التاريخ السياسي لدولة النبي في المدينة
أحاول في هذه المقالات تقديم فكرة موجزة عن التاريخ الإسلامي وحركته عبر الجغرافيا، وهي حركة دائبة لم تتوقف قط. في العادة أقسم هذه الحركة لمرحلتين رئيسيتين: انتشار ثم انحسار. داخل كل منهما مراحل فرعية سأخصص – إن شاء الله – مقالة لكل منها أملًا بذلك تسهيل الإلمام بالخطوط العامة لتاريخ الإسلام والمسلمين خلال شهر رمضان.
وسيدور هذا المقال الأول حول المرحلة الأولى من «دولة النبي في المدينة» والتي كان النبي (صلى الله عليه وسلم) رائدها وقائدها. أما المرحلة الثانية والأخيرة، فقادها أربعة خلفاء راشدين من كرام الصحابة قام آخرهم بنقل عاصمته إلى الكوفة بالعراق، فتضاءل دور المدينة حتى اقتصر في العصور التالية على الجانب الروحي.
دولة النبي في المدينة
كان وصول النبي (ص) إلى واحة قُباء جنوب يثرب، يوم الاثنين 23 سبتمبر 622م/ 8 ربيع الأول من السنة الهجرية الأولى، بمثابة انتقال في كل شيء؛ خاصة إلى مرحلة بناء دولة للأمة الجديدة. بقي النبي في قباء، ضيفاً عند الصحابي كُلْثُوم بن الهِدْم لمدة ثلاثة أيام اجتمع خلالها بكبار المهاجرين وكذلك بنقباء الأنصار، وبنى مسجد قباء، وبدأ ينظم أمورهم والتخطط للمستقبل. وفي صباح يوم الجمعة 12 ربيع الأول/ 27 سبتمبر 622م تحرك ركب النبي باتجاه وسط واحات المدينة حتى استقر في النهاية في منازل بني مالك بن النجار، ومن هناك كان يستطيع بالفعل أن يسيطر على سير الأحداث داخل المدينة ويبني دولته بداخلها.
حدود الدولة
وسرعان ما بدأ النبي بأولى خطوات التأسيس. واعتمد تخطيطه للمدينة على تحديد مركزها وتحريم باطنها. وبدأ ذلك بأن بنى مسجده وابتنى حوله حجراته التي أقام فيها بقية عمره، فأصبح المسجد بذلك مركزًا لدولة النبي (ص). ثم أمر بتمييز حدود المدينة وأطرافها، وربط المركز بالأطراف، أي حِمى المدينة. وفي حديث كعب بن مالك أن الرسول أمره بتمييز حدود المدينة فوضع علامات الحدود على «أَشْرَافِ ذَاتِ الْجَيْشِ وَعَلَى أَعْلامِ الصُّبُوغَةِ وَعَلَى أَشْرَافِ مَخِيضٍ وَعَلَى أَشْرَافِ قَنَاةٍ0╗. وقد اعتبر النبي (ص) ما بين ذلك باطن للمدينة وحرمٌ لها فقال: «لكل نبي حرم، وحرمي المدينة». وبذلك خرجت الدولة الجديدة، دولة النبي في المدينة، إلى الوجود.
تعداد الدولة
ثم قام النبي (ص) بعدة خطوات أخرى لترسيخ قواعد الدولة الجديدة، كان أولها: إحصاء عدد المسلمين. وفي حديث حذيفة: «فَكَتَبْنَا لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَ مِائَةِ رَجُلٍ فَقُلْنَا نَخَافُ وَنَحْنُ أَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةٍ».
ولم يكن يسكن المدينة الأوس والخزرج واليهود فقط، ولكن كان يسكنها أيضاً قدامى العرب من بقايا قضاعة مثل جهينة وعذرة وغيرهما. وقد ظل هؤلاء مُستغْلَبين حتى هاجر الرسول (ص) إلى المدينة وأعاد تخطيط العلاقات بين أتباعه عن طريق المؤاخاة والمساواة، وأخذ بأيدي بقايا قضاعة وعدهم من الأنصار وسوّاهم بغيرهم فأصبحوا معدودين في رهط النبي (ص) وكان لذلك أثره الكبير في سير الأمور في العصر النبوي وفي اختيار أبي بكر لخلافة النبي (ص) فيما بعد.
وكانت هذه المساواة هي سر قوة الجماعة الإسلامية الأولى؛ لأنها كانت مكونة من رجال أحرار يعيشون متساويين في الحقوق والواجبات ولدى الجميع الاستعداد الكامل لبذل الروح في سبيل المحافظة على الجماعة.
