الاغتيالات السياسية: رصاص تغيير أم ثأر؟
جاء اغتيال العميد أركان حرب عادل رجائي قائد إحدى الفرق العسكرية بالجيش المصري مفاجأة تبعث على القلق الشديد على مستقبل مسار مصر في الأجل المنظور، فهو ليس مجرد حادث اغتيال يرسل رسالة سياسية في اتجاه السلطة أو خصومها.
وغني عن البيان أن الاغتيال مرفوض ومدان أخلاقيًا وشرعيًا وقانونيًا وسياسيًا أيًا كان الجاني أو الضحية. ورتبة المغتال وما نشر – وهو ما لم يتأكد حتى الآن – من أنه كان «مهندس هدم أنفاق غزة» يجعل الجريمة مرشحة لأن تثير من ردود الأفعال أكبر بكثير مما يبدو.
التغيير بالرصاص
تتجاوز واقعة الاغتيال كل الدلالات الرمزية التي يتوقف عندها الخطاب التحليلي في الساعات القليلة التي أعقبته: القدرات التنظيمية للفاعل، الدلالات السياسية للواقعة فيما يتصل بتوجهات الإخوان… الخ.
فالتغيير من خلال الرصاص مسار عرفته حركات مختلفة المشارب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكان في حالات كثيرة في الشرق والغرب أشبه بـ «القطاع العرضي» في تاريخ حركات التغيير، وفي حالات كثيرة أيضاً لم يكتب لدولة المؤسسات أن تظهر وتفرض معاييرها إلا بعد أن تخلت حركات التغيير – على اختلاف مشاربها – عن خيار التغيير من خلال الرصاص.
وفي السياق المصري كان هناك مفترق طريق لم تحسم الفصائل المسلحة من الحركة الإسلامية خيارها إزاءه على نحو قاطع. وعلى سبيل المثال، ففي العام 1997 أطلقت «مبادرة وقف العنف» كمؤشر على تحول كبير في مسار الجماعة الإسلامية المصرية، وفي العام التالي مباشرة (1998)، تم الإعلان عن تأسيس «الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين» بمشاركة واضحة لرموز مصرية من تنظيمي الجهاد المصري، الذي تأخر كثيرًا في خوض تجربة مراجعات كالتي شهدتها «الجماعة الإسلامية»، كما أن هذا العنف المعولم لم يخل من وجود ملموس لجناح من تنظيم «الجماعة الإسلامية» المصرية، رفض بشكل مبدئي منطق «المراجعات».
وتأتي جريمة اغتيال العميد أركان حرب عادل رجائي والإعلان السريع عن المسئولية عنها لجماعة من المفترض أنها تتبع جماعة الإخوان المسلمين، لتطرح (بناءً على ما هو معلن حتى الآن) التساؤل بشأن خيار العنف لدى الجماعة، سواء كان: «رصاص التغيير» أو «رصاص الثأر».
رصاص الثأر
«رصاص الثأر» هو الآخر نمط من العنف شهدته تجارب صراع سياسي عديدة بسيناريوهات مختلفة، وفي كل تجربة من هذه التجارب – تقريباً – كان الارتكاز على ضرورة أن تمتنع الدولة (بوصفها مؤسسة دورها حماية القانون وتنفيذه) عن الاحتكام إلى منطق الانتقام. ولا شك في أن هذا المنطق له ما يسوغه. وفي ديسمبر/كانون الأول 1948 قامت «جماعة الإخوان المسلمين» باغتيال محمود فهمي النقراشي باشا في واقعة أشبعت نقدًا وتحليلًا واعتذارًا وتبريرًا، وفي فيراير/شباط 1949 تم اغتيال المرشد المؤسس للجماعة حسن البنا في واقعة تكرر وصفها كثيراً بأنها كانت «ثأرًا» للنقراشي.
ومن يتتبع بشيء من التأمل جانبًا من الخطاب العام في كثير من الوقائع المماثلة يجد خطاب الثأر يتردد بكثرة على لسان الطرفين على نحو يثير قلقًا عميقًا على درجة استقرار المبدأ الأخلاقي عند الطرفين، وهو ما ينذر بعواقب وخيمة في المستقبل.
لكن حركات التغيير في المقابل كانت تحرص دائمًا على أن ترسم صورة «طهرانية» (أيديولوجية أو دينية للرصاص الذي تطلقه)، وبالتالي فإن استخدام هذا الرصاص بهدف الثأر يظل خطأ كبيراً. وسواء كان ردًا على هدم الأنفاق كما أتوقع أن يركز البعض أو ثأرًا للقيادي الإخواني المغتال منذ أيام محمد كمال، فإن المحصلة واحدة. ولأن إطلاق إدانة متسرعة بحق جماعة الإخوان أو غيرها يشكل افتئاتًا على الموضوعية وتكريسًا للثنائية التي يراد لها أن تكون زاوية النظر الوحيدة، فإننا نؤكد أن هذا التحليل ليس سوى قراءة لما هو منشور بعد ساعات قليلة من الواقعة.
