أرجوك لا تقرأ هذا المقال
إن هذه الأسئلة هي التي تنتخب قُراء كل نصٍ بشكلٍ تلقائي. تنتخب من صاغ أسئلة مشابهة، بشكلٍ أو بآخر؛ ويحاول جاهدًا صياغة إجاباتها. لذا؛ فلا يمكن أن يتلقى القارئ إجابة من نصٍّ لا يتعامل مع أسئلته، أو نصٍ يسألُ أسئلة غير ذات موضوع بالنسبة له. لا يُمكن أن يتلقى إنسان إجابات نصٍّ ما، إن كانت تساؤلات هذا النص لا تؤرِّقُه.
قد يملك القارئ أدوات قراءة النص وتفكيكه، لكن أسئلة الكاتب لا تشغله، ومن ثم يعمى عن الإجابات التي يطرحها النص، بل وقد يبدو له نصًا هامشيًا لا إضافة فيه. وقد يفتقد القارئ لأدوات قراءة النص وتفكيكه، لكن أسئلة الكاتب تشغله، وإن كان لا يُحسن صياغتها ولا الوقوف على تفاصيلها في نفسه.
ومثل هذا القارئ يُصاب بخيبة أمل كبيرة ليس لعجزه عن القراءة فحسب، بل لعجزه عن وصل الإجابات المركَّبة بأسئلته المبتورة وغير الناضجة. وإذا كانت إشكاليّة القارئ الأول تتعلَّق أصلًا باهتماماته وطبيعة منظوره (وتحيُّزاته)، وعمق فهمه للقضايا موضوع النص، إلا أن إشكاليّة القارئ الثاني تتراوح بين الكسل المعرفي والعجز اللغوي.
فهم أسلوب الكاتب
إن المعطيات التي تُشكِّل لغة النص حزمة مترابطة. وإذا أمكن وصف أسلوب كاتب ما بالسهولة، أو وصفه بالتعقيد؛ فهذه التوصيفات، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير؛ ليست شيئًا نهائيًا مُطلقًا قد تنعقد عليه اليد، بل هي توصيفات نسبيّة تتحكّم فيها المعطيات التي ذكرنا بعضها آنفا.
ولذا؛ يُمكن وصف أسلوب كاتب واحد بـ«السهولة» في بعض ما يكتُب، أو بـ«التعقيد” في البعض اﻵخر من كتاباته. أما الحالات التي تصعُب فيها نصوص الكاتب كليًا على قارئ ما؛ فذلك مرجعه لعدم تأهُّله، معرفيًا ولغويًا؛ للتعامُل مع الموضوعات التي يطرحها ذلك الكاتب.
إذ لكل كاتبٍ قارىء مُفترض، يملك أدوات قراءة نصوصه وتؤرقه أسئلة مُشابهة؛ ولا يعدم الكاتب قارئًا واحدًا يُحسن التفاعُل مع ما يكتُب. وفي ذلك كل الكفاية لأي كاتبٍ يحترم نفسه، ويجتهد بجديّة وإخلاص في بلورة أفكاره وتجسيدها في حياته قبل تجسيدها في نصوصه.
وليست كل الكتابة الإنسانيّة من هذا النوع العصيّ؛ الذي يعتصر فيه الكاتب فكره وعمره ليُضيف للإنسانية بُعدًا جديدًا في خارطة إدراكها للظواهر. فبعضها يُبذل فيه جهدٌ بحثيّ متوسَّط كمّي في جوهره، باجتراره مقولات السابقين؛ وليس جهدًا توليديًا نوعيًا. أما أكثرُها فسطحيٌ ركيك، خفيف الوزن والقيمة؛ مثل المقالات اليوميّة والأسبوعيّة لكبار الكتاب، أو الأشعار العاميّة، أو سيناريوهات الأفلام الجماهيرية، التي تستعمر خيال المراهقين والعوام وتُشكِّل لغتهم؛ أو الروايات الأكثر مبيعًا، أو الأغاني الاستهلاكيّة المقزِّزَة، التي يزدحم بها وجدان الجيل الحالي.
