محنة التيار الليبرالي العربي بين التشرذم والاغتراب
في أي مجتمع تعتبر قضايا حقوق الإنسان، وحرياته الأساسية، من أبجديات أي فكر ليبرالي، كما تعتبر هذه القضايا أساس أي نهوض في مسار التحول الليبرالي في أي مجتمع. وكما يقول الدكتور «محمد تمالدو» رئيس شبكة الليبراليين العرب:
للأسف الظاهرة الليبرالية في عالمنا العربي عانت منذ نشأتها اغتراباً وأزمة توطين واندماج في ثقافتنا العربية، يرجع ذلك للنظر إليها باعتبارها أحد منتوجات الفكر الأوروبي، في مرحلة التطور الرأسمالي في زمن النهضة الصناعية والفكرية الأوروبية، ويقول في ذلك الدكتور «محمد صالح المسفر» في دراسة بعنوان «الليبرالية بين العروبة والتبعية: مصر نموذجاً»:
هل لدينا تيار ليبرالي العربي حقيقي؟
أشار الدكتور «أسامة الغزالي حرب»، في كتابه «القوى الليبرالية غير الحزبية في العالم العربي»، إلى أنه بصفة عامة لا يوجد فكر ليبرالي عربي متكامل وواضح المعالم.
وفي ذلك يقول الدكتور «رؤوف عباس» في مقال بمجلة الهلال نُشر عام 2003 بعنوان «النظام الليبرالي هل عرفته مصر»:
التشرذم هو السمة الرئيسية
تقول الدكتورة «ناهد عز الدين» في دراسة بعنوان «التيار الليبرالي العربي وحقوق الإنسان: رؤى ومواقف وممارسات»:
إن التيار الليبرالي العربي ما زال تياراً نخبوياً هامشياً محدود التأثير والنفوذ، خاصةً إذا تمت مقارنته بتيارات الإسلام السياسي، تطارده «سُبة العمالة» للغرب، ويتفق في ذلك الدكتور «فيصل جلول» حين قال:
إن التيار الليبرالي العربي تيار ضعيف التمثيل والحضور السياسي، والأقرب إلى التصور الغربي لمستقبل الديمقراطية في الوطن العربي، هذا القرب يُفسر محدودية تمثيل هذا التيار باعتبار أن الغرب يحتفظ بسمعة سيئة لدى العرب، بسبب مواقفه المناهضة لقضاياهم منذ أكثر من نصف قرن مضى. [1]
هل الليبرالية ضد الدين؟
تجتهد الكثير من الجماعات الإسلامية في جعل الليبرالية مرادفة لـ «الإلحاد»، رغم أن الليبرالية ما هي إلا مرادفة للحرية وتحرير الإنسان وتمكينه من التمتع بحقوقه الطبيعية، ومنها حرية أن يعتنق الدين الذي يراه دون ضغط أو إكراه من أحد.
وللأسف توجد فجوة كبيرة جداً تفصل بين الفكرة الليبرالية باعتبارها ضرورة أساسية لحدوث أي نهوض عربي وبين الجماهير العربية ذات الهوى الأصولي، خاصة مع استمرار وجود تلك العلاقة الجدلية بين الليبرالية باعتبارها ثقافة وافدة، والعروبة بوصفها ثقافة أصيلة، لذلك أرى أن الخروج من هذا التكلس لن يكون إلا بسيادة العقلانية، فلن تتحقق أي تنمية في الفكر العربي المعاصر إلا بالعقلنة وطرح كل القضايا طرحاً عقلياً، حينئذ ستجد الفكرة الليبرالية التربة الخصبة لرعايتها.
وهنا يأتي سؤال جديد: رغم التحرر الاقتصادي، لماذا لم نتحرر سياسياً، ولم تشهد مجتمعاتنا حداثتها بعد؟
إن هذه الاختلالات من وجهة نظر «آلان روسيون» انعكست على عدم الاتساق والتناقض الذي شاب العلاقة بين التحرير الاقتصادي والتحرير السياسي، والتي تعد شرطاً لظهور المجتمع المدني وتبلور «الديموقراطية». حيث إن ما شهدته خبرة أغلب الدول العربية، هو وجود إشكاليات كبيرة أحاطت بالعلاقة بين العمليتين سواء من ناحية الترتيب، أو التدرج الهيراركي، فالفرضية القائلة بأن التحرير الاقتصادي يفضي ويقود إلى التحرير السياسي أو العكس، لم تتحقق بنفس تلك السلاسة المنطقية كنتيجة أو ثمرة طبيعية لعملية التنمية السياسية، وهو ما يرجع حسبما ذهب «ليونارد بايندر» إلى «غياب المقومات أو انتفاء الشروط المسبقة اللازم توافرها لحدوث هذه المعادلة على هذا النحو، وهي الشروط الثقافية والاجتماعية».
بعبارة أخرى، فإن الليبرالية الاقتصادية لم تواكبها أو تتزامن معها أو تصاحبها ليبرالية سياسية، وسياسات تحول في المضمار الاقتصادي، علاوة على كونها عانت من اختلالات داخلية، وعدم مصداقية في تطبيقها، لذلك لم تؤتِ ثمارها المرجوة على الصعيد السياسي «ديموقراطياً»؛ فالأوضاع المجتمعية والثقافية بقيت في معظم جوانبها كما هي فلم ينلها تغيير، وغلبت عليها ملامح الثبات والجمود، بل الارتداد والرجوع إلى الخلف.
ولم تتبلور أو تَبرُز لا على مستوى المجتمع ولا على مستوى الثقافة أية قوى أو تيارات ليبرالية تأخذ على عاتقها إنجاز المهمة بكافة مراحلها بدءاً من تبني الفكر الليبرالي، ومروراً بصياغة رؤية وأجندة ذات أسس ليبرالية، وانتهاءً بطرح مطالب ليبرالية والدفاع عنها بالتصدي لما تجابهه أو تصطدم به من تحديات ومعوقات.
من ذلك نخلص إلى أنه لكي تتحول مجتمعاتنا العربية إلى الليبرالية الحقيقية لا بد من توافر الشروط الضرورية لحدوثها، ويأتي في مقدمتها النضج الفكري والثقافي ونضج ووعي الجماهير، لأنها من سيوفر الأرضية المجتمعية التي ستلعب دور الركيزة الأساسية للفكرة الليبرالية والداعم لها في معظم أنحاء العالم العربي، ولا بد من استعداد من يزعمون تبني الليبرالية للنضال وتقديم التضحيات من أجلها، ولكن يبقى السؤال: هل لدينا منْ هم مستعدون للتضحية؟
- فيصل جلول، “الخيار الديمقراطي في الوطن العربي: مقاربة أولية”، مجلة الديمقراطية، العدد 8، فبراير 2002، ص 147.