المؤامرة والأبوية والشعب المتهم: مفاتيح الخطاب السياسي في مصر
هكذا قال سقراط، ولكن يبدو أن الرئيس اليوم غيّر المعادلةـ وأصحبت «تكلم حتى نرانا»، في خطاب يبدو من لغته أنه اتهام من النظام للشعب، وتوضيح لرؤية الرئيس للشعب.
خرج علينا الرئيس السيسي في كلمة أعتقد أن الكثير كان في انتظارها، وإن اختلفت الأسباب وراء الانتظار، فمنهم من يحتاج مبررًا لموقف الدولة من قضية الجزيرتين والبعض الآخر ينتظر الأخطاء، وثالثهم يريد فقط أن يرى الرئيس يتحدث، وللآخرين أسبابهم الخاصة.أما من ناحية النظر العلمية فإن انتظار الخطاب كان لهدف واحد ليس إلا وهو التعرف على شكل وطريقة تعامل النظام الحالي مع الأزمات ومصارحة الشعب وإعطائه الحق في التعرف على ما يدور في الأروقة المغلقة.حقيقة الأمر، الخطاب كعادة خطابات الرئيس لم يحمل في جوفه القضية محل الانتظار فقط بل تطرق لقضايا أخرى طغت على حدثه في القضية الأساسية، ولعل هذا في علم تحليل الخطاب يعدّ قصورًا في الخطاب لبعده عن القضية المحددة والهدف المنوط منه، فتعددت القضايا لخطاب من المفترض أن تكون رسالته واحدة.
المحليات الإيجابية الوحيدة بالخطاب
الخطاب ليس سيئًا في المجمل بل إن هناك طرحًا إيجابيًّا شيئًا ما جاء على لسان الرئيس في خطابه للشباب متحدثًا عن الفساد وسبل محاربته وداعيًا الشباب بصورة مباشرة إلى محاربة الفساد من أدنى المستويات، وإن كان الامر يتطلب أيضًا أن يشير الرئيس إلى العمل على محاربة الفساد من أعلى لأسفل ليعمل هو والمجتمع بالتوازي لمحاربة الفساد.
الجزيرتان، القضية الأهم هي الأقل تناولًا
في تحليل الخطاب من الناحية الكمية يتم النظر إلى مقدار الحديث عن كل قضية لمعرفة مدى اهتمام الراسل بها، وفي خطاب الرئيس الأخير جاءت قضية الجزر كأقل القضايا وإن ارتبطت القضايا الأخرى بها.فتطرق الرئيس إلى قضية الجزر يحمل رسالة ضمنية تفيد استخفاف النظام بقراءات وثقافة الشعب وإن كانت في واقعها متدنية إلا أنها لا تصل إلى هذا المستوى الذي يقبل أن تكون الحجة في موقف الدولة مرتبطة بوثيقة عمرها لا يتعدى ثلاثين عامًا، في قضية تعود جذورها إلى العام 1840 وتحديدًا معاهدة لندن.كما أن الرئيس صادر حق الشعب في الحديث حول الجزر بالقول بأنه لا حديث آخر حول الجزر، في الوقت الذي أشار فيه إلى أن الشعب هو صاحب الأرض.
الوصاية والتكرم لغة سائدة
لم يخلُ الخطاب من عبارات نرجسية تفيد بأن الرئيس يتكرم على الشعب ويتحمل ما لا يتحمله أحد في سبيل الوطن، كما أنه يؤكد أيضًا في خطابه وصايته على الشعب بموجب الانتخابات واختياره بها. ولكن ما يتطرق الرئيس له في تلك النقطة، أنه تجاهل حق المرؤوس في محاسبة الرئيس، مشيرًا إلى أن حسابه سيكون يوم القيامة أمام الله، تلك النقطة أيضًا تشير إلى لعب النظام على البعد الديني لكسب مؤيدين والتصدي للمعارضين وهذا ما جاء في قوله « إنتم أمّنتوني على البلد دي ليوم القيامة، وكل مواطن مصري هتحاسب عليه».من ناحية أخرى يؤكد الرئيس أن العلاقة ما بينه وما بين المعارضة علاقة عداء والتي من المفترض أن تكون علاقة بناء لا علاقة عداء، ولكنه يوجه رسالة إلى المعارضين بأنه يتكرم عليهم ويتغاضى عن الإساءات من قبلهم بقوله « هنستحمكلو الـ ـ4 سنين دول».
الرئيس يناقض نفسه
جملتان متناقضتان الأولى يقرّ الرئيس بأن الشعب هو صاحب الأرض، وفي الثانية يزيل الرئيس الحق من الشعب في الحديث عن أرضه والدفاع عنها أو على الأقل الرغبة في فهم ما يجري.من ناحية أخرى أوكل الرئيس المهمة للحديث باسم الشعب للبرلمان ولكن على ما يبدو أن خطابات الرئيس في معزل عن خطابات البرلمان. فمنذ أيام خرج علينا رئيس البرلمان بقوله: «وقت الشدة مفيش فصل بين السلطات»، الأمر الذي يزيل حق تمثيل الشعب للبرلمان.
