الاستغلال السياسي لـ«النسخ» في الإسلام
عرفت الثقافة الإسلامية العديد من المفاهيم والعقائد التي تطورت في سياق التنافس السياسي والمذهبي على مر القرون. على الرغم من أن البعض من تلك المفاهيم، قد وردت الإشارة إليه بشكل ضمني في المدونات الإسلامية الأكثر تقديساً- القرآن الكريم والأحاديث النبوية- فإن تطورها الحقيقي قد وقع في سياق تاريخي بحت، وذلك حينما تم اللجوء إليها في سبيل تبرير فعل ما، أو لتمرير فكرة معينة، أو حتى لإسباغ الشرعية على سلطة بعينها.
مفهوما النسخ والبداء كانا من بين تلك المفاهيم الجدلية الإشكالية، التي تم اللجوء إليهما، ومحاولة العمل على استغلالهما في كثير من الأحيان، في السياقين السني والشيعي على الترتيب.
النسخ والبداء: بين القبول والرفض
يُعرف النسخُ عند أهل السنة والجماعة بأنه «رفع حكمٍ شرعيٍّ سابق، بدليلٍ شرعيٍّ مُتأخرٍ عنه في زمن نزول الوحي»، وقد دلت عليه العديد من الآيات القرآنية، ومن أشهرها ما ورد في الآية رقم 106 من سورة البقرة «مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، وهي الآية التي علق عليها ابن جرير الطبري المتوفى 311ه في تفسيره جامع البيان عن تأويل آي القرآن «وَذَلِك أَنْ يُحَوِّل الْحَلَال حَرَامًا وَالْحَرَام حَلَالًا، وَالْمُبَاح مَحْظُورًا وَالْمَحْظُور مُبَاحًا، وَلَا يَكُون ذَلِكَ إلَّا فِي الْأَمْر وَالنَّهْي وَالْحَظْر وَالْإِطْلَاق وَالْمَنْع وَالْإِبَاحَة…».
العالم الأندلسي أبو محمد علي بن حزم المتوفى 456ه، قسّم أنواع النسخ في الأحكام الواردة في القرآن الكريم في كتابه الناسخ والمنسوخ، إلى ثلاث حالات، فقال «هناك نسخ الخطّ والحكم… والنسخ الثاني: نسخ الخطّ دون الحكم… والنسخ الثالث: نسخ الحكم دون الخط».
وعلى الرغم من اتفاق كثير من العلماء المتقدمين على النسخ، فإن بعض المتأخرين من علماء أهل السنة والجماعة، وغيرهم من علماء المعتزلة والشيعة وغير ذلك من الفرق الإسلامية، قد أنكروا وقوع النسخ في القرآن الكريم، وفي ذلك يقول شمس الدين القرطبي المتوفى 671ه في تفسيره «أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه- أي النسخ- وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة».
أما البداء، فهو من المسائل الكلامية المتفرعة عن أصل التوحيد عند الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، إذ يتفق مع النسخ في أصل الفكرة، ويختلف معه في المتعلق، ففي حين يختص النسخ بالأحكام التشريعية، فإن البداء يختص بالأمور التكوينية وببعض المسائل المتصلة بالغيب.
في الوقت الذي يرفض فيه أهل السنة القول بالبداء، فإن الشيعة يستدلون على جواز الاعتقاد بالبداء بمجموعة من آيات القرآن الكريم، ومنها الآية رقم 47 من سورة الزمر «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ»، وكذلك الآية رقم 48 من السورة نفسها «وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ».
في السياق نفسه، فقد أفرد علماء الشيعة الإمامية مساحات واسعة للحديث عن عقيدة البداء في مؤلفاتهم، ومن ذلك ما ذكره محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد المتوفى 413ه في كتابه أوائل المقالات «فأمّا إطلاق لفظ البداء فإنّما صرت إليه بالسمع الوارد عن الوسائط بين العباد والله، عز وجل، ولو لم يرد به سمع أعلم صحته ما استجزت إطلاقه كما أنّه لو لم يرد على سمع بأن الله تعالى يغضب ويرضى ويحب ويعجب لما أطلقت ذلك عليه سبحانه، ولكنه لمّا جاء السمع به صرت إليه على المعاني التي لا تأباها العقول، وليس بيني وبين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف، وإنّما خالف من خالفهم في اللفظ دون ما سواه، وقد أوضحت عن علتي في إطلاقه بما يقصر معه الكلام، وهذا مذهب الإمامية بأسرها وكل من فارقها في المذهب ينكره على ما وصفت من الاسم دون المعنى ولا يرضاه».
