الشتائم السياسية بين التراث والحاضر
تنقيب في الذاكـرة
من عاداتها قبل بداية كل محاضرة، تترك الدكتورة «أمل حمادة»، أستاذ العلوم السياسية، مدخل المحاضرة لطلابها، من خلال عرض موضوع للنقاش العام؛ في محاولة منها لكسر عملية الجمود الأكاديمي للمحاضرة، أيا كان مجال هذا الموضوع سياسيا اقتصاديا اجتماعيا إلى غير ذلك، ساعتها كنت في السنة الدراسية الثانية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وتدرس لي الدكتور أمل مقرر الفكر السياسي.
صادفت تلك الفترة إعلان المشير عبدالفتاح السيسي – وقتها – ترشحه للرئاسة، وفي بداية إحدى المحاضرات تساءلت الدكتور عن رأينا في الهاشتاج المسيئ للسيسي بخصوص ترشحه للرئاسة، وبالطبع انقسم المدرج كالعادة ما بين مؤيد للهاشتاج ومتعاطف معه أو معارض له، مع اختلاف المبررات لكل فريق، وفي نهاية النقاش ختمت الدكتور أمل كلامها بمقولة ربما لن يتذكرها الكثيرون ممن حضروا تلك المحاضرة، أو حتى لا تتذكرها الدكتور أمل نفسها وكان مضمون تلك المقولة هو «أن استخدام هذا الهاشتاج وانتشاره هو بداية تأصيل للشتيمة في العملية السياسية في مصر».
البحث عن إجابات
ربما لم أدرك حينها جوهر تلك الكلمات، لكن استطعت تفهم ذلك مع استمرار أزمات الصراع السياسي التي تعيشها مصر منذ عام 2011، حيث ازداد استخدام عملية الشتيمة والبذاءة ما بين جميع الأطراف السياسية، فالمناخ العام للوضع السياسي استطاع تقبل هذه العملية بل وقدر على احتوائها في مجرياته، فمن هنا صديقي القارئ تظهر العديد من الأسئلة حول ماهية الشتائم السياسية، وكيف صيغت هذه الشتائم في التراث العربي؟ ولماذا انتشرت هذه الظاهرة في الصراع السياسي في مصر بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011؟ هذه الأسئلة وغيرها تطرح نفسها وبقوة، ومن هنا يسعى هذا المقال لمحاولة الإجابة عليها.
إذا عدنا معا صديقي القارئ للمراجع اللغوية العربية تظهر أبسط المرادفات للشتم أنه السب، ففي المعجم الوجيز شتمه شتما أي سبه، وشاتمه سابه، وشاتما سابا، والشتيمة السب [1]، والشتيمة من وجهة نظر علم النفس عند فرويد أنها «رد فعل لفظي على إحباط أو فشل»، ويمكن هنا وضع إطار للشتيمة السياسية في أنها «إساءة لفظية للخصم السياسي بقصد الحط من قدره أمام الجمهور»، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن تختلف ألفاظ الشتائم السياسية من نخبة إلى نخبة أخرى، ويختلف إطارها العام من مجتمع لآخر، لكن في العموم نجد أن الشتيمة تكون بالأشياء المنبوذة في المجتمع أيا كانت هذه الأشياء سواء حيوانات أو أخلاق بذيئة، أو غير ذلك.
وضع القواعد
مع الرجوع صديقي القارئ للتراث العربي، فإنه يحمل في طياته العديد من الأمثلة، والتي إذا ما تأملناها يظهر أنها تبرهن على أن الشتيمة ليست قاصرة على نخبة سياسية معينة، ولا على فترة بعينها، فبداية بالعصر الجاهلي يمكن القول إن الدائرة التي دارت فيها الشتائم هي دائرة الأخلاق والقبيلة، فالنخبة السياسية والاجتماعية في تلك الفترة والتي كان يمثلها الشاعر الذي يعتبر المتحدث الرسمي للقبيلة، فالشاعر الجاهلي يقوم بشتم أصحاب الأخلاق السيئة وأشهرها في تلك الفترة البخل والجبن، ثم القيام بعملية شتم القبائل المعادية لقبيلته، ومن أدل الأمثلة على ذلك قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
فعمرو بن كلثوم – والذي كان سيد قومه – يقول إن قبيلته أسرعت بتقديم الطعام للضيوف عندما نزلوا عليهم؛ مخافة أن يشتمهم الضيوف بسبب تأخرهم عليهم في تقديم الطعام، فالبخل بين العرب هنا كان مدعاة للشتيمة بين القبائل، وعلى الرغم من ذلك فقد كانت العرب تدعو للكف عن الشتائم، والتمسك بحسن الأخلاق، فنجد زهير بن أبي سلمى – والذي كان ملكا في قومه – يقول في معلقته:
فهو يدعو الناس هنا للابتعاد عن المواقف التي تعرض صاحبها للشتيمة، لأن الحر لا يجب أن يكون في هذا الموضع.
