اللعب بالنار: المأزق التركي بين روسيا وأوكرانيا
بحكم موقعها الجغرافي ودورها في المنطقة، تقع تركيا على حافة ساحة المواجهة المشتعلة في شمال البحر الأسود بين اثنين من شركائها المهمين، لذلك عمل الأتراك بنشاط على إيجاد حل دبلوماسي لوقف صراع قد يكون له تداعيات سلبية على مصالحها مع كلا البلدين.
كان الموقف الرسمي لتركيا حاسمًا منذ بداية الاجتياح الروسي لأوكرانيا، إذ أكدت على دعم موقف الأخيرة وطالبت مرارًا بوقف الغزو، لكنها عمليًا تصرفت بحذر شديد خوفًا من التورط في هذه الأزمة بشكل أو بآخر وحاولت انتهاج موقف يجعلها تربح ولا تخسر؛ إذ سعت إلى الاستفادة من كونها إحدى الدول القليلة التي تربطها علاقات إستراتيجية مع كلا البلدين وبذلت جهودًا للوساطة بينهما.
فحجم التجارة السنوية بين أنقرة وكل من موسكو وكييف يبلغ 34.7 مليار دولار، و 7.4 مليار دولار على التوالي وفقًا لمعهد الإحصاء التركي، وتعتمد على روسيا في توفير معظم احتياجاتها من الغاز الطبيعي والبترول والفحم والقمح ودوار الشمس وكذلك تستفيد من السياحة الروسية التي جلبت لها 24.5 مليار دولار العام الماضي فقط، وحتى الآن لم تتأثر إمدادات الغاز الروسي إلى تركيا بقفزة الأسعار العالمية، ولم تتراجع كمياتها على عكس الحال في خط نورد ستريم 1 على سبيل المثال.
ورغم انتقاد تركيا للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتقاعسهم عن نجدة أوكرانيا، لكنها كانت الدولة الوحيدة التي امتنعت عن التصويت على تعليق عضوية موسكو في مجلس أوروبا بذريعة إبقاء قناة حوار مفتوحة معها.
وأجرى وزيرا الخارجية والدفاع التركيين اتصالات هاتفية لبحث الأزمة مع نظرائهم الأمريكيين والأوكرانيين، وشكر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أنقرة على ما وصفه بالدعم «القوي والصريح» في الدفاع عن السيادة الأوكرانية، وفي نفس الوقت تواصل مولود جاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، مع نظيره الروسي، سيرجي لافروف، الذي أطلعه على تفاصيل العملية العسكرية وأبدى استعداد بلاده للتفاعل مع جميع القوى لتسوية الأوضاع بسرعة.
وكان أردوغان دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا لمناقشة سبل حل الأزمة، وبحث الأوضاع هاتفيًا مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وطمأنه بأنه يعمل جاهدًا على التوصل إلى هدنة سريعة.
وتعد العلاقة بين موسكو وأنقرة شديدة التعقيد، فتركيا أكثر دولة تتصادم مع روسيا في جبهات متعددة في آسيا وأوروبا وأفريقيا لكنها أيضًا من أكثر الدول تفاهمًا معها، وبالنسبة لأوكرانيا فقد عمل الأتراك على تسليحها خلال الفترة الماضية خاصة بالطائرات المسيرة، وفي 3 فبراير/شباط، زار الرئيس التركي أردوغان كييف وأبرم اتفاقًا لتشييد خط إنتاج لتلك الطائرات هناك، مما ساهم في زيادة توتير العلاقات مع موسكو.
وكانت القوات المسلحة الأوكرانية نشرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مقطع فيديو يظهر مسيرة تركية تستهدف مواقع عسكرية شرق البلاد تابعة لقوات مدعومة من روسيا، مما دعا الأخيرة لاتهام أنقرة بأن أسلحتها تهدد أمن المنطقة.
وقد عرض أردوغان استضافة عقد قمة ثلاثية تضم الرئيس الأوكراني، فولوديمري زيلينسكي، إلى جانب نظيره الروسي، فلاديمير بوتين في أنقرة أو إسطنبول، ورحب الأول بالعرض في محاولة يائسة لعرقلة الغزو، لكن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف (وهو بالمناسبة متخصص في الشؤون التركية) رفض العرض في البداية، ولاحقًا قال إن وساطة أنقرة قد تكون مفيدة إذا أدت إلى إنقاذ اتفاقية مينسك (رغم أن موسكو لم تلتزم بها) ثم تجاهل الروس الأمر وفضلوا شن الحرب.
أزمة المضائق
يعد تحكم أنقرة في مضيقي البوسفور والدردنيل الواصلين بين البحرين الأسود والمتوسط من أهمّ الأوراق في حوزتها للتأثير على مجرى الصراع بين روسيا وأوكرانيا المطلتين على البحر الأسود، وكان أردوغان تعهد بـ «فعل ما هو ضروري» كعضو في حلف شمال الأطلسي «الناتو» إذا غزت روسيا أوكرانيا، لكنه لم يوضح ما هو الضروري منذ بدأ الغزو.