وكذلك ما ذكره شيخ الطائفة، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى 460ه في كتابه عدة الأصول «البداء حقيقته في اللغة هو الظهور ولذلك يقال بدا لنا سور المدينة وبدا لنا وجه الرأي… فأما إذا أُضيفت هذه اللفظة إلى اللّه تعالى، فمنه ما يجوز إطلاقه عليه ومنه ما لا يجوز، فأما ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه ويكون إطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع، وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الأئمة عليهم السلام من الأخبار المتضمنة لإضافة البداء إلى اللّه تعالى دون ما لا يجوز عليه من حصول العلم بعد إن لم يكن، ويكون وجه إطلاق ذلك فيه تعالى التشبيه، وهو أنّه إذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهراً لهم ويحصل لهم العلم به، بعد أن لم يكن حاصلاً لهم، أُطلق على ذلك لفظ البداء».
آية السيف: شرعنت التوسعات العسكرية
آية السيف، هي الاسم الأكثر شهرة في الثقافة الإسلامية للآية الخامسة في سورة التوبة «فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».
بحسب ما ورد في الأغلبية الغالبة من كتب التفاسير الإسلامية، فأن آية السيف- والتي ورد فيها الأمر الإلهي بحتمية قتال المشركين حتى يتوبوا ويعلنوا إسلامهم- قد نسخت العشرات من الآيات القرآنية الأخرى، والتي تتضافر جميعًا على القول بضرورة التسامح مع الآخر الديني، والتأكيد على حرية كل إنسان فيما يعتقد.
بعض الأقوال التراثية ذهبت إلى أن آية السيف نسخت ما يقرب من 124 آية قرآنية أخرى تحض على موادعة الكفار والتعامل برفق ولين معهم، ومن أشهر تلك الآيات المنسوخة على سبيل المثال، كل من الآية رقم 199 من سورة الأعراف «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ»، والآية رقم 29 من سورة الكهف «…وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ…»، والآية رقم 6 من سورة الكافرين «لكم دينكم ولي دين».
الفقيه الحنبلي مرعي بن يوسف الكرمي المتوفى 1033ه، عبر في كتابه قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ من القرآن عن الحكم الشرعي الذي فهمه المسلمون عبر العصور من آية السيف، فقال «إن الأمر بالقتال وإباحـتـه في كلّ مكان وكلّ زمان ناسخٌ لجـميع ما جاء في القرآن ممّا فيـه الصبر على الأذى من المشركين واللين لهم والصفح والإعراض عنهم والعفو والغفران لهم والجنوح لهم والجنوح للسلم إذا جنحوا لها».
طبعاً، يمكننا فهم الآثار الكبرى المترتبة على الاعتقاد بنسخ آية السيف لكافة الآيات الأخرى التي تدعو للمهانة والتسامح مع الآخر، ومن أهم تلك الآثار، تلك التي تمثلت بالمقام الأول في إطلاق يد المسلمين بالجهاد، وإضفاء صفة الشرعية على حملات التوسع العسكري التي تمكنت من ضم العديد من الأقاليم في بلاد الشام والعراق وبلاد فارس ومصر وبلاد المغرب الكبير.
كيف أثر النسخ على حركة التنافس المذهبي السني- الشيعي؟
الباحث في تاريخ المذاهب الإسلامية، لا سيما المذهب السني والمذهب الشيعي الإمامي الاثنا عشري، سيلاحظ أن العديد من الاختلافات الكبرى بين المذهبين ترجع في أصلها لاختلاف رؤية كل مذهب حول القول بنسخ/ عدم نسخ بعض التشريعات والأحكام الفقهية.
مسألة الأمر بالمسح على الخفين، كانت واحدة من تلك المسائل الجدلية بين المذهبين، ففي حين يقرها أهل السنة والجماعة لما تواتر عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب من الموافقة عليها ودعوة المسلمين إليها، فإن الرأي الشيعي التقليدي يذهب إلى أن الأمر بالمسح على الخفين، كان معروفًا في بدايات الإسلام إلى أن تم نسخه بأحكام الوضوء الواردة في الآية السادسة من سورة المائدة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».
الشيعة الاثنا عشرية استدلوا على نسخ حكم المسح على الخفين، بما أورده محمد بن الحسن الطوسي، في كتابه تهذيب الأحكام، من أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لما جمع أصحاب الرسول وسألهم عن حكم المسح على الخفين، وقام المغيرة بن شعبة وقال: «رأيت الرسول يمسح على الخفين»، فإن علي بن أبي طالب قد رد عليه قائلاً «قبل المائدة أم بعدها؟ سبق الكتاب الخفين، إنما أُنزلت المائدة قبل أن يُقبض– أي الرسول- بشهرين أو ثلاثة»، وفي هذا دليل على رفض المسح على الخفين سواء كان ذلك في سفر أو حضر، وأن حكم مسح الخفين منسوخ، ولا يجوز العمل به.
