؟
تلقت شرعية الجيش الجزائري لدى الشعب ضربات قوية، وكفّ الجيش عن أن يكون محل إجماع بين كل أطياف الشعب منذ أكتوبر/ تشرين الأول 1988، بخلاف ما كان عليه الحال في مصر، على الأقل حتى الفترة 2013. يمكننا كذلك أن نلاحظ عدم امتلاك الجيش الجزائري إمبراطورية اقتصادية كما هو الحال مع نظيره المصري. هذا لا يرجع لنزاهة الضباط الجزائريين بقدر ما يرجع لاختلاف البنية الاقتصادية بين البلدين.
كذلك، أفقد الحكم المباشر للجيش الجزائري في الفترة 92-99 القدرة على المناورة لاحقًا، حيث انقلب خلال تلك الفترة القصيرة على رئيسين وقتل ثالثًا، بحيث لم يعد يمكنه التعامل بهذه الطريقة مع كل الرؤساء. كانت تلك ورقة لعب بها بوتفليقة جيدًا.
لعب ملف جرائم الحرب كذلك دورًا في الصراع بين بوتفليقة و«الديوان الأسود». مؤخرًا، صرّح أحد المقربين منه أنه كان وراء الدعاوى القضائية التي حرّكها بعض جزائريي المهجر ضد جنرالات الجيش. استطاع «الديوان الأسود» إقامة قناة اتصال مع باريس أثناء فترة حكمه، لكنها لم تكن مستقرة طول الوقت، أما الجيش المصري بالمقابل، فلديه تواصل شبه يومي مع نظيره الأمريكي، وبصورة روتينية، ما يعطيه القدرة على تمرير رسائل دون لفت انتباه القيادة المدنية.
كل هذه الأسباب مجتمعة تحول دون تدخل صريح للجيش الجزائري في المسرح السياسي كما فعله «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» في مصر يناير/ كانون الثاني 2011 وما بعدها.
[1] مؤتمر ضم كل قادة العمل العسكري، ورسم الخارطة العسكرية، وقسّم البلد إلى ولايات تاريخية.[2] سنتفق على تسميته «المجمع الاستخباري» لأنه، بخلاف مصر مثلًا، يضم المخابرات الحربية والمخابرات العامة وأمن الدولة.[3] عند الاستقلال كان معدل الأمية في الشعب الجزائري 97%.[4] كان يسمى في الأوساط السياسية «الكاردينال»، نسبة إلى الكاردينال ورجل الدولة الفرنسي الشهير مازارن.[5] قال خالد نزار في مذكراته أنهم كانوا ينوون الانقلاب على ابن جديد في صيف 1990؛ لكن أحداث غزو الكويت عطّلتهم.[6] سبع وعشرون سنة بعد الحادث، يجمع المتابعون أن اغتيال بوضياف كان من تدبير «الديوان الأسود».[7] مجزرة بن طلحة والرايس، وسلسلة مجازر الرمكة في غيليزان، راح ضحيتها قرابة ألفي مدني.[8] في ذلك الوقت، كان الحائز على شهادة التعليم الابتدائي يعتبر مثقفًا ومتعلمًا.