إنها كتابةٌ ميّتة لا تعيش لأكثر من ساعات، ولا تحفُر أثرًا في النفس أو تُشكِّل وعيًا حقيقيًا. مجرَّد كتابة للارتزاق (للمزيد حول أنواع الكتابة؛ راجع مقدمة كتابي الصادر مؤخرًا: أفكار خارج القفص). إن الكتابة من ذلك النوع العصيّ، الذي يعتصر الكاتب؛ يلزمها جهدٌ جهيد، فهي ليست عمل الأصابع فحسب كما يظُن بعض السُذج، بل هي عمل الكينونة الإنسانيّة جملة؛ كما ذهب المصلح البروتستنتي الشهير «مارتن لوثر».
ماذا عن القراءة؟
وكما تتطلَّب الكتابة جهدًا مُنهكًا أشبه بجهد الحُبلى في وضع طفلها وإخراجه للحياة، كذا يلزم للقراءة جهدٌ مماثل، لسبر غور النصّ المدوّن، ومُكابدته بصدق. إذ لا يمكن اختزال أفكارٍ تكونت في مخاض بحثٍ طويل، وخلال تجارب حياتيّة عريضة؛ في بضع عباراتٍ ضحلة، بدون أن يؤدي ذلك لتسطيح المحتوى واختزال الخبرة وإساءة الفهم، ومن ثم تضييع عِبرة التجربة.
وإذا كان كل إنسان يقرأ بخارطةٍ إدراكية ذاتيّة، وبمعجم لغوي خاص، واحتياجات شخصيّة وأسئلة مُحددة، وداخل تقليد «سوسيو – معرفي» معيّن. وإذا كانت هذه العوامل مجتمعة تؤثر في فهمه وقراءته.
فلا يمكن بالقطع تسطيح أو تبسيط كل الأفكار لتُلائم كل المتلقين، لأن أيّة أفكار هي في نهاية الأمر موجهة لشريحةٍ مُعيّنة، وبعيدة من ثم كل البُعد عن اهتمام آخرين. لذا؛ فلن ينال منها أحدٌ شيئًا بتسطيحها، ولن ينالها سوى الابتذال.
بل إن هدف الكاتب المعاصِر ووظيفته أصلًا هي أن يصدم القارئ، ويزلزله، ويعلمه، لا أن يربت على سخافاته الضحلة ومُسلّماته الساذجة مؤكدًا إياها؛ وإلا عُدت الكتابة فعلًا مخاطيًا لا أهمية له. إن هدف الكّتاب من هذا النوع هو رفع مستوى القارئ، معرفيًا ولغويًا وإدراكيًا؛ لا الانحدار لمستواه.
وثمة عامل مهم، تغفل عنه الغالبية العظمى؛ وهو الحركة الإنسانيّة للكاتب والمفكِر في الوجود، باعتبارها الشارح الأدق للنص المدوّن. ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ فقد كان فعله ﷺ هو الشارح الأتمّ للوحي الإلهي المنزَّل والتجسيد العملي لأحكامه.
وبرغم الفارق الجليّ بين النص الإلهي المُعجِز والنصوص البشريّة المحدودة والقاصرة، وبين تمثُّل النبيّ المعصوم للنص الإلهي وتجسيد البشر المنقوص لنصوصهم المدوّنة على هامش الوحي؛ إلا أن النص الإلهي يظل هو المثل الأعلى لكل مسلم يكتُب نصًا يرجو له الفعاليّة في عالم الشهود، وهي الفعاليّة التي لا تتحقق إلا من من خلال عُنصرين قُرآنيين.
أولهما؛ هو أن يُحيل النصّ البشري للوحي الإلهي ويُعيد القاريء إليه. وثانيهما؛ هو أن يُجسِّد خارطة حركة كاتبه في مكابدته لنفسه للاستقامة على مراد الله؛ ابتداءً من حركة وجدانه انفعالًا، وانتهاءً بتعبيره عمّا ذاق بحركته الماديّة في عالم الشهود.
لهذا؛ كان الاطلاع على السير والتراجم غالبًا أكثر أهميّة وأولوية من كتابات أهل العلم والمفكّرين، فهي ليست محض مفاتيح مُجرَّدة للشخصية؛ بل مفاتيح لفهم كيفية تشكُّل الفكر والمنهج في أتون حياة كل شخصيّة وسياقها الاجتماعي وبوتقتها الحضارية.
