ليتنا نعيش مثل كلاب الخليفة: عن شعراء «الثورة والتسول» في بغداد
كانت مائدة خليفة المسلمين تضمُّ 300 صنف مجتمعة من الطعام، ويُطعِم دجاجَه بالمكسرات الفاخرة ويسقيها اللبن الحليب ليزداد لحمها لذة، وفي المقابل كان فقراء كثيرون يأكلون الحشائش في البراري والجيفة والقمامة، هكذا كان الحال في فترات كبيرة من عصور الخلافة الإسلامية العباسية.
ولطالما اعتُبر الشعر العربي، في هذه الأثناء، من أهم وسائل الإعلام وتوثيق الأحداث وتحليلها، فالشعراء كانوا بمثابة إعلاميين تربطهم صلات بأجهزة الحكم دائمًا، ينافقونها أو يعارضونها، ينعمون بعطاياها أو يُحرمون منها، ومن خلال أشعارهم التي وصلتنا يتبين مدى الظلم الذي عاناه الناس، والتفاوت الطبقي الرهيب بين فئة صغيرة كانت تملك المال والسلطة، وسواد كبير من الناس لا يملكون ما يسدّون به جوعهم.
وفي ظل ذلك تحول جزء كبير منهم إما لمعارضة الدولة، أو إلى التسول، بل صار هناك نمط شعري سُمِّي بشعر الكدية والتسول، ما يدل على كثرة شعرائه وشيوع فنهم، وذلك لأنهم لم يكونوا من شعراء السلطة، خاصة في عصور تدهور الدولة التي بدأت منذ القرن الثالث الهجري وحتى سقوط بغداد على يد المغول عام 656هـ/ 1258م.
كيف عاش أمراء المؤمنين وظل الله على الأرض -كما كانوا يُلَقبون- في نعيم أسطوري، وعاش كثيرٌ من رعاياهم في جوع؟ ما مظاهر ذلك؟ وما انعكاسه على الشعراء «إعلاميي ذاك الزمان»؟ وكيف ارتبط ذلك بالثورات التي قامت ضد الدولة العباسية؟ هذا ما نجيب عليه في هذه المقالة.
بذخ ونعيم مقابل جوع وعذاب
قد يكون من المفيد استعراض بعض الأرقام عن الخزانة العامة للدولة العباسية وأوجه إنفاقها خلال هذا العصر، لتتضح من خلالها الصورة، من واقع كتابين مهمين، وهما: «الوزراء» و«رسوم دار الخلافة»، لمؤلفهما الكاتب والمؤرخ الهلال بن الحسن الصابئ (توفي في 448هـ)، الذي كان مُعاصِرًا لهذه الفترة، وتولى ديوان الإنشاء في بغداد لفترةٍ ما.
فقد بلغ دخل خزانة الخلافة في عهد الخليفة المعتضد بالله عام 240هـ حوالي 78 مليون درهم، وانخفض بشدة سنة 280 هـ إلى مليونين وخمسمائة وعشرين ألف دينار، لكنه ارتفع مرة أخرى عام 306هـ إلى 14 مليونًا و829 ألفًا و840 دينارًا.
وقتها كان الدينار العباسي يُصنع من الذهب الخالص، ويزن بين 4 و5 جرامات.
وكان المعتضد يدخر من كل سنة من سِنِي خلافته مليون دينار، وبلغ ما ادَّخره طيلة خلافته 9 ملايين، فأمل أن يُتمِّها عشرة، ويسبكها سبيكة واحدة، ويضعها في مكانٍ يراه الناس، ليُقال إن للمعتضد عشرة ملايين دينار ذهبًا هو في غِنى عنها، ولكنه مات قبل أن يحقق غرضه، وخلفه ابنه المكتفي بالله، فقَلَّ الفائض إلى 4 ملايين دينار، ثم جاء المقتدر بالله فأنفق كل المدخر، إضافة إلى الدخل السنوي الذي ذكرنا نماذج منه فيما سبق.