مسارات ما بعد الاغتيال
لأسباب موضوعية تتصل بالرتبة الكبيرة للمستهدف بالاغتيال وتأثيرات ذلك شبه المؤكدة داخل المؤسسة العسكرية فإننا نتوقع أن تسفر الأيام القليلة القادمة عن جديد مهم. فاستهداف قيادة عسكرية ميدانية بهذا الحجم متغير نوعي أكبر بكثير من النقاشات التكتيكية التي يمكن أن ينشغل بها البعض حول القدرات التنفيذية للفاعل في الرصد والتتبع والتنفيذ، والأهم، المكانة التي يتمتع بها الجيش كـ «مؤسسة قتالية» كانت دائمًا خارج حسابات السياسية ولم يحدث أن تم استهدافه بهذا النحو وعلى هذا المستوى من المكانة القيادية.
ومن المسارات التي لا ينبغي استبعادها – بحكم خبرتنا السابقة مع منابر إعلامية بعينها – فإننا نرجح أن تتحول الواقعة إلى تكئة لخطاب تحريضي شديد العدوانية ضد حكومة غزة وحركة حماس، ولا يستبعد أن تكون مبررًا للدعوة إلى الرد بإجراءات عقابية، بل ربما دعا البعض إلى إجراءات انتقامية تصل إلى عمل عسكري ضد أهداف في قطاع غزة.
واتساقًا مع حقيقة أنه أحد أكبر القيادات العسكرية التي تم اغتيالها فسيكون لهذا الأمر تأثير على الأرجح في منح مصداقية غير مسبوقة لخطاب «استهداف الجيش»، ما سيمنح مصداقية وتبريرًا سياسيًا و«وطنيًا» لأية إجراءات استثنائية تتخذها السلطة، فضلًا عن أنه سيوفر الظرف السياسي الملائم لتقبل أول الأحكام النهائية بحق الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي.
منطق الفصل والوصل
تثير واقعة الاغتيال والإعلان السريع عن تبنيها، والربط السريع أيضًا بين هذه الحركة/ اللافتة: «ألوية الثورة» وبين «جماعة الإخوان المسلمين» تساؤلًا عريضًا عن موضوعية – وجدوى – هذا الربط الآلي، فمن المحتمل طبعًا أن يصح هذا الربط، لكن الأوفق دائمًا أن يبقى التحليل خطابًا لا يدعي امتلاك اليقين، وبخاصة في مثل هذه اللحظات الحرجة.
ومن ناحية أخرى، فإن من المؤكد – ولو كافتراض نظري محض – أن أطرافًا عديدة في المنطقة والعالم لديها من المبررات ما يجعلها تسعى بحسابات مصالحها، لتعميق الفجوة بين الإخوان والمجتمع، وتبديد أمل في الوصول إلى نهاية لنفق الصراع المظلم.
ولجوء الجماعة أو مجموعات داخلها لخيار العنف خطأ لا يمكن تبريره ولا الدفاع عنه، وفي الوقت نفسه فإن حصر الخطاب التحليل في خيار واحد يمكن أن تكون له نتائجه السلبية الكبيرة على فهمنا لما يحدث واحتمالاته، وبالتالي مآلاته. فهذا الاستهداف علامة – ربما لا سابقة لها – على طريق «صراع جذري» بين المؤسسة العسكرية والجماعة لا أحد يمكن أن يستفيد منه أحد.
ما هو أبعد من النفي
جماعة الإخوان في الحقيقة مطالبة بأن تقطع المسافة الفاصلة بين التردد والترقب، وأن تعلن بشكل أكثر وضوحًا ما هو أبعد بكثير من موقفها من الجريمة، ذلك أن بنية المشهد السياسي منذ الثالث من يوليو/تموز حتى اليوم تتصف بقدر كبير من الضبابية في مسألة فاصلة هي موقف الجماعة – في ضوء ما حدث منذ عزل الرئيس المنتخب – بناءً على تصور أكثر تركيبًا واستشرافًا للمستقبل.
والهدف هنا ليس تحميل الجماعة – منفردةً – المسئولية عن ما آلت الأمور حتى اليوم، فالعلاقة بين المؤسسة العسكرية والسياسة وحدود الخصومة الممكنة بينها وبين الجماعة تحتاج إلى اجتهاد أكثر نضجاً من حديث الهجوم على القيادة والإشادة بالمؤسسة أو الإحالة على جيل من العسكريين يرون أنه المثال المأمول، وانطلاق الرصاص ليقتل ضباطًا بالجيش وهم خارج وحداتهم العسكرية أكثر سوداوية بكثير من العنف المجرم في سيناء، والمسؤولية السياسية والأخلاقية والشرعية هنا هنا أكبر بكثير.
ومن المهم هنا تأكيد أن التعامل مع الفروض – بوصفها فروضًا لا أكثر – لا يعني إصدار أحكام بالإدانة، ولا تحميل أي جهة أيًا كانت المسئولية عن الواقعة. وفي الوقت نفسه فإن، من الخير أن تكون هذه الواقعة سببًا في إعلان موقف من الجماعة، تؤيده الوقائع على الأرض، يؤكد طي صفحة الرصاص: «رصاص التغيير» و«رصاص الثأر» معًا.