الشعب متهمًا
في عرف العلوم السياسية آخر ما يمكن أن تتوقعه هو أن يتهم النظام الشعب، فعادة ما يكون الاتهام من قبل الشعب للنظام،اليوم الرئيس أزال عنه وعن نظامه القصور في قضية الشاب الإيطالي ريجيني محملاً الشعب وطريقة تداولة للقضية المسئولية الكاملة وراء ما آلت إليه القضية.
الرئيس تغيب عنه المعلومات
من المفترض أن يكون الرئيس بدراية كاملة بكل ما يحدث في الدولة داخليًّا أو تكون الدولة طرفًا فيه خارجيًّا، ولكن في علاقة الدولة بإيطاليا يبدو أن الرئيس نسي أو تناسى أن الطرف الإيطالي قرر تجميد المباحثات مع السلطات المصرية في قضية مقتل ريجيني لغياب الكفاءة من الجانب المصري في إدارة الأزمة، كما أنه أيضًا يبدو وأنه تناسى أن إيطاليا قامت باستدعاء السفير.
السخرية من المعارضة السيبرانية
اهتمام الرئيس بالفضاء الإلكتروني وما يقال في مواقع التواصل الاجتماعي من المفترض أن يكون أمرًا صحيًّا ويستحق الإشادة، ولكن التناول بالصيغة التي جاء بها أمر مثير للانتقاد و لابدّ من الوقوف عنده.بداية تنبع أهمية الفضاء الإلكتروني في كونه أصبح بما لا يدع مجالًا للشك عالمًا موازيًا يتنفس فيه المعارضون والمؤيدون ويبدون وجهة نظرهم. الشاهد الوحيد من التواصل الاجتماعي لدى النظام المصري تمثل في الادعاء بوجود كتائب إلكترونية من شأنها الإساءة للنظام والافتراء والكذب عليه.ربما يكون الرئيس محقًّا شيئًا ما في ذلك، ولكن ما أخطأ فيه الرئيس هو وصم كل من يعارض النظام على مواقع التواصل بأنه ضد الدولة ولا يعمل في صالحها.
«عاشور» مرسي و«ميكروباصات» السيسي
الكثير سخر من مقولات الرئيس المعزول محمد مرسي من قبل حول أزمة الكهرباء، اليوم لا تقل مقولة الرئيس السيسي كارثية عن مقولة مرسي، حيث رأى الرئيس أن هناك مجموعة تعمل في المواصلات العامة على مناهضة نجاحات الرئيس والنظام القائمة، وما تشير إليه تلك الجملة هو أنه هناك نوع من أنواع السخرية بالمعارضين.
الحديث عن الواجب مع تجاهل الحق
العلاقة بين الفرد والوطن علاقة في غاية الحساسية، كلٌّ منهما عليه واجبات وله حقوق، ولكن في العرف قبل المطالبة بالواجب لابد وأن يؤخذ الحق.النظام المصري في كل خطابات عكس المعادلة، داعيًا الشعب المصري في كل مرة إلى القيام بواجبه نحو الوطن معلّلًا ذلك بالفترات الصعبة التي تعيشها البلاد.
بعبع الإرهاب الشماعة الدائمة
نظرية المؤمراة تسيطر على النظام
لم يدع الرئيس السيسي خطابًا أو فرصة يلقي فيها كلمة للشعب المصري دون الحديث حول محورين أسياسيّين هما أهل الشر التي كررت في أكثر من خطاب من قبل كخطابه فترة ترشيحة للرئاسة مايو 2014، وخطابه في مايو 2015 خلال ندوة تثقيفية للقوات المسلحة حيث قال: «مش عايز أقول كل حاجة بالتفصيل وبقول الأرقام بشكل سريع علشان أهل الشر الموجودين».إلى جانب هذا دائمًا ما يضع الرئيس في مقابل حديثه عن أهل الشر، جملًا تتحدث عن إنجازات النظام منذ بدايته إلى لحظة إلقاء الخطاب، مؤكدًا إلى أن عدم الشعور بوجوده يتمثل في قوى الشر.ومن ذلك يتجلى بوضوح أن النظام تسيطر عليه بصورة كاملة نظرية المؤامرة، ويدعو الشعب للتغاضي عن السلبيات التي يظهرها المعارضون بحجة أنهم ضد الدولة.
شعبية النظام تتراجع
هكذا خاطب الرئيس علماء الاجتماع، في جملة تختصر رؤية النظام للشعب بكونه منعدم الثقة. ولعل الإشارة إلى مثل هذه النقطة تعبّر ضمنيًّا عن أن النظام بدأ يشعر بفقدان الثقة فيه من قبل الشعب المصري؛ وعليه حاول أن يعمّم القضية بدلًا من أن يكون الأمر متعلقًا به فقط.