المقتدر كان ينفق على القصر والحريم والخدم أكثر من 60 ألف دينار شهريًّا، وعلى المطابخ الخاصة والعامة أكثر من 10 آلاف دينار شهريًّا، وصلت أحيانًا إلى 30 ألف دينار، إضافةً إلى ما كان ينفقه على المضحكين المهرجين، والموسيقيين، والمنجمين، والأطباء، وقراء الأخبار، وغيرهم مِمَّن كانوا يُسلونه ويعتنون بمزاجه الشخصي، الذي بلغت ميزانية العناية به قرابة مليونين وخمسمائة ألف دينار سنويًّا.
كان في خدمة المقتدر حوالي 11 ألف خادم، إضافة إلى 4 آلاف امرأة بين جوارٍ وحرائر، أما المكتفي فكان يخدمه حوالي 10 آلاف، وعيَّن حوالي 20 ألفًا لحراسته الخاصة.
ومن مظاهر الترف العباسي الشهيرة أن مائدة الخليفة المأمون كانت تضم حوالي 300 صنف من الطعام، منها أطعمة صيفية وأخرى شتوية. كذلك اشتهرت قصور الخلفاء العباسيين بتربية الطيور الداجنة على أطعمة مغذية، اعتقادًا أن ذلك يجعل لحمها أكثر لذة وتغذية، فكانوا يعلفون الفراريج اللوز المقشر ويسقونها الحليب، حسبما يوضح جورجي زيدان في كتابه «تاريخ التمدن الإسلامي».
أما الوزراء فعاشوا في نعيم مشابه، لما يأخذونه من رواتب ضخمة وإقطاعات، إضافة إلى ما كانوا يختلسونه من خزينة الدولة، وقيل إن الوزير كان يأخذ إقطاعا يُدرُّ عليه 170 ألف دينار شهريًّا، ويكفي أن نشير إلى أن ابن الفرات، وزير المقتدر، كان يملك من الفضة والضياع والأثاث ما تزيد قيمته على 10 ملايين من الدنانير.
إضافة إلى ما سبق كان كل من ينتسب إلى آل العباس (العائلة المالكة) له راتب ثابت من الدولة، وعطايا ومنح، وكذلك كل بني هاشم أولاد عمومتهم، وإن كانت رواتبهم أقل. ولم تكن الرواتب هي دخل العباسيين الوحيد، بل كانت لهم إقطاعات من الأراضي الزراعية، إضافة إلى الهدايا والمنح، إلا المغضوب عليهم منهم فقد كانوا يُحرَمون من ذلك.
على سبيل المثال، بلغ الترف بالوزير ابن الفرات أنه كان لا يأكل إلا بملاعق البلور، ولم يكن يأكل بالملعقة إلا لقمة واحدة، فكان يُوضع له على المائدة أكثر من ثلاثين ملعقة، حسبما يذكر أحمد أمين في كتابه «فيض الخاطر».
وعلى النقيض كانت هناك صورة أخرى تضجُّ بالحرمان خارج القصور العباسية، حتى وصل الحال بالناس عام 334هـ إلى أكل الجيف والروث وماتوا جوعًا على الطرق، وأكلت الكلاب لحومهم، بحسب كتاب «تاريخ الخلفاء» للسيوطي.
حين رأى الشاعر الحسين ابن الحجاج (توفي في 391هـ) كلاب الأمير البويهي عز الدولة بختيار تأكل اللحوم وهو والفقراء من عامة الناس لا يستطيعون أكل قطعة صغيرة منها، تمنى أن يكون كلبًا من كلاب الأمير لينعم بطعامه، وفي ذلك قال، حسب ما جاء في «يتيمة الدهر» للثعالبي:
نتيجة لما سبق انقسم الشعراء كعامة الناس، إلى ثائرين أو متسولين، إضافة إلى متصوفة زاهدين، هذا بخلاف شعراء السلطة أو المتطلعين إليها.