في السياق نفسه، تمثل واحد من أهم الاختلافات الفقهية القائمة ما بين السنة والشيعة الإمامية الاثنا عشرية، في رفض السنة لإباحة زواج المتعة، في الوقت الذي يبيحه الشيعة ويعتبرونه زواج شرعي، مكتمل الأركان.
بحسب ما هو معروف في مختلف المصادر الإسلامية، فإن هناك اتفاقًا على أن زواج المتعة كان مباحًا في بدايات الإسلام، وأن العديد من الصحابة كانوا يمارسونه دون أن يتعرضوا للمساءلة، أو يُنظر إلى فعلهم على كونه نقيصة أخلاقية تخل بقيم المروءة والشرف، ولكن الخلاف حول زواج المتعة ظهر في الفترة التي أعقبت وفاة الرسول، ففي حين يؤكد أهل السنة أن حكم المتعة قد نُسخ وأنه قد تم تحريمها بعد غزوة خيبر في السنة السابعة من الهجرة، فإن الشيعة لم تثبت لديهم أخبار نسخ الرسول لزواج المتعة، وقالوا إن الخليفة الثاني هو الذي قام بتحريمها، ومن ثم فقد بقيت حلالاً عندهم حتى الآن.
المسألة الجدلية الثالثة التي لطالما أُثيرت في سياق النسخ وعلاقته بالتنافس المذهبي السني- الشيعي، كانت مسألة متعة الحج، والتي يقصد بها أن يأتي المسلم إلى مكة معتمرًا، فيتحلل بعد أن ينتهي من أداء شعائر العمرة، ويبقى بمكة إلى أن يأتي موعد الحج، فيحرم مرة أخرى ويؤدي طقوس الحج.
تجتمع المصادر التاريخية الإسلامية على أن الخليفة الثاني قد نهى المسلمين عن ممارسة متعة الحج، وأنه قد منعهم عنها في العديد من المناسبات، وأنه قد أشار إلى نسخها في بعض الأقوال المنسوبة إليه، وذلك رغم أن تلك الشعيرة كانت من ضمن الشعائر المعمول بها في زمن الرسول، وزمن الخليفة الأول أبي بكر الصديق.
تذكر بعض المصادر أن سبب نهي عمر عن متعة الحج، كان رغبته في الإكثار من زيارة البيت الحرام ومكة، بحيث يقوم الحجيج بقصدها في شهور الحج الثلاثة، بينما يتتابع المعتمرون على زيارتها في باقي شهور السنة، وأن تلك الرغبة من الممكن فهمها في ضوء حرص الخليفة القرشي على إعلاء مكانة مكة وتذكير المهاجرين بأصولهم القرشية وبجذورهم القبلية.
من المهم هنا أن نذكر أن نهي عمر عن متعة الحج، قد دخل في تركيبة الجدل المذهبي السني-الشيعي الذي ظهر وتشكل في السنوات اللاحقة لخلافته، فعلى الرغم من إشارة جميع المصادر التاريخية لاتفاق أغلبية الصحابة على ما ذهب إليه الخليفة، غير أن معظم تلك المصادر قد نبهت على أن شخصًا واحدًا قد أعلن عن رفضه لقرار الخليفة، وهو علي بن أبي طالب، الذي يذكر أبو بكر البيهقي في سننه، أنه قد ناقش عمر في المسألة، وقال له معقبًا على رأيه فيها «من أفرد الحج فحسن، ومن تمتع فقد أخذ بكتاب الله وسنة نبيه».
ومن المُرجح أن الخلاف حول مسألة متعة الحج قد أخذ بعداً سياسياً، وسط الخلافات التي طفت على السطح في النصف الثاني من عهد عثمان بن عفان، تلك الخلافات التي آلت في النهاية لوقوع ثورة عارمة أطاحت بحكم الخليفة الثالث وأردته قتيلاً، فبحسب ما يذكر كل من البخاري ومسلم في صحيحيهما، فإن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب قد اجتمعا مع بعضهما البعض في موسم الحج، وبينما كان الأول مصراً على متابعة رأي سلفه في النهي عن متعة الحج، فإن الثاني كان يرى إباحتها، ويفتي المسلمين بذلك، حتى تسبب ذلك في وقوع حالة من حالات الشقاق بينهما.
من هنا نستطيع أن نفهم كيف صار التركيز والتأكيد على متعة الحج من معالم المذهب الشيعي الإمامي الفقهية المميزة، حيث ورد عن الإمام السادس جعفر الصادق قوله «إن التمتع بالعمرة إلى الحج أفضل من المفرد السائق للهدي»، وقوله «لو حججت ألف عام لم أقر بها إلا متمتعًا»، وذلك بحسب ما يذكر محمد بن يعقوب الكليني في كتابه الكافي.
