الأدب البوليسي، أو كما يسميه البعض الأدب الجنائي، هو تلك القصة أو الرواية التي تدور حول جريمة مثالية ومعقدة، والتي يتسلسل فيها الكاتب بالتدريج وبطريقة تثير فضول القارئ إلى أن تنتهي بحل الجريمة وكشف الغموض في النهاية.

ويعتبر هذا النوع من أكثر أنواع الأدب الذي سجّل حضوره على الشاشات، من خلال الكثير من الأفلام والمسلسلات، بالإضافة إلى أن الروايات البوليسية أحد أكثر الأنواع الأدبية شهرةً، وسجّلت رواجًا كبيرًا على حساب تلك أعمال الفانتازيا والأعمال الرومانسية.

ولكن التساؤل هنا: من أين جاء ذلك الأدب؟ ولماذا اكتسب هذه الشعبية؟ وكيف حصد كل ذلك الرَواج ليصبح جزءًا كبيرًا من الثقافة والأدب العالمي؟

«إدغار آلان بو»: أول منْ يفتح الصندوق

يرُجَّح أن أول قصة بوليسية حديثة هي «جريمتا شارع مورج» The Murders in the Rue Morgue، والتي نُشرت عام 1841 للكاتب والشاعر الأمريكي «إدغار آلان بو»، حينها كان الخيال البوليسي جديدًا تمامًا، ويُعتقد أنه لم تُستخدم كلمة مُحقِّق في اللغة الإنجليزية قبلها.

ومن وقتها وحتى هذه اللحظة، انتشرت كتابة القصص البوليسية في العالم كله على يد روائيين وكُتَّاب لا يقلون إبداعًا عن «إدغار آلان بو»؛ مثل: «آنا كاثرين جرين» التي اشتهرت بأنها «أم الرواية البوليسية»، إذ نالت روايتها الأولى والشهيرة «قضية ليفنوورث» -التي كتبتها عام 1878- إعجاب «ويلكي كولنز» أحد أشهر أعمدة الأدب البوليسي. ونجد وأيضًا الكاتب الفرنسي «موريس لوبلان»، الذي ابتكر الشخصية الشهيرة «أرسين لوبين».

إلا أن هناك اثنين من الكُتَّاب دائمًا ما اقترن اسمهما بالأدب البوليسي؛ الأول هو الطبيب الإسكتلندي «آرثر كونان دويل» مبتكر شخصية المحقق الشهير «شرلوك هولمز» وهو أشهر شخصية في الخيال الشعبي. والثانية هي الكاتبة البريطانية «أجاثا كريستي» المُلقَّبة بملكة الجريمة، والتي باعت رواياتها أكثر من ملياري نسخة خلال الـ 100 عام الماضية، وهي الكاتبة الوحيدة التي تُرجِمت أعمالها لأكثر من 100 لغة، مما يجعلها تتربع على قائمة أشهر الكتب مبيعًا في تاريخ البشرية بلا منازع.

رغم تعدد الكُتَّاب إلا أن النمط يظل واحدًا

غالبية القصص البوليسية بأشكالها المتنوعة، سواء كانت قصة طويلة أو قصيرة وحتى الرواية، تعتمد على نمط واحد في النهاية، ويتشاركون جميعًا نفس العناصر التقليدية وهي:

  1. الجريمة الكاملة والتي تبدو مثالية.
  2. شخص مُتهَم ظُلمًا، وتشير إليه كل الأدلة.
  3. المُحقِّق الذي يخالف الشرطة.
  4. صلاحية أكبر لإظهار تفوق عقل المُحقِّق.
  5. الخاتمة المذهلة وغير المتوقعة التي يكشف فيها المحقق هوية الجاني الحقيقي والتي تتضح فيها الأمور.

بالإضافة -طبعًا- للحبكات الملتوية التي يُبدعها الكاتب لتشتيت القارئ واللعب به، وجعل الجو العام للرواية أكثر تشويقًا وإثارةً.

ويتعامل بعض قُرّاء الأدب البوليسي مع تلك الروايات على أنها معركة ذكاء من نوع خاص بينهم وبين المُحقِّق، فيتناولون نفس المعطيات والأدلة، ويحاولون الوصول إلى الجاني الحقيقي ويتوقعونه قبل المُحقِّق أو بطل الرواية.

