سينما «عباس كيارستمي»: الشعر أقدر على مجابهة الزمن
ينتمي «عباس كيارستمي» إلى ما سماه النقاد «الموجة الجديدة» في السينما الإيرانية والتي ظهرت بعد الثورة الإيرانية عام 1979، مؤسسة لصعود جيل من المخرجين الذين ستحتل أسماؤهم مكانة بارزة بخريطة السينما العالمية أمثال «محسن مخملباف»، و«بهمن قوبادي»، و«داريوش مهرجي»، وغيرهم. «كيارستمي» هو الأكثر حضورًا والأكبر أثرًا بين هؤلاء المخرجين، والذي توصف سينماه دومًا بالتقشف و«المينمالية»، حيث إنه يستخدم الحد الأدنى من العناصر السينمائية في تشكيل وخلق مادته السينمائية.
أفلام «كيارستمي» تخلو من الحبكة ولا تفرط في استخدام المونتاج، بل تنحاز إلى اللقطات العامة والطويلة التي تستمر لدقائق دونما قطع، وأيضًا تتميز بالاستخدام المحدود للحوار والموسيقى. سينما «كيارستمي» على بساطتها الظاهرة تتطلب تفكيرًا وتأملًا طويلًا فهي كما تصفها الناقدة السينمائية «لورا مولفي»: «تتحدى أي بنية جمالية وتحليلية متوقعة». توصف سينماه أيضًا بأنها سينما شعرية حيث بالإمكان اعتبار رغبة «كيارستمي» في خلق سينما شعرية هي القوة المحركة لمسيرته السينمائية، فقد أمضاها وهو ينمي مرادفًا سينمائيًا للشعر الإيراني.
خلال ما تبقى من مساحة هذا المقال سنحاول تحديد عناصر الشعرية في سينما «كيارستمي» عبر تحليل فيلمه «الريح سوف تحملنا The Wind Will Carry Us» والذي يعتبر مثالًا ناصعًا لسينما الشعر.
قصيدة كيارستمي التي تمجد الحياة
يحملنا «كيارستمي» إلى قرية جبلية في كردستان الإيرانية حيث يصل من طهران مجموعة من الأفراد لتصوير تقرير عن شعائر غريبة ستقام بعد وفاة سيدة عجوز تجاوزت المائة عام. تمر الأيام والسيدة العجوز تتشبث بالحياة على نحو غامض وفي انتظار موتها الوشيك لا شيء يحدث في فيلم كيارستمي، فقط الحياة اليومية لساكني القرية ولطاقم التصوير.
أولى صلات الفيلم بعالم الشعر تبدأ من عنوانه الذي هو بمثابة عنوان قصيدة للشاعرة الإيرانية «فروغ فرخزاد» وهي القصيدة التي افتتحنا بها هذه الفقرة. القصيدة نفسها ترددها الشخصية الرئيسية بالفيلم بهزاد، يقرؤها لفتاة -هي طرف في قصة حب هو شاهد عليها- تحلب اللبن في قبو مظلم كالليل. «الريح سوف تحملنا» هو أكثر فيلم لكيارستمي يتم فيه الاستشهاد بالشعر مرارا، اشعار لـ«فروغ فرخزاد»، و«عمر الخيام»، فهما الأقرب لروح «كيارستمي» وسينماه خاصة هذا الفيلم.
الفيلم في هذه الحالة يشبه فضاء مفتوحًا تتلاقى فيه أرواح الشعراء الثلاثة في عناق حميم. قصيدة «فرخزاد» تتوافق مع تيمة فيلم «كيارستمي». القصيدة تصف لقاء عاشقين في حضور الموت المجسد في همس الظلال، القمر الأحمر والغيوم السوداء، قلق عظيم يعصف بالحبيبة يخرب جمال اللحظة. في نهاية القصيدة تستسلم الحبيبة للذات الجسد وتنفتح مع حبيبها على دفء الوجود قبل أن يأتي الموت ليحملهما معًا كما تحمل الريح أوراق الشجر.