البداء: أنقذ الشيعة الإمامية من الضياع
إذا كانت عقيدة النسخ قد تسببت في إثارة مجموعة من الأسئلة الجدلية الإشكالية التي لطالما أُثيرت بين السنة والشيعة، فأن عقيدة البداء قد قدمت طوق النجاة للشيعة الإمامية، في بعض من اللحظات الحرجة التي واجهها التشيع الإمامي عبر القرون.
أولى تلك اللحظات وقعت بعد وفاة الإمام السادس جعفر الصادق في عام 148ه، عندما حدثت مشكلة كبيرة ما بين الشيعة الإمامية وبعضهم البعض، فقد تضاربت الأقوال بخصوص الإمام الذي أوصى إليه الصادق قُبيل وفاته، وظهرت عدد من الفرق الشيعية التي ذهبت في ذلك الأمر إلى مذاهب مختلفة.
بحسب التقاليد الشيعية الإمامية الراسخة، فإن منصب الإمامة ينتقل من الإمام المتوفى إلى ابنه الأكبر، الأمر الذي كان يعني وقتها أن المنصب كان من المفترض أن ينتقل إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، الذي كان أبوه يعده منذ سنوات لهذا المنصب العظيم.
وقع الإشكال عندما توفي إسماعيل في حياة أبيه، ليجد الصادق نفسه مضطرًا لاختيار إمام جديد من بعده، وهو الابن الأصغر موسى، الملقب بالكاظم.
في سبيل التوفيق بين الاعتقاد الشيعي الراسخ بأن النص على الأئمة قد وقع قبل الخليقة، وأنه قدر مقدور لا يمكن الخروج عليه من جهة، والأمر الواقع الذي تغير عقب وفاة إسماعيل من جهة أخرى، ظهرت الأقوال المنسوبة لجعفر الصادق والتي تتمسك بعقيدة البداء لتفسير اللحظة الحرجة، ومن تلك الأقوال ما ذكره الشيخ محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالصدوق والمتوفى 381ه في كتابه الاعتقادات، عندما ذكر على لسان الصادق قوله «ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني»، وهو القول الذي أعطى الشرعية المطلوبة للكاظم، والذي بقي في منصب الإمامة في الفترة ما بين 148ه وحتى 183ه، حيث قضى 35 عامًا كإمام يعترف به قطاع كبير من الشيعة الإمامية.
ثاني اللحظات الحرجة، التي لعبت فيها عقيدة البداء دورها المؤثر في إنقاذ الطائفة الشيعية الإمامية الاثنا عشرية من التشظي والفرقة، كانت تلك التي وقعت في عام 254ه، مع وفاة الإمام العاشر علي الهادي، واعتلاء ابنه، الحسن العسكري لمنصب الإمامة.
كثير من الروايات الشيعية الواردة في مسألة إمامة الحسن العسكري، ذكرت أن الهادي كان متوقفاً في أمر تحديد الإمام من بعده، وأنه عندما سأله بعض شيعته عمن يخلفه، كان لا يقطع بإجابة واضحة، وكان يقول لهم: «لا تخصوا أحداً حتى يخرج إليكم أمري»، وذلك بحسب ما يذكر الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد إلى معرفة حجج الله على العباد، ويبدو أن نوعاً من التردد كان يناوب الهادي في مسألة خلافته، خصوصاً وأن له ثلاثة من الأبناء الذكور في مراحل عمرية متقاربة، وهم الحسن ومحمد وجعفر، وربما كان يميل في بعض الأحيان- ولأسباب غير معروفة لنا- بتكليف ابنه محمد بتلك المهمة، رغم أنه لم يكن أكبر أبنائه.
ويتضح ذلك، من الروايات التي تظهر عهد الهادي للحسن بعد وفاة محمد، والتي يتضح فيها أن تلك الوفاة المفاجأة قد حسمت أمر الإمامة في شخص الحسن، ومن ذلك ما نقله محمد بن يعقوب الكليني في كتابه الكافي، عن الهادي قوله للحسن بعد وفاة محمد «يا بني، أحدث الله شكراً فقد أحدث فيك أمراً»، وقد ورد ما يعضد ذلك الرأي في المصادر الشيعية نفسها، حيث جاء أن بعض أصحاب الهادي الذين حضروا عزاء محمد بن علي، قد اعتقدوا أنه كان هو الإمام بعد أبيه، فقال لهم الهادي منبهاً إلى عقيدة البداء: «بدا لله في أبي محمد- يقصد الحسن- بعد أبي جعفر- يقصد ابنه المتوفى محمد- ما لم يكن يُعرف له، كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله…»، وذلك بحسب ما يذكر الكليني في كتابه سابق الذكر.