وقد ارتبطت تلك الروايات بظاهرة المُحقِّق المستقل، والبعيد عن أفراد الشرطة، حيث لا يعمل معهم إلا إذا دعت الحاجة، ذلك الشخص الذي اتخذ من فك الألغاز وحل الجرائم المُعقَّدة هوايةً له، والمُتقِن للعبة الاحتمالات التي تجعله يصل في النهاية إلى استنتاجات منطقية مدهشة.

الرجل المحترف في التمثيل كأنه على خشبة مسرح ويبرع في التنكر والتمويه، الخبير في كافة الأسلحة بأنواعها المختلفة ويعرف كيف يستخدمها جيدًا، الأستاذ في الفنون القتالية والمتميز بالقوة البدنية، وبخلاف قوة ملاحظته العالية؛ إلا أنه أيضًا الرجل الذي يعرف كل شيء؛ فمعارفه متعمقة بأغلب العلوم مثل السياسة والقانون، بالإضافة لعلوم الكيمياء والتشريح والجيولوجيا والأدب والفلسفة وعلوم النباتات والفلك، وغيرها من الأمور التي تُخبرنا أن هذا الرجل ليس ذكيًا وحسب، وإنما هو عبقري من الدرجة الأولى.

تُرى هل لعب ذلك الذكاء غير المعهود للمُحقِّق دورًا في نجاح وانتشار القصص البوليسية؟

المُحقِّق الخاص: بطل القصة والورقة الرابحة للروائي

البشر دائمًا ما ينجذبون للذكاء، نختار مُرشَّحًا بعينه دون الآخرين، نُفضِّل أشخاصًا ونختارهم عن سواهم. ذلك الانجذاب للذكاء الذي جعل شخصية مثل «شرلوك هولمز» تصبح الأشهر في الخيال الأدبي على الإطلاق، حتى أنه فاق في الشهرة مُبتكره نفسه، وذلك الانجذاب للذكاء أيضًا هو ما دفع آلاف القراء إلى التظاهر والضغط على «آرثر كونان دويل» لإرجاع شرلوك هولمز بعد أن قرر قتله في إحدى قصصه، وهو ما اضطره للانصياع لهم وأعاد الشخصية مرة أخرى.

لم يتوقف الإعجاب بذكاء هولمز عند هذا الحد، ولكنه أيضًا دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، ليصبح الشخصية الأكثر تجسيدًا وظهورًا على الشاشات وتصويرًا في السينما والتليفزيون.

ذلك الإعجاب الذي دفع صحيفة «نيويورك تايمز» في 6 أغسطس/آب عام 1975 إلى نشر نعي للمحقق البلجيكي «هيركيول بوارو»، المحقق الذي ابتكرته الروائية «أجاثا كريستي»، ورافقها في العديد من رواياتها. ورُغم أن الصحيفة تقوم بنشر نعي لأشخاص مهمين، فإن هذه المرة كان النعي لشخصية وهمية، فكان الأول والأخير من نوعه.

محقق آخر من طراز مختلف، تم تسميته بالاسم الثاني لمبتكر شخصية شرلوك هولمز، «المحقق كونان»، والذي بدأ ظهوره في المانغا اليابانية على يد الكاتب «غوشو أوياما»، اشتهر حول العالم بعد أن تحوّلت قصصه إلى مسلسل أنمي عام 1996 وحتى هذه اللحظة، ليتخطى الألف حلقة.

لكن الأمر المدهش هو تلك المدينة اليابانية التي تحمل اسم المحقق، مدينة كونان، والتي يزورها السياح المحبون لهذه الشخصية والمعجبون بذكائه المميز، كما تحتوي المدينة على متحف للتعريف أكثر بتاريخ ذلك المحقق العبقري.

ليس الانجذاب للذكاء وحسب هو ما صنع للقصص البوليسية تلك الشعبية الجارفة، ولا الحبكة -بكل تأكيد- رُغم أنها قوام القصة المتماسك، وإنما هي تلك الصفات التي نتشاركها جميعًا، ذلك الفضول الذي نمتلكه حين نقرأ تلك القصص ونرغب في معرفة الجاني، السعادة التي تغمرنا حين نتمكن من حل اللغز، لذة المغامرة المشحونة بالتشويق والتوتر والغموض، تلك الصفات هي ما جعلت القصص البوليسية تحتل مكانة مميزة في ذاكرة قرائها وفي خارطة الأدب العالمي.

اقرأ أيضًا: لعنة الكتابة: شيرلوك هولمز يقتل مُبدعه آرثر دويل

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.