شعر «الخيام» أيضًا هو مديح لمسرات الحياة وأفراح الطبيعة في مواجهة الموت الحاضر دومًا. في فيلم «كيارستمي»، ينتظر بهزاد احتضار السيدة العجوز في ضجر، عيناه معلقتان بشباكها الأزرق، عيناه معلقتان بالموت وظهره للحياة، حتى السيدة التي يرفرف ملاك الموت قرب شباكها تتشبث بالحياة على نحو غريب. لقد أتى بهزاد بحثًا عن الموت ولكنه وجد الحياة.
اقرأ أيضا: عباس كيارستامي: الإيراني الذي غير وجه السينما في العالم
غياب الحبكة بمعناها التقليدي هو احد عناصر الشعرية في سينما «كيارستمي» ففيلمه مغزول حول خيط سردي بسيط، لقطات طويلة تخلو من الفعل الدرامي ينساب عبرها الزمن وئيدًا مثل افتتاحية الفيلم التي تستمر لدقائق، السيارة في لقطة بعيدة تقطع الطريق إلى القرية. كاميرا كيارستمي ترصد الطبيعة على جانبي الطريق بينما ينقل شريط الصوت حوار يتم داخل السيارة حول علامات الطريق، شجرتان ثم شجرة وحيدة، يسأل بهزاد: «وماذا بعد هذه الشجرة؟» فيرد أحد الراكبين: «لا شيء»، فيقول له بهزاد: «سأجيبك عما يوجد. قرب هذه الشجرة طريق أكثر اخضرارا من أحلام الله» ثم يضحك الجميع.
هذا شطر شعري للخيام يمرره كيارستمي كمزحة عابرة الا أنه من المخرجين الذين يجب ان يؤخذ مزاحهم على محمل الجد. يقول بهزاد للطفل الذي يقودهم في أزقة القرية التي تشبه المتاهة: «لا تخبر أحدًا عن السبب الحقيقي لوجودنا هنا، قل لهم إننا نبحث عن كنز». هذه الإشارات التي يمررها كيارستمي كمزحات تجعل من مهمة بهزاد رحلة روحية. والرحلة في الصوفية لا تتعلق بالوصول بل بالطريق، هي رحلة معرفة، رؤية جديدة للذات والعالم.
من مثل هذه اللقطات التي أشرنا لها آنفًا تتشكل خامة الشعر السينمائي التي يصنع منها كيارستمي قصيدته. الأحداث الهامة ينفيها خارج الكادر فنحن هنا لم نر أبدًا السيدة المحتضرة، وفي فيلمه «طعم الكرز» ﻻ نشاهد انتحار البطل الذي يبحث عمن يقوم بدفنه بعد انتحاره، بل يغرق كيارستمي الشاشة في الظلام، والأمر نفسه في فيلمه «لقطة قريبة» لحظة القبض على حسين سابزيان تظل الكاميرا بالخارج تتابع علبة فارغة تتدحرج حتى نهاية الكادر. هذه اللحظات المبعدة عمدًا تشعل فضول المشاهد وتحرك خياله، تخلق فراغات داخل الفضاء السردي يملؤها المشاهد وبذلك يصير شريكًا في العملية الإبداعية وليس مجرد متلقى سلبي.
كيارستمي مفتون بالتكرار، فعلى الرغم من أنه يبعد اللحظات الهامة عن الشاشة نجده تقريبًا في معظم أفلامه يكرر مشهدًا بعينه عدة مرات، يعيد تصوير الأماكن نفسها، الطرقات نفسها من منظور متماثل. هنا يصور خمس مرات صعود بهزاد بسيارته إلى أعلى تبة بالقرية من أجل استقبال مكالمة عبر هاتفه النقال. التكرار هنا مقارب للتكرار في الشعر من أجل إحداث تأثير إيقاعي أو لاكتساب غاية جمالية. ربما مثلما يقول «هيوم»: «لا يغير التكرار أي شيء في موضوعه لكنه يغير شيئًا في الروح التي تتأمل». في كل مرة يصعد بهزاد إلى تلك التبة شيء ما يتغير في داخله وفي داخلنا أيضًا.