دعونا نركز على المتسولين والثائرين، والذين مهَّدوا الأرض لثورات الزنج والقرامطة، التي كانت لها مطالب اجتماعية واضحة وحاولت تطبيقها قدر المستطاع، حتى إن كثيرًا من الباحثين يرون أنها كانت ثورات اشتراكية، جاءت كردة فعل للظلم الاجتماعي العباسي لباقي الشعب.
السخرية تُسقِط هيبة الخلافة
نتيجة للمظالم الاجتماعية طال هجوم الشعراء إلى الجميع، بدءًا من صغار المسؤولين ثم القضاة والوزراء وحتى الولاة والملوك والخليفة العباسي نفسه.
واستفادت الحركات الاحتجاجية من ذلك، بشكل مباشر بانضمام بعض الشعراء إليها مثل الخبز أرزي (توفي في 317هـ)، الذي هرب من البصرة وانضم إلى القرامطة في البحرين بعد أن هجا الوزير أبا عبد الله البريدي (توفي في 334هـ).
وكان للقرامطة أفكار تقدُّمية عن العدالة في تقسيم السلطة والثروة، وصفت بالاشتراكية، نالت اهتمام الباحثين، كالدكتور عبد العزيز الدوري الذي قدَّم مؤلفًا بعنوان «دراسات في العصور العباسية المتأخرة» تناول فيه ذلك.
الدولة القرمطية التي تمركز نفوذها شرقي شبه الجزيرة العربية، وامتدَّ إلى اليمن وإلى الشام أحيانًا، كانت تفرض الضرائب على الأغنياء وتعطي إعانات مالية لكل من يُؤسِّس نشاطًا اقتصاديًّا، زراعيًّا أو حرفيًّا أو تجاريًّا من الفقراء، وكانت تضع نظامًا وخططًا لذلك، بل وكانت تشارك أصحاب الأعمال بتمويلها إياهم.
كما استفادت الحركات التمردية كالقرامطة من هؤلاء الشعراء، بشكلٍ غير مباشر، نتيجة تحريض هؤلاء الشعراء للناس على أجهزة الحكم، وبالتالي جعلت لديهم استعدادًا لتقبُّل دعاوى التغيير وإكسابها شعبية.
ومن هؤلاء الشعراء كان جحظة البرمكي (توفي في 324هـ) يتألم من زمان لم ينصفه، ومن انقلاب المعايير التي جعلت جهلاء لا يتمتّعون بالكفاءة يتقلدون المناصب، في حين يحرم غيرهم منها كجحظة، حسبما رصد عبد اللطيف الراوي في كتابه «المجتمع العراقي في شعر القرن الرابع للهجرة»، حيث يقول:
وكذلك يقول:
هذا الوضع الذي تكلم عنه جحظة جعل عالمًا أريبًا في الأدب والفلسفة مثل أبي حيان التوحيدي (توفي في 414هـ) يصل به التشاؤم حد حرقه لكتبه، وقوله:
وكان أبو حيان قد بلغ به التشرد درجة معها اضطر لأكل الحشائش كالحيوانات في البرية، ليستنجد بالعالم الشهير أبي الوفاء المهندس (توفي في 388هـ) لينقذه من بؤسه، برسالة طالعناها في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، يقول فيها: خلصني أيها الرجل من التكفف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضر، اشترني بالإحسان، اكفني مؤونة الغداء والعشاء، إلى متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذاوية، والقميص المرقع؟!