ويلعب الأدب الروائيّ، إلى حدٍ ما؛ دورًا مُماثلًا لذلك الذي تلعبه السير والتراجم، فهو يفتح الباب لفهم أكثر عُمقًا وتركيبًا للوجود والمجتمع شرط تعبيره عن تجربة صادقة، بلغة غير مباشرة؛ فمجال عمله هو الوجدان واللاوعي، وأداته هي الصور المجازية.
وإذا كان الوحي المعصوم هو المثل الأعلى للكاتب المسلم، في بيانه وفعاليّته التاريخية؛ فمن المسلَّم به أنه ليس بمقدور كل أحدٍ سبر غور نصوص الوحي، حتى المحكم منها؛ ولا تزول الفروق الفردية أبدًا عند الإبحار في أعماقه. فليس الفصيح كالأعجمي، ولا المكابِد كصاحِب النظر العقلي/ الأداتي المجرَّد، ولا المجتهد كالمقلِّد في ذلك، ناهيك عن عوام المقلدين؛ وليس الماهر بالقرآن كالذي يقرأ ويتتعتَع، ولا من يتلو ليتمثَّل كالذي يتغنّى بآياته بغير فهمٍ ولا وعي.
وشتّان بين من يُنصت للقرآن -ثقيلًا- كأنه أنزل عليه، وبين من يستمع إليه كأنه خلفيّة موسيقية أو موسيقى تصويرية تُزاحمها في وجدانه حوادث اليوم والليلة. إن الكتابة بالأصل فعلُ ذاتٍ مُتضِّخمة ترى في منظورها فرادة تستحق أن يتوقَّف العالم حيالها، ليُنصت ويتأمَّل وينفعل.
وكذا أصل القراءة؛ فهي إعادة تأليفٍ للنص المدوَّن، بتفكيكه وإعادة تركيبه وفق الخارطة الإدراكية للقاريء، وهي عملية جد شاقة وشديدة الإمتاع في الوقت نفسه. لكن أكثر الكاتبين اليوم أقرب للهوام، إذ يكتبون لحثالات العوام؛ فلا رؤية ولا خيال ولا أفق، ولا حتى صدق مُنطلقٍ أو حرارة تجربة.
وما كتاباتهم الغثة سوى تلبية لشغف القاريء المحدث بـ«مستوى الطالب المتوسط» في كل شيء، ليس كسلًا عقليًا فحسب، بل خمولًا روحيًا وفساد ذائقة، وتسلط لعقلية التكنوقراط الجوفاء، التي لا تستطيع التعامُل إلا مع النصوص الهندسية الإجرائية التنفيذية، مكشوفة البنية مُسطحتها؛ نصوص ملساء بغير فجوات ولا نتوءات ولا ظلال ولا كوامن.
وطبيعي أن القاريء المسطَّح، الذي درج على «مستوى الطالب المتوسِّط» في كل شيء، ولم تتجاوز قراءته الملخَّصات التي كان يقيئها في الاختبارات المدرسية والجامعية؛ طبيعي أن يجد مثل هذا القاريء صعوبة بالغة في قراءة نصٍ مُركَّب، خصوصًا إن كانت أسئلة النص نفسها لا تشغله. وحتى حين يجاهد بعض هؤلاء القراء في محاولة قراءة نص من النصوص المركَّبة، بحكم الضرورة الحزبية أو لاعتبارات مهنية ووظيفية وأكاديمية؛ فإنه يفشل فشلًا ذريعًا في سبر غورها، لانعدام صبره وخياله وفقر أدواته المعرفية واللغوية.
من يتلقى النصوص؟
كل نصٍ مُركَّب يختار مُتلقّيه بشكلٍ انتقائي دقيق؛ يختار المهموم باﻷمر الذي يملِكُ أدواته، ولديه أسئلة حقيقية تؤرِّقه. إن هذا النوع من النصوص يُخاطب كينونة الإنسان في جُملتها، ليُفتّق المعارف الفطرية المغروسة في الوجدان منذ الأزل، لا ليُضيف للإنسان معارِفَ «جديدة».