«فيكتور شيكلوفسكي» ومدخل جديد لقراءة سينما كيارستمي
«شيكلوفسكي» واحد من كبار منظري الفن وهو أحد الشكلانيين الروس. يتحدث شيكلوفسكي أنه مع مرور الوقت يحدث بيننا وبين الأشياء من حولنا ألفة، يكاد المعني يضيع منا جراء الاعتياد حيث ندرك هذه الأشياء بطريقة أوتوماتيكية. هنا يأتي دور الفن ليعيد إلينا وعينا وإدراكنا بالأشياء على حقيقتها من خلال ما يسمى بالتغريب أو نزع الألفة. ما يقوم به الشعراء ليس ابتكارًا لصور جديدة غير موجودة من قبل، وإنما إعادة تنظيم الصور في نمط جديد يجعلنا نشعر بأنها إبداع جديد.
سينما كيارستمي الشعرية تحقق هذا الغرض، تزيل الألفة عن الأشياء، كي نشعر بها من جديد كما لو كنا نختبرها لأول مرة. يحقق كيارستمي ذلك أولًا: إذ يجعل شخصياته يخترقون أرضًا مجهولة بالنسبة لهم مثل مسافرين في أرض غريبة. الطفل في «أين منزل الصديق» ينتقل إلى قرية صديقه للبحث عن بيته. قرية الصديق تمثل فضاء مجهولًا بالنسبة للطفل. في «الريح سوف تحملنا» أيضًا تشكل القرية الجبلية بالنسبة لبهزاد مكانًا غريبًا يكتشفه بفضول. وثانيًا: وجود الأطفال في سينما كيارستمي حيث يستعير عيونهم ليرى بها العالم، عيونهم مفتوحة على اتساعها ونظرتهم تجمع الحيرة والدهشة وتسعى للكشف عن لغز الأشياء فهي نظرة حرة وشبه صوفية.
اقرأ أيضا: جماليات المعاناة في فيلم «Close Up»
يرى «شيكلوفسكي» أن ما يميز سينما الشعر عن سينما النثر ليس الإيقاع وإنما غلبة الشكل على المضمون أو لنقل إن الشكل هو ما يخلق المضمون. فلنتأمل خاتمة فيلم كيارستمي «عبر أشجار الزيتون» حيث اختياراته التقنية هي التي تخلق كل المعنى. النهاية هي أقرب إلى نهايتين إحداهما واقعية والأخرى حالمة يفصل بينهما ظهور المخرج/الممثل الذي يؤدي دور المخرج، إذ يتسلل خلف أحد الأشجار دون أن يراه أحد البطلين مثل إله عطوف، ليدفع بالحكاية نحو خاتمتها السعيدة.
قصة الحب بين طاهرة وحسين (بطلي الفيلم) غير ممكنة نتيجة الأعراف والتقاليد الاجتماعية الفعالة. التتابع الأول قبل ظهور المخرج، لدينا تراكنج شوت، حيث تتحرك الكاميرا بموازاة الشخصيتين، الشخصيتان دائمًا بينهما مسافة داخل الكادر أو كل منهما في كادر منفصل (كأنه ليس ممكنًا للاثنين أن يجتمعا معًا). ثم يتغير الوضع بالكامل بعد ظهور المخرج، حيث توضع الكاميرا أعلى التبة وتتابع من مكانها، في لقطة بعيدة ودون قطع، حركة البطلين داخل بستان الزيتون مع بداية موسيقى تبدو حالمه متفائلة على شريط الصوت، حيث يصبحان قريبين جدًا من بعضهما، ومع استمرار ابتعادهما عن الكاميرا في قلب الطبيعة يتحولان إلى زهور بيضاء صغيرة بل في لحظة سحرية يبدوان ككيان واحد.
إنها نهاية تشبه الحلم أكثر من الواقع. هذه النهاية تذكر «كيارستمي» بجملة قالها كاتب السيناريو الفرنسي «جان كلود كارييه»: «ينبغي أن نستمر في الحلم حتى نغير الواقع ونجعله يماثل أحلامنا».