بسبب هذا البؤس اندفع الشاعر ابن لنكك (توفي في 360هـ) إلى سبِّ الواقع الذي خلا من أحرار يتصدّون لإصلاح ما أفسده المسؤولون العباسيون ومنافقوهم الذين وصفهم بالعلوج والقرود، الأمر الذي جعله يلزم بيته ولا يخرج على الحاكم، لأنه لا يجد من يعينه، وبالتالي لا فائدة من خروجه، حيث ينقل الثعالبي في «يتيمة الدهر» قوله:
سب المسؤولين العباسيين وتشبيههم بالحيوانات كان كثيرًا في هذه الفترة على ألسنة الشعراء الساخطين، ومنه قول محمد بن عبد الواحد التميمي، الذي نقله الثعالبي:
وبسبب الجهل والفساد في طبقة الحكم من أعلاها إلى أدناها صار النفاق واستخدام الحيل غير الشريفة، وسيلة للقرب والاستفادة منها، لا العلم والحكمة، وفي ذلك قال ابن لنكك ساخرًا:
أما ابن بسام البغدادي (توفي في 302هـ) فسمَّى الوزراء بأسمائهم في شعره، ولعنهم، ومن ذلك بنو الفرات الذين تولى 3 منهم الوزارة، حيث قال فيهم، حسب ما ينقل الصابئ:
كذلك هجا الشاعر جحظة البرمكي الوزير الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، الذي شاع أنه كان ضعيف الفهم والكفاءة، إضافة إلى فساده، فقال:
وهجا أبو الفرج الأصفهاني «صاحب الأغاني»، الوزير البريدي حين تولى الوزارة، قائلاً:
وعزَّز تدهور الأمر فساد القضاء وعدم استقلاليتهم، حيث كثر القضاة المرتشون، الذين لا يتولون مناصبهم إلا لنفاقهم السلطة، حتى جاء في «التمثيل والمحاضرة» للثعالبي، قول أحد الشعراء:
وقيل أيضًا:
وكذلك شبَّه أحدهم القضاة بالذئاب، الذين يلزمهم شهود مثل القرود، حيث يقول:
في كل لونٍ أكون
بخلاف ما سبق من نبرة ثورية ناقمة على المجتمع والسلطة من بعض الشعراء، اتجه شعراء آخرون محبطون إلى احتراف التسول مع إضمارهم لثورة، وغضب على المجتمع والسلطة استخدم كمبرر للتحايل على الناس في سبيل تحصيل المال أو الطعام وخلافه، ليظهر على أيديهم نوعٌ من الشعر سُمِّي بـ«الكدية»، ولِمَ لا وهناك آخرون تكسَّبوا من الشعر أيضًا ولكن بمدح ونفاق المسؤولين، كالمتنبي الذي مدح سيف الدولة الحمداني، وأبي العتاهية وأبي نواس اللذين مدحا هارون الرشيد، وغيرهم.
وكلمة الكدية لها أصول لغوية مختلفة، ولكنها جميعًا تتجه إلى أنها تعني احتراف التسول، مع استخدام حيل وألاعيب في سبيل ذلك.
من هذه الأساليب كانت المسكنة وإظهار الضعف والفقر، كقول أحدهم، مبينًا حاله الذي صار أقل من العنكبوت والخنفساء:
ومثل ذلك في قول الأحنف العُكبَري – حسب ما رصد عبد اللطيف الراوي في دراسته المشار إليها سابقًا- مصورًا آلامه وذله ووضاعة مركزه الاجتماعي، الذي خلقه تَحَكُّم من وصفهم بالأنذال:
الأمر الذي دفعه إلى استخدام الحيل والإتيان بالخدع التي تبدو خارقة لكسب رزقه:
ومن شعراء التسول من أمر أتباعه بالإتيان بالدجل والأفعال الخارقة بل السرقة، للحصول على رزقهم، مثل أبي دلف الخزرجي الذي قال، حسب ما جاء في «مقامات بديع الزمان الهمذاني»:
كذلك علَّم طفيل العرائس ابنه عبد الحميد قبل أن يموت كيفية التطفل على «حفلات العرس»، دون أن يشعر أحد به، فقال له: إذا دخلت عرسًا فلا تتلفت إليه تلفت المريب، وتخير المجالس، فإن كان العرس كثير الزحام فأمُر وانْهَ ولا تنظر في عيون أهل المرأة ولا في عيون أهل الرجل، ليظن هؤلاء أنك من هؤلاء. فإن كان البواب غليظًا فابدأ به ومُرهُ وانْهَه من غير أن تعنِّف به»، حسب ما جاء في «العقد الفريد» لابن عبد ربه.
باختصار كان الشعراء المتسولون يفعلون كل حيلة للحصول على رزقهم، وفي ذلك يقول أبو الفتح السكندري بطل مقامات الهمذاني: