الشعر في أدب أحمد خالد توفيق
في محاولة لاستقصاء جاذبية أدب د. «أحمد خالد توفيق»، تحدث البعض عن صدقه أو براعته في السخرية أو الفلسفة، ومع أهمية هذه الجوانب، هناك جانب هام للغاية تم إهماله بصورة عامة، هذا الجانب هو الشعر، والذي تجده في أغلب كتاباته، أحيانًا بصورة مباشرة، وعادة بشكل ضمني.
يقول «توفيق» في إحدى المقابلات إنه كان يكتب الشعر في مطلع شبابه، ولكنه عندما قرأ لشعراء مثل «السيّاب» و«صلاح عبد الصبور»، أدرك عمق الهوة بين ما هو عليه وما وصل إليه أولئك، وكانت القطيعة. ومع ذلك، من الصعب تجاهل تأثير «توفيق» الشاعر الشاب على كتابات «توفيق القاص»، فعندما هجر الشعر لصالح الكتابة القصصية، استبدله بلغة أدبية شديدة الشاعرية.
تأنق شعر توفيق في زي قصصي قوي ومغر، كبطله «رفعت إسماعيل» الذي «يصبح فاتنًا عندما يرتدي بذلته الكحلية». نجح الشعر، الأدب المهجور والمُنفِر بالنسبة للكثير في التمكن من أفئدة قرائه وقارئاته، غالبًا دون وعي منهم، عندما ارتدى الزي الأكثر مبيعًا، والأكثر جاذبية وإثارة، الرعب، ومع ذلك أعجب القراء ما تلقوه، وطلبوا المزيد من هذه «الخلطة السرية» صعبة المنال خارج عالم رفعت إسماعيل، مهما بحثوا في سلاسل الرعب المشابهة التي يكتبها كتاب آخرون.
لم يخف توفيق انبهاره بكاتب الرعب وشاعر الولايات المتحدة الأمريكية الأعظم «إدجار آلان بو»، أفرد له عدداً كاملاً وسماه «أسطورة بو»، وكتب له في الإهداء: «إلى الشاعر الخالد الذي رفع قصة الرعب إلى مقام الشعر، ورفع الشعر إلى منزلة الحلم». هل كان توفيق يضع نصب عينيه منزلة «بو»، وهو يكتب قصصه شديدة الشاعرية مثل «أسطورة البيت» و«أسطورة النافاراي»، هل كان يريد أن يصبح «بو» العربي الذي ارتقى بقصص جيب الرعب للناشئين إلى مقام الشعر والأدب الرفيع.
يرد «سام كولبي» على «رفعت إسماعيل» مُصِرًّا على أن الأخير حلت به روح «بو» عن طريق تناسخ الأرواح.
مثل «بو»، كان «توفيق» يدخل بعضًا من أشعاره في سياق قصصه، ومنها الشعر العاطفي كما في هذه القصيدة الجميلة من قصة «أسطورة البيت»:
وكان أحيانًا يُطعم قصصه بجمل أقرب إلى الشعر الحديث منها إلى القصة مثل:
أو كان يستخدم الجمل غريبة التركيب، شديدة الكثافة الشعرية، مثل لازمة د. «لوسيفر»: «بك أسعد، ولك قلبي يطرب»، أو يحاكي الشعر الضعيف بصورة ساخرة وذكية جدًا، كما في أغنية «سمير الصياد» المطرب المغمور في قصة «أسطورة وراء الباب المغلق»:
أو على لسان شاعر هاوٍ اتصل على برنامج «بعد منتصف الليل» الذي يحل عليه رفعت إسماعيل ضيفًا:
أو يستعرض عضلاته الفلكلورية، كما في الأشعار الداخلية في ترجمة «أليس في بلاد العجائب»، والتي ترجمها بذكاء إلى العامية المصرية، على الرغم من أن ترجمة باقي النص بالفصحى الحديثة:
بنظرة كلية، تقارب قصص توفيق الشعر أيضًا من ناحية البناء، فلكل عمل غير مادي بناء داخلي، وبناء الشعر قريب من بناء الموسيقى، وكثيرًا ما كان يستخدم توفيق أسلوباً موسيقياً شهيراً وهو الـ«موتيف – Motif»، والذي يعتمد على تكرار جملة ما بنفس الشكل، أو مع التنويع عليها. على سبيل المثال، الجملة الأشهر في سيمفونية «بيتهوفن» الخامسة: «دا-دا-دا-دَم»، يعيد بيتهوفن الجملة مرارًا وتكرارًا بصور مختلفة حتى تنتهي الحركة الأولى.
يستخدم توفيق الموتيف كثيرًا من خلال تكرار عبارة أو اقتباس أو موضوع أو مشهد يقوم باسترجاعه، وذلك عن طريق وضع الموتيف كفواصل بين الفقرات. على سبيل المثال، راجع مقاله «برعم الوردة». والموتيف أسلوب موسيقي جدًا، يعطي القارئ جرعة شعرية عالية، واستخدمها «ت. س. إليوت» بوفرة في قصيدته «الأرض الخراب».
ربما تكون عادة توفيق في تقطيع مقالاته إلى فقرات وحشوها باقتباسات أو شعر أو غيرها من أشكال الموتيف، من أكثر العناصر تأثيرًا على كتابات جيل الكتاب الحاليين، أبناء الدكتور، راجع مثلًا مقالات «أحمد سمير» أو «محمد أبو الغيط» في الجرائد المصرية، على سبيل المثال لا الحصر؛ أغلب الظن أن استخدام توفيق للموتيف خصوصًا قد ترك أثره على جيل كامل أصبح يكتب بهذه الطريقة، حتى في حصص التعبير في المدارس الثانوية!
من العناصر الشعرية التي تتميز بها كتابات توفيق، التشبيهات المبتكرة، والتشبيهات من أدوات الشعر الأساسية التي يستخدمها بوفرة، بالإضافة إلى كثرة استشهداه بأبيات من الشعراء القدامى مثل «المتنبي» و«امرؤ القيس»، مبرزًا إعجابه بتشبيهاتهم. أما تشبيهاته الصادمة التي اشتهر بها مثل: «سعيد كخنزير وسط بركة من الوحل»، فما أقربها إلى تشبيهات «بودلير» الصادمة والشنيعة في «أزهار الشر»، والتي غيرت الشعر للأبد.
للأسف، مع أهميته للروح البشرية، ما زال الشعر لا يقرؤه أحد، ومع ذلك، جزء كبير من تعلق الجماهير بالراحل يرجع في الغالب إلى شعره وليس سرده. بأحسن النوايا، كان الدكتور يخدعنا؛ كنا نشتري قصص الرعب، فنجد شعرًا! وكنا نحب ما نجد. كان يعرف ما نريد أكثر منا، وكان يكتبه لنا بمزاج واضح ليصل ويُطرب. فالشعر، كما كان يحب أن يقول، هو: «كل ما قشعر». ومع ذلك، لو كان اكتفى بالشعر لربما ظل مغمورًا وتجاهله العامة والخاصة، وخسرنا الكثير.