دستور الدولة
ثم وضع دستوراً جديداً للدولة الجديدة، وهو ما يعرف باسم «وثيقة المدينة» التي تسمى أحياناً بـ«كتاب الموادعة بين المهاجرين والأنصار واليهود». وهي إحدى أهم الوثائق السياسية في تاريخ الإسلام. وقد وضعه الرسول (صلعم) – بالتفاهم مع صحابته – للدولة ومن بها من مهاجرين وأنصار ويهود، ليحدد لهم نظام العمل في شؤون الجماعة الداخلية والخارجية.
وجرت العادة على تقسيم مواد هذا الدستور إلى ثلاثة أقسام: مواد متعلقة بالمسلمين، ومواد متعلقة بالعلاقة مع اليهود، ومواد متعلقة بالشؤون العامة. وقد بينت الوثيقة أيضًا الحدود الجغرافية لوطن الأمة الجديدة، وقد أقر النبي فيها كل قبيلة على أملاكها ولم يصادر شيئاً منها لصالح الدولة الجديدة. فمن ينضم للدولة الجديدة لا يفقد أي حق من حقوقه وأملاكه، بل إنه أعطى بهذه الوثيقة صيغة شرعية لاعتراف الدولة الجديدة لهم بذلك.
ومن الجدير بالذكر هنا أن هذا الدستور تُرك بعد ذلك مفتوحاً ليضاف إليه من الفقرات ما تمس إليه الحاجة، وما تدعو إليه ضرورات تطور الدولة الجديدة من تقنين وتنظيم.
المغازي والوفود
بعد تأسيس دولة المدينة بدأ النبي (ص) توسيع أرض الدولة الفتية بثلاث طرق: المغازي (الغزوات والسرايا)، وإرسال البعوث والرسائل، واستقبال الوفود. وتم ذلك على ثلاث مراحل متكاملة: مرحلة فتح مكة، ومرحلة فتح شبه الجزيرة العربية، وأخيرا الردع وبدأ الفتوح في شمال شبه الجزيرة.
والحقيقة، فإن التخطيط لفتح مكة مر بعدة مراحل أيضاً كان أولها السيطرة على المدينة وما حولها، ثم تشديد الحصار الاقتصادي على مكة تمهيداً لفتحها. فتمت مسالمة أهل الساحل حيث يمر طريق التجارة إلى الشام ليسهل قطعه على قريش، ثم ردع لقبائل الشمال وإخضاع عوالي نجد حتى يسهل قطع الطريق النجدية إلى العراق.
فعندما تكرر اعتراض المسلمين لعير قريش تيقنت هذه أن المسلمين أصبحوا خطراً على تجارتها، ولذا لابد من مواجهتهم. وهنا تحول المسلمون إلى الدفاع، وتشمل هذه المرحلة الدفاعية غزوات بدر الكبرى (17 رمضان 2هـ/ 13 مارس 624م)، وأحد (شوال 3هـ/ مارس 625م)، والخندق (شوال 5هـ/ إبريل 627م) التي تحول المسلمون بعدها إلى الهجوم فتم التخلص من المجموعات اليهودية الكبرى بعد نقضوا عهد الموادعة بالتآمر مع قريش وغطفان، والسيطرة على الطريق النجدية إلى العراق، وأحكموا بذلك الحصار على قريش.
صلح الحديبية
كانت قريش تتفلت بتجارتها حتى اضطرت إلى توقيع «صلح الحديبية» (6هـ) الذي مثل نقطة تحول حيث زاد من تراجع قريش أمام دولة المدينة، أعطى الفرصة لزيادة انتشار الإسلام وتفرغ النبي (ص) لتقوية دعائم الدولة وتنظيم شؤونها وإرسال السفراء إلى ملوك زمانه برسائل يدعوهم فيها إلى الإسلام.
عندما نقضت قريش صلح الحديبية بمعاونتها لبني بكر ضد خزاعة حليفة النبي (ص) والمسلمين في صلح الحديبية، لذا صمم النبي (ص) على معاقبة قريش فهاجم مكة بعدة جيوش قوامها عشرة آلاف من المسلمين، وفتحها في العشرين من رمضان سنة 8هـ (10 يناير 630م).