وتعرضت سفينة تركية لقنبلة قرب الساحل الجنوبي الغربي لأوكرانيا دون وقوع إصابات، عندما انطلقت الحرب الخميس الماضي.
وقال وزير الخارجية التركي، جاويش أوغلو، الجمعة إن كييف قدمت لبلاده طلبًا رسميًا لإغلاق المضائق أمام الروس، مبينًا أن أحكام معاهدة مونترو (التي تنظم إدارة المضائق) واضحة ودقيقة للغاية، وتنص على حق تركيا في وقف مرور السفن الحربية حتى لو لم تكن طرفًا في حرب، ولكن الاتفاقية تنص أيضًا على أنه إذا كان هناك طلب بعودة سفن الدول المتحاربة إلى قواعدها فيجب السماح بذلك، مبينًا أن الخبراء الأتراك يدرسون الموقف، وأنه إذا اعتبرت أنقرة أن هناك حالة حرب بشكل قانوني سيتم حظر مرور السفن الحربية طبقًا للمواد 19 و 20 و 21 من الاتفاقية.
وعبر الرئيس الأوكراني، السبت، في ثالث أيام الغزو عن شكره للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على حظر مرور السفن الروسية إلى البحر الأسود وتقديم الدعم العسكري والإنساني المطلوب، مبينًا أن شعبه لن ينسى ذلك أبدًا، لكن أنقرة لم يصدر عنها ما يفيد ذلك حينها.
وقد وصفت تركيا الأحد، غزو روسيا لأوكرانيا بأنه «حرب»، في تحول في أسلوب خطابها يمهد الطريق لهذه الخطوة، وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في مقابلة مع محطة سي إن إن تورك التلفزيونية: «هذه ليست ضربتين جويتين الآن، الوضع في أوكرانيا حرب رسميًا.. سننفذ اتفاقية مونترو.. السفن التي تمر من المضيق للعودة إلى قواعدها يجب ألا تشارك في الحرب».
جدير بالذكر أن اتفاقية مونترو المبرمة عام 1936 أعطت لتركيا حق التحكم في مضيقي البسفور والدردنيل وألغت بنود معاهدة لوزان لعام 1923 التي نصت على تدويل المضائق، ووفقًا للمادة (21) من معاهدة مونترو يحق لأنقرة إغلاق المضائق إن اعتبرت نفسها مهددة بخطر حرب وشيكة.
وقررت تركيا الاثنين حظر مرور جميع السفن الحربية من عبور مضيقي البوسفور والدردنيل، وأكد جاويش أوغلو، أنه تم إخطار جميع الدول المعنية بهذا القرار، وحث وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، الثلاثاء، جميع الأطراف على الامتثال لـ«مونترو».
وتغامر أنقرة بإغضاب موسكو في هذا التوقيت الحساس ودفعها لاتخاذ إجراءات ضدها مثل فتح باب مناقشة اتفاقية مونترو أو حتى إطلاق مبادرات لإلغائها.
«بابنا مفتوح أمام إخواننا التتار»
بذلت تركيا اتصالات كبيرة خلال السنوات الماضية حول قضية تتار شبه جزيرة القرم الذين ينتمون إلى العرق التركي ويدينون بالإسلام، وتمثل قضية هذه الأقلية أحد أبرز أوجه التعاون بين أنقرة وكييف، وقد عارضت الأولى ضم روسيا لشبه الجزيرة عام 2014، مؤكّدة أيضًا على وحدة أراضي أوكرانيا وضرورة ضمان حقوق التتار رغم الضغوط الروسية المستمرة في هذا الصدد.
يذكر أن شبه جزيرة القرم كانت تابعة لتركيا العثمانية حتى عام 1774 عندما تنازلت عنها لصالح موسكو بموجب اتفاق كيتشوك كاينارجي الذي حول البحر الأسود من بحيرة عثمانية إلى منطقة تملك فيها موسكو موطئ قدم وكان ذلك بداية منح حق الإبحار للروس عبر المضايق التركية، ومدخلاً لكثير من الحروب والنزاعات بين الروس والعثمانيين.
وقد استقبلت ولاية أدرنة التركية، السبت، أول دفعة من النازحين الأوكرانيين، وقال وزير الخارجية التركي: «بابنا مفتوح أمام إخواننا من تتار القرم» متعهدًا بتقديم أي مساعدة لازمة لهذه الأقلية.
ويعد دعم تركيا أمرًا حاسمًا بالنسبة لحلف شمال الأطلسي في هذه الأزمة، لعدة أسباب أبرزها دورها المسيطر على المضائق البحرية مما قد يساهم في تقريب المسافات وطي الخلافات بين أنقرة من جهة وواشنطن وبروكسل من جهة أخرى، ويدعم موقفها أمام موسكو.