فحقيقة الأمر أنه لا يُوجد في عالم الإنسان معارف جديدة كُل الجدّة، وإنما هو استكشافٌ لكوامِن الفطرة، لتختلف استجابة الفطرة من واحدٍ ﻵخر؛ فإما فِطرة حيّة تستنفرها المثيرات الحياتيّة والسير في الأرض، أو فطرة خاملة لا يستنهِض بلادتها شيء. فإن لم يُثِر النصٌ التركيبي لديك شيئًا من الحيرة ويدفعك للتأمُّل وإعمال الفكر؛ فقد ضرَّك.
إذ فتح لك أبواب معرفةٍ لا تحتاجها ولا تلزمك في صيرورتك، ولست من ثم مؤهلًا لاستقبالها ناهيك عن الإفادة منها. إن النص التركيبي يحوي قدرًا من اليقين المشترك بينك وبين الكاتب، ولكنه لا يحوي كل اليقين، بل يجب أن ينطلق القارئ من الأرضية المشتركة بينه وبين الكاتب لمحاولة استكمال نقص النص في نفسه، بتفكيكه وإعادة تركيبه على هيئة تحوي قدرًا أكبر من اليقين، وتكون بطبيعة الحال أكثر تفسيرية.
لذا؛ فالنص البشري المركَّب، من هذا المنظور؛ ليس يقينًا مُطلقًا ولا ينبغي له أن يكون، بسبب تاريخيته وقصوره البشريين؛ لكنه قد يكون بابًا من أبواب اليقين إذا تحقق فيه وبه العنصرين القرآنيين الذين أسلفناهما. وبعبارةٍ أخرى؛ فإن النص البشري التركيبي ليس تجاوزًا في حد ذاته، وإن عبَّر عن تجربة كاتبه في التجاوز؛ لكنه أداة للتجاوز قد يُحسن القاريء استخدامها إن وافقت تجربته.
إن القراءة فعلٌ مُكمِّلٌ لعمليّة الكتابة. وإذا كان معنى النص المركَّب يبدأ عند كاتبه، فإنه ينتهي عند قارئه؛ لتتسع مساحة التأويل باتساع المسافة الزمكانية بين القاريء وكاتبه، وبتزايُد تركيب النص وصدقه. إذ كلما اقترب النص من صدق التعبير عن مكابدة الكاتب الإنسانية والاجتماعيّة، وتزايدت من ثم تركيبيّته وتعددت طبقاته؛ اتسع مجاله الدلالي وانفسحت تأويلاته حتى التناقُض في كثيرٍ من الأحيان.
فوحدها النصوص الثريّة يحتمل تأويلها وجوهًا عدّة، وهو مما تكتسبته من خصائص الوحي الإلهي؛ ووحدها النصوص التافهة، التي تُعبِّر عن كتابٍ أكثر تفاهة؛ هي التي لا يحتمل تأويلها إلا وجهًا واحدًا، ببنيتها المسطّحة ولغتها الأقرب للمعادلات الرياضية، واختزاليّتها لإشكاليات الوجود والإنسان.
إن القراءة والكتابة، من هذا المنظور؛ ليسا سكونًا إنسانيًا ولا مدعاة للراحة والدعة، بل هُما جزءٌ من الحركة الوجوديّة الموّارة. هذا القلق المقدَّس، والطرق اللحوح للأبواب، والهدم الغاضب للأصنام، والبناء المتأني للعقل والوجدان. هذا كُله حركة من صميم الحركة، وعبادة لله من صميم العبادة؛ حركة يمور بها جوانيّ الإنسان ليدفعه في هذا الوجود دفعًا ويقوِّم برانيه، وِجهةً وسلوكًا.
أما الكتابة التي تُنحّي هذا القلق الوجودي، وتتصاغر عن الأسئلة الكُبرى لتلغ حمأة السرديّات الصُغرى، ويخلُد بها الإنسان إلى الأرض، سواء لأنها منحته إجاباتٍ جاهزة أو صرفته أصلًا عن التساؤل؛ فهي كتابةٌ محكومٌ عليها بالفناء، وسيحمل مرتكبوها أوزارًا على أوزارهم.