البعوث
أدى فتح مكة إلى فتح الطريق أمام الإسلام إلى جنوب الجزيرة العربية وشرقها، فدخلا في الإسلام صلحاً ودون قتال، ومن ثم دعت الحاجة إلى إرسال معلمين ومربين، يشرحون الإسلام للناس فيهما، ويفقهونهم فيه. فأرسل خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب في نجران، وأرسل معاذ بن جبل إلى شمال اليمن، وأبا موسى الأشعري إلى جنوبه. وقد أوصاهما فقال: «يسِّرا ولا تعسرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا».
مغازي شمال الجزيرة
بعد صلح الحديبية اتجهت استراتيجية النبي (ص) نحو شمال شبه الجزيرة، وعندما قُتل سفيره (الحارث بن عمير الأسدي) على يد ملك بُصرى (شراحبيل بن عمرو الغساني)، اشتد الأمر على النبي (ص) لأنه كان أول رسول له يُقتل على خلاف ما جرت عليه العادة من إكرام السفراء وعدم التعرض لهم. ولهذا السبب أرسل النبي (ص) سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت مع البيزنطيين وعرب الروم في قرية مُؤتة في جمادى الأولى سنة 8 هـ، وكان الاصطدام عنيفاً لدرجة أن قواد الحملة الثلاثة (زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة) قتلوا إبان المعركة ثم تولى خالد بن الوليد القيادة وانسحب بالجيش فيما يشبه الملحمة.
وفي العام التالي كانت غزوة تبوك. وما أن وصل المسلمون إلى تبوك في رجب سنة 9هـ وعلم الروم وعربهم أن النبي (ص) على رأس الجيش (جيش العُسرة) حتى فضلوا – رغم كثرتهم – عدم الاشتباك مع النبي والمسلمين. ومكث النبي (ص) والجيش لمدة عشرين يوماً في تبوك ينتظرون العدو الذي انسحب شمالاً.
ولما رأت قبائل المنطقة ذلك صالحت النبي (ص) على الجزية ثم أرسلت الوفود بإسلامها إلى المدينة.
وكانت هذه آخر غزوات النبي (ص)، وكانت بمثابة الإشارة للاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه الفتوح. ومن هذا القبيل سرية أسامة بن زيد والتي أعدها النبي (ص) قبل مرضه.
آخر حديث للنبي
في يوم من أيام مرضه أوصى النبي (ص) المسلمين بأمرين: أن يجيزوا جيش أسامة بن زيد، وألا يتركوا في جزيرة العرب دينين وقال: «أخرجوا منها المشركين». يعني من جزيرة العرب كما في البخاري ومسلم. وهذا كما ترى أمر مطلق عام. ولكن يوجد حديث عن أبي عبيدة أكثر تحديداً وأقل إطلاقاً فيه «أخرجوا يهودَ أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب».
وبالتأكيد كبار الصحابة هم خير من فهم النبي وأوامره وطبقها، ولذا أمرنا بأن نتأسى بهم. ولكن خلال فترة حكم أبي بكر (رض) خاصة بعد حروب الردة وبدء فتوح العراق والشام كان هناك يهود في خيبر وفي اليمن، ونصارى في نجران، ومجوس في هجر بالإحساء، ولكنه لم يطرد أي منهم من جزيرة العرب.
وعندما أصبح عمر (رض) خليفة لم يخرج أي منهم، في البداية على الأقل، بل وجد بعضهم في المدينة نفسها لأن عمر قتل على يد مجوسي كما نعرف. نعم عمر أجلى نصارى نجران ويهود خيبر لأنهم نقضوا شروط الصلح وهذا يتوافق مع حديث أبي عبيدة الذي حددهما بالاسم، لكن مجوس هجر بقوا في أماكنهم، وكذلك يهود اليمن الذين ظلوا هناك حتى الآن فيما أظن.
فلابد وأنهما (أبوبكر وعمر) فهما الأمر النبوي بشكل يخالف ما يفهمه البعض الآن. ورأيي أنهما فهما أن هذا الأمر النبوي لا ينسحب على الأفراد من اليهود والنصارى والمجوس، وإنما عليهم ككيانات دينية استيطانية ذات قوانين مخالفة لقوانين دولة الإسلام. وفي هذا السياق فقط يكون الأمر مفهوم وغير مستغرب، وأظنه التقليد الموجود في الدولة الغربية الحديثة خاصة مع المسلمين.
وعندما انتقل النبي (ص) إلى الرفيق الأعلى في 13 ربيع الأول سنة 11هـ (6 يونيو/حزيران 632م) كانت الدولة الإسلامية قد شملت شبه الجزيرة العربية كلها، ودخل فيها جميع أهلها.