تحولات مفاجئة
صديقي القارئ إذا انتقلنا معا للعصر الإسلامي، نرى انقلاب الصراع السياسي من صراع قبلي إلى صراع ديني؛ حيث أصبح الولاء الأول للدين وليس للقبيلة، من هنا أصبح المسلمون في عملية دفاع عن دينهم، وذلك في فترة النبوة وحتى في فترة الخلفاء الراشدين، وعلى الجانب الآخر هناك كفار قريش ومن تبعهم من العرب ثم من نافق النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة، فهنا ظهر أحد أبرز الأمثلة، في أن اتخذت الشتائم السياسية طابع الاتهام بالسحر والكهانة والكذب، ومحاولة إلصاق هذه الصفات بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الله سبحانه وتعالى: «وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ» [سورة ص، الآية 4]
وعلى الجانب الآخر نرى الإسلام قد اتخذ موقفا واضحا من شتيمة الكفار – ومن باب أولى المسلمين – فيقول الله سبحانه وتعالى: «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ»[سورة الأنعام، الآية 108]، فبالتالي حاول المسلمون في تلك الفترة الابتعاد عن توجيه الشتائم لغيرهم، امتثالا للأوامر الإلهية.
مع ظهور الأمويين على الساحة السياسية، واستيلائهم على الخلافة الإسلامية، عادت العصبية القبلية مرة أخرى للصراع السياسي بين العناصر العربية نفسها، وبينها وبين العناصر غير العربية التي دخلت الإسلام؛ بسبب تعصب الأمويين للعرب، وسيطرة العرب على مفاصل الدولة، إلا أن أكثر الشتائم بين النخب السياسية في تلك الفترة، كانت في النقائض بين الشعراء خصوصا الفرزدق وجرير، في عملية الدفاع عن قبائلهم؛ ولذلك اتخذت عملية الشتيمة هنا إطار التقليل من قدر القبائل الأخرى وبنسبها وأصولها العرقية، ونجد هنا أن أدل مثال على ذلك هو بيت جرير المشهور الذي يشتم فيه بني نمير فيقول:
فهنا يقوم جرير بالحط من قدر بني نمير بأنهم يجب أن يخفضوا رءوسهم خجلا ومذلة، حيث إن نسبهم وضيع، فهم لم يبلغوا من شرف النسب بأن يكونوا من بني كعب ولا حتى من بني كلاب.
ثم مع الانتقال إلى العصر العباسي، نلاحظ صديقي القارئ ظهور عملية اختلاط العناصر العربية بغير العربية، ومن ثم سيطرة غير العرب على مفاتيح الدولة الإسلامية، فبالتالي أصبحت النخبة السياسية العربية تتبنى الشتائم التي تدور حول وضاعة النسب لدى العنصر غير العربي، ومن أدل الأمثلة على ذلك شتيمة المتنبي لكافور الإخشيدي حاكم مصر، بعد هروبه منها، في قصيدة مشهورة له وكان مما قاله فيها:
فعندما أراد المتنبي هنا أن يقوم بعملية الشتيمة، قام بشتم كافور بلونه الأسود وبأنه ليس له نسب مجيد؛ فهو عبد مخصي يباع بالفلس والفلسين في أسواق النخاسة.
بالتأكيد لاحظت صديقي القارئ في تلك الفترات الزمنية أن النخب السياسية من الخلفاء والحكام قد اتخذوا من الشعراء لسانا للتعبير عن مكانتهم من ناحية، ومن الناحية الأخرى شتيمة خصومهم السياسيين، فكان الشاعر هو المتحدث الرسمي باسم النخبة السياسية، وحتى مع اختلاف إطار الشتيمة عبر تلك العصور من شتيمة القبائل الأخرى إلى أصحاب الديانات الأخرى إلى شتيمة العرق، ظل الشاعر هو لسان حال النخبة السياسية في تلك الفترات من التاريخ العربي.
قفزة إلى الحاضر
إذا ما وصلنا معا صديقي القارئ للمرحلة الحالية، والتي بدأت مع ثورة 25 يناير 2011، وحتى الفترة التي كُتب فيها المقال (يناير 2017)، نلاحظ استعارة الشتائم السياسية من جديد في التفاعل السياسي، فمع ارتفاع حدة الصراع السياسي – عقب تخلي الرئيس مبارك عن منصبه – بين القوى الإسلامية من ناحية والقوى المدنية من ناحية أخرى، ظهرت هنا العديد من ألفاظ الشتائم بين الفاعلين على الساحة السياسية، وهنا تربط الأدبيات السياسية بين الفراغ السياسي والفوضى السياسية التي تظهر معها الشتيمة كسمة من سمات هذه الفوضى.
اتخذت الشتائم في تلك الفترة أبعادا جديدة على الساحة السياسية المصرية، أو ربما أحيا هذا الصراع هذه الشتائم من جديد، فارتبط توجيه شتيمة التكفير بالإسلاميين، أو ببعض ممن يحسبون على هذا التيار، والذين وجهوا هذه الشتيمة ومترادفاتها للقوى المدنية، ومن الناحية الأخرى ألصقت القوى المدنية بالإسلاميين تهمة التخوين، والعمل لغير حساب مصلحة الدولة الوطنية، ومن هنا ظهرت شتائم التخوين والتكفير على الساحة السياسية، أضف إلى ذلك صديقي القارئ أن الشتائم السياسية لم تعد قاصرة على فئة معينة في المجتمع، بل إنها انتشرت بين جميع فئات المجتمع، بل وأنها أصبحت مستساغة لدى البعض، واستخدمت وبكثرة في برامج التوك شو، بل وأصبحت الشتيمة والألفاظ الخارجة مرتبطة بشخصيات بعينها.
محاولة تفسير
وإذا قمنا معا صديقي القارئ بمحاولة لتفسير سبب معين لهذه الظاهرة، فإننا نلاحظ أن ظاهرة الشتيمة السياسية ارتبطت معها بظواهر أخرى، ساعدت في انتشارها، فمن ناحية زاد الإقبال على مواقع التواصل الاجتماعي، فحلت تغريدات تويتر ومنشورات الفيس بوك وفيديوهات اليوتيوب محل الشعر قديما في توجيه السب للخصوم السياسيين، إلا أن ما يميز مواقع التواصل الاجتماعي هنا هو سهولة استخدامها لأي فرد، وكذلك أنها غير مراقبة ولا توجد سلطة عليا فيها، حتى ولو كانت مراقبة من الدولة، فيمكن التهرب من ذلك بسهولة، والأهم من ذلك كله أنها وسيلة مجانية للتعبير، أضف إلى ذلك ارتفاع عدد برامج التوك شو على القنوات الفضائية، والتي أصبحت أيضا مجالا للتعبير وسب الخصوم السياسيين.
من المفترض أن تكون عملية توجيه الشتيمة هي السهم الأخير الذي يتوجه به السياسي نحو خصمه، إلا أنه في أغلب الأحوال تأتي الشتيمة السياسية كنوع من أنواع التشكيك في أخلاق ونوايا الخصوم، فلا تأتي كرد فعل أخير بل إنها تكون من أوائل الأسهم التي تطلق ناحية الخصوم، لكن صديقي القارئ في النهاية من الممكن أن نطرح على أنفسنا سؤالا هل لا بد إذا كانت الشتائم من لغة السياسيين أن تصبح ظاهرة متأصلة ومستساغة لدى المجتمع كله؟